محب سمير
مولد الأنبا بيشوي 2021.

مولد الأنبا بيشوي: انتصر على الإرهاب وهزمه الوباء

منشور السبت 17 يوليو 2021

عام 1997، كانت زيارتي الأخيرة لمولد الأنبا بيشوي بقرية دير البرشا بالمنيا، قبل سفري وإقامتي في القاهرة، عقب فض المولد مباشرة. كنت وقتها طالبًا في الثانوية العامة أنهى لتوه امتحاناتها، وينتظر ظهور النتيجة بلا مبالاة، مراهق صعيدي.

كنت أعرف أني سأرسب في الثانوية لا محالة، بيد أنني لم يكن في بالي أبدًا ألا أحضر هذا المولد لمدة عشرين عاما تلت ذلك الحضور الأخير. حضرت موالد الحسين والسيدة زينب والسيد البدوي وغيرها، لكني لازلت أذكر أحب الموالد لطفولتي مولد الأنبا بيشوي، أو كما نطلق عليه هنا "طلعة الأنبا بيشوي"، لارتباطه بزيارة المدافن في قرية دير البرشا. في عام 2017 كنت عدت للإقامة في قريتي البرشا، بعد عشرين عامًا غربة في القاهرة، عدت بداية يوليو/ تموز، فكانت أول مكافأة لي هي حضور مولد الأنبا بيشوي في موعده المقدَّس منذ مئات السنين، بداية شهر يوليو، وحتى الليلة الكبيرة، وتذكار نياحة "كوكب البرية" و "حبيب المسيح" الأنبا بيشوي في الخامس عشر من الشهر الجاري.

تسارعت دقات قلبي والسيارة تقترب بي من مدخل منطقة الاحتفالات في دير البرشا، كنت أردِّد طوال الوقت كلمات الأوبريت الخالد "الليلة الكبيرة" بفرح طفولي، وبدأت الأسئلة تتردَّد داخل عقلي مع كل كوبليه،  هل "السويقة" لازالت موجودة؟

قرب جرب... نشن... وسطن إيدك وسطن. إضرب.

 

لعبة النيشان في مولد دير البرشا عام 2017. الصورة: محب سمير

ورينا القوة

ألعاب النيشان، التي كسبت يومًا فيها صورة ملونة لنجمتي المفضلة سعاد حسني، (يحميك يابني تبقى غالبني قرب خدلك حتة ملبن)، لعبة إلقاء العملات الفضية على المناضد المتراصة والممتلئة بالمنتجات المتنوعة، ولو استقرت عملتك على إحداها تكسبها، المراجيح وشوادر المقاهي التي كانت تعرض أفلام الفيديو زمان، وبعضها مخل للآداب العامة، ولعبة الأقوياء "ضرب المدفع".

 ورينا القوة يا ابني أنت وهو. مين عنده مروة وعاملي فتوة. يقدر بقدارة على زق الطارة ويفرقع بمبة؟

ألعاب القمار الشعبية، الرولت الشعبي بالكرات الملونة على رقعة خشبية دائرية يتوسطها حفرة، لتستقر بها كرة سعيد الحظ، ألعاب الزهر بعلبة الصلصة الصغيرة، والسنيورة فين، ألعاب الفاقدين من الشباب ومدمني القمار على مقابر الراحلين. تذكرت عربات الكشري المضيئة بالكلوبات ذات الطنين الخفيف، بائعي الحمص والفول، والخروب الذي لا يحبه في بيتنا سوى أبي وأختي الصغيرة. تفاصيل كثيرة تزاحمت في رأسي طوال الطريق القصير في الأساس بين البرشا والدير، وأخيرًا بدأت أنوار الألعاب والمراجيح تظهر من بعيد. وفتح عينك تاكل ملبن، فينك فينك تاكل ملبن، أوعى لجيبك لا العيب عيبك، تاكل ملبن. يا الله، كأني كنت هنا البارحة فقط، كل شيء كما كان، لم يزد سوى مظاهر التطور الطفيف الذي لحق بالمولد والمكان، ألعاب تدار بالكهرباء، وكشافات الكهرباء الضخمة، ومحولات الكهرباء في كل جانب من جنبات ثالث أهم مولد للمسيحيين في مصر من حيث عدد الزوار بسبعمائة ألف زائر كل عام، بعد مولد السيدة العذراء مريم بجبل درنكة بأسيوط، بمليوني زائر، ومولد مار جرجس بالرزيقات في الأقصر ، بمليون زائر.

لكن الاختلاف كان في أشياء أخرى خلفتها السنين والأحداث المتسارعة، فكان البابا تواضروس الثاني في ذلك العام، قرر منع الموالد المسيحية، بعد عدة تهديدات إرهابية باستهداف المسيحيين والأديرة في فترات الموالد، لاسيما مع عثور الأمن على قنبلتين في محيط مطرانية ملوي وأنصنا والأشمونين قبل مولد الأنبا بيشوي مباشرة.

كل ذلك لم يمنع المواطنين من الاحتفال، والحضور بكثافة في تحدٍ واضح وقتها للتهديدات الإرهابية، وكان من حسن حظي، أن يكون هذا العام هو الاحتفال بمرور ألف وستمائة سنة على نياحة (وفاة) الأنبا بيشوي، عام 417 ميلادية، وهو ما شهد احتفالًا كبيرًا وحضورًا كثيفًا من المواطنين لم يسبق له مثيل، مع تواجد أمني محدود، وقام أهالي القرية وشباب كشافة الدير بالمهام الأمنية لتأمين الدير ومحيطه، وزواره.

