ذات صباح صيفي مر نور الشريف بسيارته على محطة بنزين في منطقة الدقي، التف العمال والموظفون حوله واستقبلوه بحفاوة وترحاب، كان ذلك قبل عصر كاميرات المحمول، فلم يتسن لهم التقاط الصور بجواره، تبادل معهم الحديث والضحكات لدقائق، ثم همّ بالرحيل، إلا أنه لمح أحد العاملين جالسًا أمام بناية ملاصقة يأكل أرغفة الفول والطعمية، توقف نور مرة أخرى وتوجه إليه مستأذنًا أن يشاركه إفطاره، وبالفعل جلس نور وهو النجم اللامع حينها في مدخل العمارة مقتسمًا "شقة الفول" مع العامل الذي لا يعرفه. كانت تلك البساطة التي اتسم بها نور الشريف هي باب الوصول إلى قلوب الناس حيث ظهرت ملموسة على الشاشة كما تجلت في الواقع، فاختصرت المسافات بينه وبين الجمهور وخلقت بينهم شعورًا بالألفة والمحبة.
مرت منذ أسابيع قليلة الذكرى الخامسة والسبعين لميلاد نور الشريف (28 أبريل/ نيسان 1946)، يرى البعض أن نور لم يكن الأكثر موهبة بين أبناء جيله، يفضّلون أحمد زكي أو محمود عبد العزيز أو يحيى الفخراني، إلا أن أحدًا لا يمكنه إنكار أن نور صنع لنفسه مسيرة متميزة ومختلفة، بصمة خالدة وعلامة مسجلة، تجعله في مكانة خاصة ومتفردة، فنور لم يكن ممثلًا مهمًا أو مثقفًا فحسب، بل صاحب رؤية ومشروع، وهو شيء نادر في تاريخنا السينمائي المصري، كان يحسب كل خطوة قبل أن يخطوها ولا يتحرك إلا بعد تفكير وتخطيط، يحمل نوتته التي يسجل فيها مشاهداته، ومع كل شخصية جديدة يبحث عن نموذج مشابه في أوراقه، يقرأ ويطوّر من أدائه، مهووس بفنه وبما يقدمه، فيتعلق بشخصيات تاريخية وأخرى روائية، وينشغل بمشاريع سينمائية جديدة، عقله ممتلئ بالشخصيات وذهنه مشغول بالخطط والأفكار الفنية فيستوقف كل من يصادفه ويحكي له بحماسة وانفعال عن آخر مشاريعه.
ساهم نور الشريف بمغامراته المحسوبة في تغيير شكل السينما المصرية ودفع صناعتها، ربما لو توفرت له ثروة كبيرة لسطّر اسمه كصانع سينما عظيم مثل أنور وجدي ورمسيس نجيب، على عكس آخرين نافسوه أو تفوقوا عليه موهبة، إلا أنهم احتاجوا لمن يخطِّط لهم مشوارهم ويوجههم، وربما أهدروا موهبتهم هباء.
في بداية مشواره قام نور الشريف ببطولة أول أفلام سعيد مرزوق، زوجتي والكلب، وفي السنة التالية مباشرة شارك في إنتاج الفيلم الثاني لمرزوق وقام ببطولته، ثم أنتج الفيلمين الأولين لسمير سيف، تمسك حينها بسيف وأصر على اختياره رغم مطالبة الموزع أن يحل نيازي مصطفي محله مقابل خمسة آلاف جنيه، وكذلك كان نور بطل الفيلمين الأولين لعاطف الطيب، والفيلمين الأولين لمحمد خان، وشارك في بطولة الفيلم الأول لكل من داوود عبد السيد ومحمد النجار وهشام أبو النصر وأحمد فؤاد درويش.
