في قصيدة "مقابلة خاصة مع ابن نوح" يستلهم أمل دنقل من التراث الديني قصة الابن العاق، المنبوذ، الذي عصى الأوامر ورفض أن يركب السفينة، ولكن يضعه في سردية مغايرة تمامًا تعتمد تثوير موقفه، فيضع لنا صورة مختلفة عن دوافع الابن الذي رفض النجاة من الطوفان.
يقول دنقل "جاءَ طوفان نوحْ/ ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينهْ.. بينما كُنتُ"، ثم يصل إلى ذروة الحدث فيختمها بقوله "حين قالَ "لا" للسفينة .. وأحب الوطن".
ومثل ابن نوح، يعد يهوذا الإسخريوطي واحدًا من هؤلاء المنبوذين التاريخيين، بل أكثرهم جدلًا وانتشارًا، سواء بين سرديات الأدباء في العصور المختلفة، أو حتى بين رواية الإنجيل الرسمية التي توصمه كخائن لسيده، أو رواية ما يعرف بإنجيل يهوذا الذي يؤمن الغنوصيون فيه بأن يهوذا بريء من تهمة الخيانة، وبأنه إنما قام بفعلته تلك لخدمة سيده المسيح، وأن ما تم من تسليم كان بالاتفاق، أو بطلب من يسوع نفسه لإتمام الخلاص.
وبين السرديتين، يحاول الروائي ماجد وهيب في عمله الأدبي الثالث، التعامل مع ذلك "المنبوذ"، ولكن من منطق أكثر إنسانية يعتمد التحليل النفسي لحياته بداية من مولده وحتى انتحاره، محاولًا اقتراح سردية مغايرة لذلك الشخص المثير للجدل.
الأرض الخصبة للدراما
ربما تصبح السرديات الجاهزة عمومًا مادة خصبة أو وعاء مناسب لمناقشة الأفكار، أكثر من كونها عرضًا متكررًا للقصة والحدث، وتحديدًا إذا كانت السردية نفسها تفتقر للمعلومات الكاملة واليقين فتمنح الكاتب مساحة أكبر في إعادة تخييله من زاوية مختلفة، فالإنجيل لم يذكر أي معلومات عن حياة يهوذا غير العابر منها، مثل أنه كان تلميذ المسيح ثم خانه وانتحر.
ولعل ذلك ما دفع كثير من الروائيين لمحاول الإجابة سرديًا عن السؤال الأساس في القصة: لماذا سلَّم يهوذا معلمه؟ الأمر الذي يجعل من أي محاولة جديدة لاستلهام الشخصية ذاتها، محل استفسار أدبي؛ هل ثمة إصرار ما على وضع سيناريو أدبي يملأ الفراغات في قصة مليئة بالفجوات، أم أن استدعاءه مجرد "قناع" لمعالجة وقولبة أفكار أخرى؟
يفسر الكاتب ماجد وهيب اختياره يهوذا بطلًا لروايته قائلًا للمنصة، إن "الأمرين معًا كانا دافعًا لذلك؛ في البدء كان المحفز على كتابة رواية عن يهوذا هو أنه شخصية غير مكتملة الملامح، بل يمكن القول إنه شخصية مبهمة، وهكذا توجد مساحة للتخيل كما ذكرتِ بجانب أنه شخصية درامية لأقصى درجة، ثم جاء محفز آخر وهو أن الشخصية بالقليل المعروف عنها من الممكن أن تكون وسيلة لغاية أكبر أو قناع لمناقشة بعض الأفكار كان يهوذا الأنسب لها".
وهم الدور الإلهي العظيم
تبدأ "آلام يهوذا "من إشكالية تُبنى عليها الأحداث بشكل منطقي وهي ولادته، ثم القلق حيال حياته ونجاته من مذبحة هيرودس آنذاك لتبدأ إشكالية موازية ويقين مضاعف عند أبويه أن لذلك الطفل دور عظيم في مملكة المسيح المنتظر، بعدما نجى بدوره من المذبحة ولا سيناريو غير ذلك، على الرغم من أن يهوذا طبقًا للرواية لم يكن اسمه مكتوبًا ضمن إحصاء الأطفال من الأصل.
تصبح فكرة الدور العظيم جزءًا لا يتجزأ من يهوذا بل ينصهر بداخله، حتى إنه يدور في فلكه طوال الوقت حتى النهاية، وتلزمه هذه الفكرة بضرورة سلك طريق معين لأن ثمة دور ينتظره وإن كان لا يعرف كنهه.
