يقول مثل من بوليفيا، إن "أيا كان ما رضعته من حلمة الثدي، سيُسكب على قبرك"، وحين أتخيل مجازه لا أخشى على قبري من الضياع إن طَمس ملامحه ما رضعت من أثداء نساء كثيرات؛ صنعتني النساء.
عرفتُ جدتي سندس، شابة لم ينل الزمن من جمالها أو بأسها، حتى في أيامها الأخيرة، أو هكذا لا أستطيع استعادة صورتها غير جالسة على كنبتها الوحيدة في عمق الصالة، تحتضنها أركان الحائط الأسمنتي العاري من الطلاء مثل إطار انضوى على مَنْ تمشط رأسها المنحل على كتفيها قبل أن تهذبه في جدائل ذهبية، أقسم أنها كانت خالية من المشيب، هل كانت تستخدم الحناء؟ أو أن روتينها اليومي المشحون من الفجر إلى العشاء لم يسمح للزمن بتجاوزها وتجاوزته هي إلى السبعين أو يزيد تسخر من أنفاسه المتقطعة بينما يلهث من خلفها في طريقهما إلى المقبرة.
الخروج من الحفرة
بعد أن أسلمت روحها في المستشفى، نصح الطبيب أبي أن يأخذ جسد أمه كما هي خشية البهدلة والبيات في ثلاجة الموتى في انتظار تصريح الدفن، فأجلسها إلى جواره في التاكسي، كأنها نائمة، يقطعان الطريق ذاته، الذي سبق وأن قطعه بصحبتها عكسيًا، وهي بعد أرملة في الثلاثين من عمرها، تجره وأخوته وثأرًا تحمله ضد عمِّهم الذي عذَّب ابن أخيه المراهق (عمي الأكبر) بزعم تأديبه بعد أن تسبب في ضياع مبلغ من المال تحصل عليه من أجل شراء بضاعة لأحد التجار.
صنع جدي (عم أبي) حفرة كبيرة في الأرض ووضع عمي بداخلها لدفنه حيَّا إن لم يُعد ما "سرقه" إلى صاحبه، غير أنني لم أعرف أبدًا كيف خرج عمي من الحفرة، أو أسعى إلى ذلك، لأن ما قامت به جدتي لاحقًا كرد فعل على ذلك الحادث، لا يحتاج إلى مشهد أسطوري ليكتمل، كأن تتخفى، مثلًا، في ظلمة الليل تحمل مشعلًا وفأسًا وتشق الأرض عن ابنها قبل أن يزهق التراب أنفاسه، ولا ينتقص منه كذلك أن تكون نجاته قد جاءت على أيدي أولاد الحلال الذين توسطوا، مثلا، للعفو عنه مع وعده بإعادة المال كاملًا حال أن يتيسر له ذلك.
في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، أخذت جدتي بنتيها وولديها وتركت قريتها باتجاه حدائق حلوان، حيث تسكن ابنتها الكبرى التي تعيش هناك رفقة زوجها، واستأجرت غرفة متواضعة في سوق الخضار، واستطاعت، تربط الحزام على بطنها وبطون أبنائها، شراء قطعة أرض على الشارع الرئيس بالقسط، قطعة أقرب إلى البِركة منها إلى اليابسة، كانت تَعُبّ التراب في جلبابها لتردم حفر الماء الغائرة فيها قبل أن تبني غرفتين واسعتين على طرفيها لتضم أبناءها تحت سقف لم يكن كله من الخرسانة، لكنه تنامى مع الأيام ليستقيم بيتًا كبيرًا من خمسة طوابق و14 شقة، سكن فيهم أبناؤها وأحفادها، فيما اكتفت هي بشقة صغيرة سكنتها دون أن تهتم بدهان حوائطها التي بقت على حالتها الأسمنتية حتى رحلت.
فيما شهدته من حياتها، كانت ستي التي تحكم البيت المفتوحة بيبان شققه جميعها لا تنغلق إلا في موعد النوم، تنطلق في رحلة يومية تبدأ مع أذان الظهر إلى العصر لتتفقد أحوال بناتها الساكنات في بيوتهن القريبة منّا، قبل أن تعود في موعد الغداء، تتناوله عندنا أو في شقة عمي، وخلال غيابها، كانت أمي وزوجة عمي تنفلتان في حرية تنتقدان سطوتها وتحكماتها في جميع الأمور، كأنهما تدخران النهار لا تفعلان فيه شيئًا سوى استنشاق ما يمكن لرئتيهما أن تتسع له من النسيم قبل أن تعود ويحل الهواء الثقيل والصمت محله، على الرغم من أنني لم أر عمي أو أبي يذهبان لطلب الإذن منها قبل الشروع في ممارسة أي فعل، لكن كل شيء بدا كما لو كان ينتظر حضورها ليتم.