تلك المغامرة بدعم المخرجين الجُدد سواء بالمشاركة في بطولة أفلامهم الأولى أو بإنتاجها في بعض الأحيان غيّرت في شكل السينما ودفعت بأسماء جديدة بدّلت نمط الأفلام السائد، فاسم نور الشريف وحده كان قادرًا على تحريك بعض المشاريع التي ربما لم تكن لتجد طريقًا للشاشات دونه، مثل فيلم البحث عن سيد مرزوق، ثالث أفلام داوود عبد السيد، الذي قال في إحدى الندوات أنه يعتقد أن منتجه لم يقرأ السيناريو الخاص به، واكتفي بالاجتماع الذي جمعهما حيث تعهد داوود بألا يستغرق التصوير أكثر من ثلاثة أسابيع، وبأن يكون نور بطلًا للفيلم، كان هذا كافيًا للمنتج ليعتقد أنها صفقة رابحة دون أن يُتعب نفسه بالبحث معهما عن سيد مرزوق.
مغامرات سينمائية
لذا يمكننا اعتبار نور أحد أعمدة السينما الواقعية الجديدة عبر المشوار المكثَّف رغم قصره مع عاطف الطيب، وعبر بدايات داوود عبد السيد ومحمد خان، الذي أنتج له نور فيلمه الأول ضربة شمس، كانت مغامرة بالتأكيد، فلم يكن هذا النمط من الأفلام سائدًا في السبعينيات؛ عاد خان قبل شهور من إنجلترا بأحلام كبيرة وأفكار مغايرة، وتحمس نور للسينما الجديدة التي يسعى إليها ذلك الشاب وشرعا في العمل سويًا.
يحكي خان أنه عقب نهاية التصوير دعا نور لمشاهدة النسخة قبل النهائية، النسخة الخالية من المؤثرات الصوتية والموسيقى التصويرية، فحضر نور ممتلئًا بالتفاؤل بما أنجزوه، أخذ مكانه في قاعة العرض وظل صامتًا أثناء المشاهدة، تسلل إليه الإحباط، شاهد الفيلم ببرود ثم اندفع خارجًا واختفى دون أن يعلِّق أو يبتسم أو يشجِّع. صُدم خان من ردة فعل بطله ومنتجه وتشكك قي قدراته، إلا أنه كان لا بد أن يكمل المشوار الذي بدأه، فأضاف موسيقى الفيلم التي وضعها كمال بكير معتمدًا على إيقاع الطبول والدفوف، ليضفي جوًا من الإثارة ومزيدًا من التوتر.
لم يشاهد نور الفيلم مجددًا إلا في العرض الخاص، وحينها تفاجأ بمستوى النسخة الأخيرة من الفيلم، فغيَّر رأيه السابق واحتفى بفيلمه الجديد وبات فخورًا بعملهم، فالموسيقى أعادت تشكيل الفيلم وضبط إيقاعه، وحقق ضربة شمس نجاحًا ملحوظًا وبقي في دور العرض لفترة غير متوقعة، عشرين أسبوعًا في دار عرض واحدة، كما تحول لاحقًا إلى علامة في أذهان المتفرجين في عروضه التليفزيونية، وبات في ذاكرة الكثيرين ضربة البداية لجيل جديد من السينمائيين.
لم يكن نور موفقًا في كل مغامراته بهذا الشكل، فبعضها كان باهظ الثمن، مثل فيلم ناجي العلي، في هذه المرة لم يتحمل نور عبء الإنتاج فالمال بات متوفرًا، ولكن المغامرة كانت سياسية، العديد من الحكام العرب قد يغضبون من فيلم عن الرسام الفلسطيني الشهيد، ربما يغضب ياسر عرفات وعدد من حكام الخليج.
بدأ المشروع مع صلاح أبو سيف الذي ذهب بالفعل في رحلة لتحديد أماكن التصوير، إلا أن ثمة خلافات دفعت بالمشروع إلى عاطف الطيب، رفيق المشوار، ومنذ بداية التصوير وقبل العرض السينمائي بدأت حملات الهجوم على الفيلم وصناعه، وظلت وتيرة الهجوم والاتهامات تتزايد بمرور الوقت، حتى منعت بعض الدول العربية عرض أفلام نور بأراضيها، بات منبوذًا ومستبعدًا من العمل، وتحت وطأة هذا التضييق اضطر إلى اللجوء للسلطة لرفع الحظر عن أفلامه، وكان الثمن المطلوب مسلسلًا عن مبارك، ومسلسلًا آخر مخابراتيًا.