انتصرت الحياة والفرحة يومها على الإرهاب وتهديداته، لكن ما لم يقدر الإرهاب على فعله، قدر عليه الوباء اللعين، فكان هذا تقريبًا هو المولد الأخير بكل هذه التفاصيل والزخم، قبل أن يأتي وباء كورونا ويفض التجمعات الكبرى في مصر، ومن ضمنها الموالد المصرية الشهيرة.

بائع حمص في مولد الأنبا بيشوي 2017. الصورة: محب سمير

على استحياء

هذا العام جاء الاحتفال بمولد الأنبا بيشوي على استحياء، بعد أن منع إقامته العام الماضي وأغلقت دور العبادة أمام الزوار في المناسبات، ضمن الاجراءات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة المصرية لمحاربة تفشي وباء كورونا، وهذا العام سمح الأمن بفتح الدير لزيارة المواطنين، لكنه منع إقامة شوادر البائعين، ونصب المراجيح في مكانها الشهير كل عام، ما جعل أجواء الاحتفال صامتة وتكاد تكون معدومة، مع حضور عدد قليل جدًا من المسيحيين، من القرى المجاورة لدير البرشا، بعد أن كان يأتي للمولد زوار من أغلب مراكز وقرى محافظة المنيا وأسيوط، ومن القاهرة أيضًا، لأهميته الخاصة للزوار، إذ يقع وسط أكبر منطقة مقابر للمسيحيين في مصر الحديثة، بصحراء قرية دير البرشا، شرق نيل مدينة ملوي.

والمولد يعتبر المناسبة الأهم لكثير من المسيحيين هناك لزيارة موتاهم كل عام، عدد كبير كان يبيت بالجبانات التي كانت تنبض بالحياة ليل نهار، طوال خمسة عشر يومًا، وتتحول المقابر إلى بيوت يتعايش فيها الأحياء مع الأموات.

 

طفل إلى جوار صورة للأنبا بيشوي. الصورة: محب سمير 

كل ذلك إلى جانب التبرك من أحد أقدم أديرة مصر، وصاحبه الأنبا بيشوي، الذي قضى آخر سنوات عمره في جبل دير البرشا، في القرن الخامس الميلادي، وتوفي في ديره الصغير هنا، قبل نقل رفاته إلى ديره العامر بصحراء وادي النطرون في القرن التاسع الميلادي.

"حبيب المسيح"

القديس المصري الراهب الأنبا بيشوي، هو أحد أشهر رهبان مصر، وبحسب السنكسار، وهو الكتاب الذي يحوي سير قديسي الكنيسة، ولد في قرية شنشا بمحافظة القليوبية عام 320 ميلادية، ومن بين أشقائه الخمسة الأكبر منه، اختار الله الابن السادس والأصغر ليسلك حياة الرهبنة، حسب رؤية لوالدته، فانطلق في سن العشرين إلى برية شهيت ليتتلمذ على يد الأنبا بموا، وكان صديقه المقرَّب هو الأنبا يحنس.

وعندما وقع هجوم من البربر على أديرة برية شهيت عام 407 ميلادية، هرب الرهبان وتفرقوا في صحراء وجبال مصر المختلفة، فذهب  يحنس إلى جبل القزم ودير الأنبا أنطونيوس هناك، فيما جاء الراهب العجوز بيشوي إلى الهضبة الشرقية في منطقة دير البرشا، قرب أنصنا، وسكن إحدى المغارات، لمدة عشر سنوات، حتى توفي عن عمر سبعة وتسعون عامًا، في 15 يوليو من عام 417  ودُفن جثمانه في حصن السقار بالمنطقة، وبجواره الراهب القديس الأنبا بولا الطموهي، رفيق آخر سنوات عمره، وظل في موضعه، حتى القرن التاسع عشر، عندما قام الأنبا يوساب الأول بنقل رفات الأنبا بيشوي للدير المقام على اسمه في وادي النطرون ببرية شهيت.

واشتهر القديس بالعديد من الألقاب، منها حبيب المسيح، بسبب ظهور المسيح له أكثر من مرة، وتحادثهما كالأصدقاء، وتظهر أشهر أيقونة للقديس وهو يغسل قدمي المسيح، وتعود القصة المذكورة في السنكسار لطلب تلاميذه الرهبان منه أن يتوسط لهم ليروا المسيح مثله، وفي الصباح أخبر الراهب تلاميذه أن المسيح سيتجلى لهم أعلى الهضبة في المساء، فانطلقوا مسرعين لرؤية المسيح، وفي الطريق قابلوا راهبًا عجوزًا طلب منهم مساعدته للذهاب لرؤية المسيح، فتجاهله الرهبان الصغار، وأسرعوا في طريقهم، ولما مر الأنبا بيشوي على الراهب العجوز حمله على كتفه وسار به مسافة طويلة، وقام بغسل رجليه احترامًا لسنه، ليكتشف بعدها أنه يغسل قدمي المسيح، وعندما عاد الرهبان الصغار في الليل المتأخر ليعاتبوا الأنبا بيشوي لعدم تجلي المسيح لهم كما قال في الصباح، أخبرهم أنهم مروا عليه ورفضوه.

وأطلق عليه الأنبا بموا لقب المشرق المنير بسبب نقاوة قلبه، ويذكر أنه قام بدق وتد في سقف قلايته (مغارته) وربط به حبلًا طويلًا وربط فيه شعره حتى لا ينام وهو واقف يصلي، وتطلق عليه الكنيسة أيضًا كوكب البرية، والرجل الكامل، وفي المولد المقام بديره الأثري في دير البرشا، نعرفه بالهتاف الشهير "يا أنبا بيشوي يا مليح (جميل).. يا اللي اختارك المسيح".

 

رجل يزور موضع دفن أجساد بعض القديسين والرهبان بالدير. الصورة: محب سمير