فهل كان يهوذا سينجو من خيانته إذا لم يقع فريسة للفكرة أم أنه مجرد سيناريو مُعد بشكل مسبق يخدم النتيجة ذاتها؟ يرد ماجد وهيب بأن "تلك السردية تحيلنا إلى سؤال آخر، أكبر وهو: هل الإنسان مخيَّر أم مسيَّر؟ لكن من منطلق تجربتي الأدبية فإن يهوذا حسب الرواية كان مخيرًا ومسيرًا في آن، هو لم يختر أن يلتقي بالمسيح وهو طفل، بل المسيح هو الذي اختاره ضمن الاثني عشر تلميذًا، هكذا كان هنا مُسيرًا، لكنه مسؤول عن الفكرة التي سيطرت عليه، حتى قادته إلى أفعاله".
ثلاث نساء لثلاث خيبات
للنساء دور بالغ الأهمية في حياة يهوذا ومحرك لا يمكن إغفاله عن مجرى الأحداث، أو يمكننا القول إن خيباته المتعلقة بهن كانت دوافع موازية مع أفكاره وكأنهما شخصان يجرانه جرًا نحو مشهد انتحاره الأخير.
يقول ماجد وهيب "الإنسان كائن مطرود من جنة، وهؤلاء النسوة كن في حياة يهوذا جنات بالنسبة له وطُرد أو حُرم منها، ودائمًا ما يتغير الإنسان بعدما يخرج من جنته، أيًا كانت تلك الجنة، وهكذا كانت تلك الخيبات سبب تغيرات في حياة يهوذا وشخصيته".
كانت تلك الخيبات متنوعة فحبه العُذري الذي انهار فجأة، كانت مريم ابنة خاله، الأنثى الوحيدة التي كانت في محيطه فوقع في حبها لكنها فضلت الزواج من لوقا الغيوري (نسبة لجماعة الغيورين حملة الخناجر) المقاتل الثائر الذي يخلص اليهود من الرومان بعمليات الاغتيال، بينما يهوذا لا يحب القتل، رقيق القلب ولا يكره الرومان.
أما النموذج الآخر فكانت حنة، وهي بائعة جنس حاول بها نسيان حبه ولم يقدر سوى أن ينهمك في حزنها مشفقًا على حالها وملتحمًا ليس فقط مع جسدها، إنما أيضًا مع بؤسها بنظرة إنسانية عميقة، حتى يفيق فجأة فلا يجدها مفتقدًا شعور الونس في حياته.
أما نقمته الثالثة على كل شيء فكانت أمه، التي تمثل الجميع بالنسبة إليه. لم يستطع إدراك موتها فكانت ثورته وغضبه على المسيح الذي لم يكلف خاطره ويقيمها كما أقام لعازر (الشخصية التي أقامها المسيح من الموت حسب الإنجيل)، يقيمها لأجل يهوذا تلميذه، شعور عدم الاستحقاق الذي تسرب إليه من وقتها لم يستطع أبدًا النجاة منه.
ويعلق ماجد وهيب على علاقة يهوذا بالنساء في روايته، مستشهدًا بمقولة مارك توين "أينما وجدت حواء وجدت الجنة".
الوجه الآخر ليهوذا
بقدر ما كانت دعوة وتعاليم المسيح تتعلق بالحياة الأبدية في السماء، كانت أفكار يهوذا مشغولة بالأرض وسكانها ومعاناتهم "أحيانًا حين أمشي في الطرقات ينتابني شعور بأني أريد أن أحضن كل من أرى، أريد أن أربت على أكتافهم وظهورهم"، كما جاء في الرواية. كان يهوذا أكثر واقعية وتعلقًا بما يحدث من حوله يرى أن المهمشين الضعفاء هم أبطال القصة الحقيقيين.
في مشهد يأتي بقارورة الطيب لمنزل حنة ويدهن بها قدميها، في المقابل يترك المسيح المرأة الخاطئة لتبكي عند قدميه وتدهنهما. لم تكن حنة في ذهن يهوذا جانية إنما كانت مجنيًّا عليها من المجتمع والحياة. تقول في الرواية "أتراني مستحقة لأن تغسل بعطر قدميَّ؟"، فيرد تلميذ المسيح "إذا لم تستحق قدماك أنتِ، فأي قدم تستحق"؟
وهنا يفسر وهيب أن يهوذا غرق في الأمرين معًا "الانحياز حد التطرف للموجوعين والغرق في العالم اليوتوبي، حيث لا فرق، يهوذا كان شخصًا رومانسيًا، بالمفهوم الأشمل لكلمة رومانسية، هذه اليوتوبيا التي كان يحلم بها قادته إلى مثل هذه التصرفات التي فيها انحياز شديد للمقهورين وثورية ضد عادات وتقاليد".