تعثر المشروع الأول، وتحول إلى مسلسل إذاعي باسم سيرة ومسيرة، أما الثاني فهو مسلسل الثعلب، حينها رأى نور أن السيناريو أقل من المقبول وطلب من صفوت الشريف أن يحولوه إلى فيلم، أو حتى إلى سباعية، مسلسل من سبع حلقات، إلا أن صفوت أصر على خمس عشرة حلقة، كان المسلسل متعثرًا بالفعل، اعتذر عنه أحمد زكي وصفية العمري ثم ليلى علوي ثم رغدة وأخريات، وبات نور الشريف هو الحل الأخير لإنقاذ العمل، وهو في موقف لا يملك فيه رفاهية الرفض، فقام بما طُلب منه وعُرض المسلسل وذهب في طي النسيان.
حسبة نور
قدَّم نور الشريف كذلك عددًا من الأفلام المتواضعة فنيًا، ولكن ما يميز نور عن غيره أنه يشارك في هذه الأفلام وهو مدرِك لما هو مقبل عليه، فيختار فيلمًا جماهيريًا تجاريًا ويتبعه بآخر فني، فيلم مغامرات أو أكشن ثم فيلم فلسفي، وهكذا، كان حريصًا على البقاء في السينمات ولو بأفلام ضعيفة إذا انحسرت الأدوار الجيدة، تلك كانت استراتيجيته التي حافظت على نجوميته لسنين طويلة ثم ضمنت له مكانا مميزًا في الدراما التليفزيونية فيما بعد، مكانًا لم يحظ به نجوم تفوقوا عليه في شباك التذاكر السينمائي من قبل.
ويتضح هذا الميزان الذي يعمل في عقل نور باستمرار عندما عُرض عليه سيناريو فيلم العار، حينها لم يكن المخرج علي عبد الخالق اتفق مع أي من الممثلين على تأدية شخصيات الفيلم، أعطاه السيناريو وسأله أن يختار الدور الذي يفضله من الأدوار الثلاثة الرئيسية. يقول نور إنه عرف من الوهلة الأولى أن دور الضابط هو الأكثر تحديًا له كممثل وأنه الدور الذي يود أن يلعبه، فهو أكثر الأخوة معاناة من الصراع النفسي بين إرثه الملوَّث وواجبه المهني، ولكنه أدرك أن كمال، الابن الأكبر غير المتعلِّم، سيكون الأقرب إلى الجمهور، فاختاره تاركًا الدور الأول لحسين فهمي.
كانت هذه حسبته في هذه اللحظة، أن يسعى إلى دور جماهيري، وبالفعل كان تقدير نور صحيحًا ونجح في تجسيد الشخصية بشكل شديد التميز، مستعينًا بحركة كتف يذكرها كل من شاهد الفيلم، كان اقتبسها من رجل رآه ذات يوم في أحد الكازينوهات، فسأل نور صاحب الملهى، وكان صديقه، عن سر حركة الرجل المتكررة، فقال له أن هذا معلِّم شهير اعتاد ارتداء الجلباب طيلة حياته وتحوَّل مؤخرًا إلى البدل لتناسب وضعه الجديد، فبات يقوم بهذه الحركة بين لحظة وأخرى وكأنه يزيح البدلة القابضة على جسده.
نور الشريف يحكي كواليس دوره في فيلم العار
لم يكن اختيار نور للأدوار الأكثر جماهيرية أو شعبية هو بوصلته الدائمة، ففي لحظة أخرى نجد نور يوافق على دور ثان ذي مساحة صغيرة في فيلم مع سبق الإصرار، حيث يحكي السيناريست مصطفي محرم، أن دور محمود ياسين كان أكثر من ستين مشهدًا، بينما الدور الثاني لا يتعدى نصف عدد المشاهد، فتوقع صانعو الفيلم أن نور لن يوافق على هذا الدور الصغير وترددوا في عرضه عليه، إلا أنه فاجأهم بموافقته مطالبًا بشرط وحيد، ألا يحذفوا أي من مشاهده، حتى ولو ضاعفوا مشاهد محمود ياسين، وبالفعل نجح رهان نور وتفوق في دور الزوج المخدوع العاجز، حيث قدم أداءًا لافتًا خاطفًا كل الأضواء من بقية أبطال الفيلم.
لم يتعامل نور الشريف مع المخرجين الشباب أو أبناء جيله وصناع الواقعية الجديدة وحسب، بل إنه طالما عبّر في حواراته عن غضبه الشديد من انصراف المنتجين عن مخرج في قيمة كمال الشيخ، كما شارك في بطولة فيلميه الأخيرين، الطاووس ثم قاهر الزمن الذي مثَّله في العام نفسه الذي قدم فيه جري الوحوش مع علي عبد الخالق. الغريب أن الفيلمين يطرحان رؤيتين متناقضتين تمامًا؛ فالأول ينتصر للعلم، والآخر يقلِّل من قيمته في قصتين متشابهتين بنهايات متباينة، فهل شارك نور في الفيلمين تاركًا الحكم للمشاهدين؟ هل قدم الأول إرضاءً لنفسه والآخر إرضاءً للجماهير؟ ربما.
كذلك عمل نور الشريف مع يوسف شاهين، وكان مرشحًا لدور الخليفة في فيلم المصير، ولكنه ألح كي يؤدي دور ابن رشد وأقنع شاهين بأن يقوم بهذا التغيير، فنور لم يكن مستكينًا أو ضعيفًا أمام شاهين، عامله بندية واشتبك معه فنيًا واختلفا منذ لقائهما الأول في حدوتة مصرية، ويُحسب لنور أنه من الممثلين الذين استطاعوا العمل مع شاهين لأكثر من مرة دون أن يتورط في "الأداء الشاهيني" ودون أن يُسجَن في عالمه.
مع كل هذه الفيلموجرافيا الواسعة والمتنوعة سيصعب على أي متابع أن يختار الفيلم الأفضل لنور الشريف، حيث تنوعت أفلامه وأدواره حتى حضر في قائمة أفضل مائة فيلم مصري في القرن العشرين بسبعة أفلام، أولها سواق الأتوبيس في المركز الثامن بالقائمة، وهو الفيلم الذي أخرجه عاطف الطيب وشارك محمد خان في وضع قصته، سُئل نور بعدها إن كان يعتقد أن الفيلم كان سيخرج في شكل أفضل إن أخرجه خان، فأجاب بطريقة تنم عن وعي الفنان ورؤيته "ماأظنش، كان هيبقى أكثر سينمائية، كان هيبقى فيه صورة أحلى وتفاصيل للشارع أكتر وكادرات أجمل، لكن عاطف صاحب قضية، عايز يعمل فيلم قوي يأثر فيك، عايز ينغزك.. سر جمال سواق الأتوبيس وتأثيره في الناس هو جو العيلة والتفاصيل الأسرية، خان مبيحبش الجو ده أوي، معملوش غير في خرج ولم يعد وكانت عيله مبتتكلمش وبتاكل على طول.. لكن عاطف دي حياته، دي طفولته، دي تجربته اللي بيعرف ينقلها كويس".
لقاء تلفزيوني لنور الشريف وبوسي
بالطبع لم يرض الجميع عن تلك السينما الجديدة، فظل عادل إمام يسخر في جلساته الخاصة من احتفاء النقاد بـ سواق الأتوبيس، كان يراه احتفاء مبالغًا به كما ذكر بلال فضل في برنامجه الموهوبون في الأرض، كذلك سينفر عادل لاحقًا من فيلمه الحريف، يبدو أن عادل لم يُقدّر ما قدمه مخرجي الواقعية الجديدة أو لم يرق له. في الثمانينيات توترت علاقة الصديقين القديمين نور وعادل، رغم أن عادل هو من رشحه لدور كمال عبد الجواد في قصر الشوق في بداية المشوار، بدأت الجفوة عندما انقض عادل على فيلم المشبوه ثم على فيلم الغول بعد أن كان نور المرشح الأول للفيلمين.