ثائر حتى الخيانة.. نادم حتى الموت
كانت تلك الخيبات، ثم اختلاف الرؤى بين المسيح ويهوذا بداية الشرارة التي أدت للتسليم حاسبًا أنها خدمة عظيمة للناس والله، لم تكن ترضي يهوذا لا التعاليم الصالحة ولا المعجزات كان يرنو لفعل أكبر وأعمق يخلص الناس من متاعبهم وأوجاعهم، كان يرى في المسيح مخلصًا بمعنى مختلف.
" - هل سيحدث ما أتمناه، هل ستحققه، هل تختفي الحروب والأمراض والفقر والجوع والظلم والحزن؟
- الحقَّ أقول لك يا يهوذا إن هذا لن يحدث أبدًا لا بي ولا بغيري، الجنة انتهت والشر لن ينتهي"!
إشكالية الخلاص تلك جعلت بذرة الشك تدخل قلبه حتى ذهب بقدمه لرؤساء الكهنة مقتنعًا أن ذلك هو دوره المزعوم.
يقول ماجد وهيب "ذلك الخلاف هو جوهر المسألة، وهو ليس خلافًا بين يهوذا والمسيح فقط، بل بين يهوذا وصديقيه يوسف وداود، كل واحد من الأربعة كانت لديه وجهة نظر مختلفة عن الخلاص، يوسف اختار الخلاص الصوفي، فذهب إلى البرية وترهبن، وداود كان يرى الخلاص في الثورة بمفهومها السياسي، فانضم إلى جماعة سرية تقاوم الرومان، والمسيح كان يعد بخلاص في الآخرة، أما يهوذا فكان مشغولًا بالخلاص هنا على الأرض، وهو لم يشنق نفسه فقط لأنه سلم المسيح، وإنما لأنه اقتنع أخيرًا بأن أحلامه مستحيلة التحقق، لم يعد لديه ما يعيش من أجله، وكانت آخر جملة نطق بها: أنا أريد عالمًا لن يوجد، وإلهًا لن يفعل أبدًا ما أريد" .
التركيبة النفسية ليهوذا جعلت منه إنسانًا متخبطًا وتائهًا حتى خان وتسلل الندم لقلبه وصولًا لذروة الحدث ومقابلته لباراباس اللص الذي أطلقوه بدلًا من يسوع، لتتهدم شخصية يهوذا ويتعلق الباقي منها على جذع الشجرة كنهاية منطقية حتمية "آه لو لم أكن ساخطًا على أحوال هذا العالم كان من الممكن أن أعيش" يقول يهوذا في الرواية.
يهوذا الذي سقط من الغفران
لم تشمل آية "أحبوا أعداءكم" أو الغفران في المسيحية شخصية يهوذا تحديدًا في العقل الجمعي القبطي "كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد". كان يهوذا العدو الأول للمسيحيين حيث سلم معلمه. ورغم دعوة المسيح الصريحة أن نغفر ونحب أعداءنا، لم يستطع المسيحيون أن يغفروا أو يحبوا يهوذا، بل يتبارى الجميع في إصدار سرديات تُحقِّر بشكل أعمق منه، مثل سردية "تاريخ التلميذ الخائن" للواعظ أبادير العريان الذي ينسب ليهوذا أفعالًا كالقتل والسرقة والزنا وصولًا للخيانة، وهو تكنيك متبع نحو المنبوذين في المطلق يتجه العقل الجمعي لمحاولة شيطنة الفرد أكثر فأكثر لخدمة السردية الرسمية.
ربما لن يستطع أحد إعادة تمثيل قصة تلميذ المسيح الموصوم كما جرت بكل تفاصيلها ودوافعه التي أدت بها لتسليم أستاذه، لكن السرديات المغايرة مثل رواية ماجد وهيب "آلام يهوذا" قادرة على افتراض زواية أخرى بعيدة ربما لا تحل اللغز أو تمنح الحقيقة، ولكنها تنظر أكثر إلى التاريخ والمسلم من منظور إنساني.