جاءت الفرصة لاحقًا لنور ليرد الصفعة لعادل، فبعدما بقي سيناريو حتى لا يطير الدخان في حوزة عادل لفترة طويلة إثر تردده بشأنه، لجأ المخرج أحمد يحيى لنور الشريف وعرض عليه الفيلم، إلا أن نور قال له "السيناريو ده مكتوب على مقاس عادل، محدش غيره ينفع يعمله"، طبقا لما رواه كاتب الفيلم مصطفي محرم، وهو نفس الموقف الذى جمع نور مع أحمد زكى بعدما اختلف الأخير مع عاطف الطيب ووحيد حامد في أثناء التحضير لفيلم البريء فأحضرا السيناريو لنور الذي أعتذر قائلًا إن هذا فيلم أحمد زكي.
إلا أن الخلافات بين نور وعادل ازدادت عقب مشاركة نور في لجنة تحكيم مهرجان قرطاج في منتصف الثمانينيات وكان من ضمن الأفلام المشاركة في تلك الدورة فيلمي حتى لا يطير الدخان وخرج ولم يعد، حينها اتهم بعض النقاد نور بأنه وقف عائقًا في طريق حتى لا يطير الدخان نحو منصة التتويج، ورد نور التهمة عن نفسه قائلًا أن أعضاء اللجنة لم يطرحوا الفيلم للجوائز من الأصل كي يعطلها، زاد هذا الموقف من الشقاق بين الصديقين القديمين قبل أن تعود المياه لمجاريها في آخر الأيام.
أراد نور أن يُكرم فريد شوقي ضمن مشاركته بالمهرجان نفسه، تتويجًا لمسيرته وتقديرًا لتاريخه السينمائي الطويل، عندما علم نور أن أعضاء اللجنة أبدوا إعجابهم بـ خرج ولم يعد وتحديدًا بيحيى الفخراني، سعى إلى تغيير دفة الجائزة إلى فريد شوقي إلا أن محاولته باءت بالفشل. رأى نور في فريد نموذجًا يحتذى به للممثل الناجح، القادر على تعديل مسار تمثيله طبقًا للظروف والزمن، والقادر على الحفاظ على نجوميته طوال حياته، نموذجًا لإدارة الحياة الفنية بشكل ذكي، وهو ما اجتهد كي يحققه وأظنه نجح إلى حد كبير، أما فريد شوقي فذكر في حوار له أنه يعتقد أن ما من أحد يستطيع تجسيد شخصيته على الشاشة، "لكن إذا كان ولابد يعني، يبقى نور الشريف".
ليست الموهبة وحدها
كان نور من مدرسة تمثيلية ترفض فكرة الاندماج الكامل، وتؤمن بأن الممثل لابد أن يكون واعيًا لكل حركة يقوم بها في أثناء تمثيله، فهو مؤمن بالدراسة والتعمق في تفاصيل الشخصية وأن يتلبسها الممثل دون أن تفقده تركيزه، دون أن تطغى على عقله، معتقدًا أن زكي رستم ومحمود المليجي وسعاد حسني هم المدارس التمثيلية المصرية، فرغم أنهم لم يتلقوا تعليمًا أكاديميًا إلا أن مواهبهم الفطرية وخبرتهم الواسعة وفهمهم لطبيعة التشخيص جعلت منهم علامات في عالم التمثيل، فيقول أن سعاد منذ ظهورها الأول وهي ممثلة بارعة، موهبة فطرية خالصة، حتى إننا قد نتخيل أن علوم التمثيل تم استنباطها من أداء سعاد، كأنها هي النظرية وما يفعله الباقون هو التطبيق، فلا تعبر عن الحزن، مثلًا، بطريقة واحدة في مختلف الأدوار، بل لكل شخصية تعبير مختلف عن الحزن، تعبير مناسب لطبيعة الشخصية وابن بيئتها وظرفها الاجتماعي.
يحكي نور أن سعاد كان يؤرقها أهمية دورها كممثلة، حتى إنها فكرت في الانسحاب من تصوير غريب في بيتي بعد بضعة أيام، وسألت نور "هو احنا بنعمل الفيلم ده ليه؟ إيه أهميته وقيمته؟"، فأجابها "فيلم دمه خفيف وبسيط يا سعاد، مش مهم يبقي بيناصر العمال والفلاحين، عنه ما كان ليه رسالة".
وبهذا المنطق تنوعت أفلام نور، فبجانب أفلام الواقعية نجده يقدم أفلامًا رومانسية ميلودرامية وأفلام إثارة وأكشن وأفلامًا خفيفة ويعود بأفلام فلسفية ثم أعمال تاريخية وهكذا في دورات لا تنتهي، وكذلك نجد بين أعماله عددًا وافرًا من الروايات، أغلبها لنجيب محفوظ حيث شارك نور في أكثر من عشرة أعمال مأخوذة عن رواياته، بعضها من علامات السينما مثل قصر الشوق والكرنك وأهل القمة والشيطان يعظ، وبعضها ضعيف وركيك مثل وصمة عار عن رواية الطريق، وليل وخونة عن رواية اللص والكلاب.
كما قدم أعمالًا عن روايات لطه حسين وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس وعبد الرحمن الشرقاوي ومجيد طوبيا وآخرين، إضافة إلى الأدب العالمي الذي تطرق إليه في قطة على نار عن مسرحية تنيسي ويليامز، ودائرة الانتقام في تمصير لرواية الكونت دي مونت كريستو لألكسندر دوماس، وكذلك الأخوة الأعداء وسونيا والمجنون المأخوذين عن روايات ديستويفسكي بطابع حسام الدين مصطفي المتسم بالمبالغة، أو "الأوفر" على حد تعبير نور الشريف نفسه، الذي يعترف أن أداءه هو ومحمود ياسين في سونيا والمجنون كان "أوفر جدًا، فحسام الدين مصطفي يعشق الأداء الأوفر".
كما خطَّط نور لتحويل رواية بهاء طاهر نقطة النور إلى فيلم من سيناريو بلال فضل. لم يكن هذا المشروع الوحيد على طاولة نور الشريف، ثمة عدد من الأفلام لم يمهله القدر ولم يساعده الإنتاج على تقديمها، إضافة إلى حلم عمره بتجسيد شخصية الحسين، حيث حاول أن يقدم مسرحية الحسين ثائرًا إلا أن الأزهر وقف حائلًا بينه وبين حلمه.
قدم نور لاحقًا شخصية عمر بن عبد العزيز في مسلسل شهير، واعتبر في لقاءات متأخرة أن مشهد الموت في نهاية المسلسل هو أفضل ما وصل له من أداء، واصفًا إياها بلحظة تنوير رباني، داعيًا القنوات أن تذيع هذا المشهد عندما يتوفاه الله. عقب عرض المسلسل تقدم نور بطلب لتقديم شخصية عمر بن الخطاب إلا أن طلبه قوبل بالرفض أيضًا، وعاد حلم الحسين ليطارده من جديد حتى أنه أبدى استعدادًا لاعتزال التمثيل نهائيًا بعد أدائه الشخصية إن وافق الأزهر على هذا، وهو ما لم يتحقق، ولم يبق من هذا الحلم إلا فيديو قصير من أحد البرامج لنور وهو يمسك نص مسرحية الحسين ثائرًا في يده ويقرأ قصيدة عبد الرحمن الشرقاوي الشهيرة:
"أتعرف ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة في كلمة
دخول النار على كلمة
وقضاء الله هو كلمة
الكلمة لو تعرف حرمه
زاد مذخور
الكلمة نور
وبعض الكلمات قبور".