كنت كلما استمعت إلى نميمة أمي وزوجة عمي عن ستي وتحكماتها، أتصورها بعد عودتها من نزهتها اليومية لتفترش الأرض إلى جوار الباب، ملتصقة بعتبته، كأنها تسجننا، أو أنها، أتصور ذلك الآن، كانت تحرسنا، كأن شيئًا بقى في داخلها من ذلك الحادث القديم، بعد كل تلك السنين، يجعلها لا تنفك عن الإحاطة بأولادها لحمايتهم.
عينان خضراوان
كانت كريمة، أمي، تتفاخر دائمًا بأن ستي لا تستأمن أحدًا على غسل ملابسها سواها، وكأنها انتزعت منها اعترافًا أبديًا بنظافتها/ براعتها، على الرغم من أن ذلك الأمر صار مؤرقًا لها بعد أن اشترى أبي غسالة أوتوماتيك. رفضت جدتي، التي كانت تخاف منها، أن تُغسل ملابسها فيها، فظلت أمي تغسلها على يديها.
لم توافق جدتي، في البداية، على تزويج ابنها من أمي، وعندما ذهبتْ بصحبته لخطبتها، في موسم مولد النبي، تحمل علبة حلاوة منحتها إلى أمي مع عشرة جنيهات مثل نقوط، ردهم جدي حسن، لأنه رأي في عينيها، حسبما حكت والدتي، أن تلك المرأة البيضاء خضراء العينين تعتبر ابنها أجمل من أن تمنحه لأمي السمراء، ولعدم ثقته في الوقت نفسه في "رباية الحريم".
كان جدي صائبًا في بعض رأيه، حيث إن ستي انتهزت غياب أبي الذي كان يقضي فترة تجنيده الإجباري، لتخطب له جارة أمي، التي تسكن البيت الملاصق لبيتها، وتمتلك بشرة بيضاء وعينين زرقاوين، وهي خطوة جرحت كبرياء جدي فقام على إثرها بخطبة أمي لأحد أقربائه.
دمر أبي تلك الخطبة تدميرًا، أو أن ما فعلته أمي شجعه لاتخاذ مثل تلك الخطوة، ليست أمي أقل عنادًا من جدتي، ولم أرَ امرأة قط تمتلك طموحها؛ عندما خطبها أبوها لقريبهم، فإنها مارست كل ما يمكن لإفساد تلك الخطبة حتى نجحت، كانت مثلًا، لإثبات تفوقها على خطيبها الصنايعي باليومية غير المتعلم، تجهز طبلية الغداء إن جاء ليزورهم، فتضع أمامه شوكة وسكينًا، حتى خيل إلى جدي أن ابنته التي أنهت لتوها الدراسة في معهد السكرتارية المتوسط ستخرج عن طوعه وتتزوج من أبي على خلاف رغبته، فأذعن ووافق على تزويجها منه عندما عاد إلى خطبتها مرة أخرى.
خاضت أمي تجربة قاسية من أجل زواجها بمن تحب، لكنها لم تكن أقسى من حياتها معه بعد ذلك الزواج؛ كان عليها التكيف دخل بيت عائلة كبير، ليس ثمة مكان فيه للخصوصية أو الاستقلال، شخص واحد يديره ويتحكم في مصروفاته هو عمي، وحماة ربما لا تراها مناسبة للزواج من ابنها، لكنها لم تكن معنية من كل هذا سوى بتأمين حياة أفضل لها ولأبنائها المستقبليين، وكان أبي الذي تحصل على دبلوم الصنايع بمجموع كبير قد اكتفى بما وصل إليه من درجة تعليمية، ليعمل فنيًا لصيانة السيارات في مكتب لبيع الأسمنت انضم لاحقًا إلى الشركة القومية للأسمنت التي صفتها الحكومة مؤخرًا، لكن أمي التي طمحت لواقع أفضل، لم تكف عن حثه للالتحاق بالمعهد العالي للهندسة، أو عن سعيها لتدابير مصاريفه الدراسية بداية من الادخار والتنازل عن كثير من احتياجاتها الضرورية، ونهاية بالالتحاق بوظيفة مدرسة في مدرسة النصر الابتدائية لتدريس العربي والحساب للأطفال وكذلك تقديم دروس بأجر زهيد نظير تقويتهم فيهما.
في خضم ذلك كله، كنت أنمو في بطن أمي، غير أن رأسي الكبير ووضعي غير المنضبط داخل رحمها، جعلا من ولادتي أمرًا عسيرًا؛ تحاول لثلاثة أيام متتالية مع الطبيب إنزالي بكل الحيل الممكنة دون جدوى، فلم يجدا سوى الجراحة القيصرية وسيلة لإخراجي، لكن تكلفتها المادية كانت أكبر من أن تتحملها مواردهما القليلة في ظل وضع أبي الدراسي، وبعد أن حضرها الطبيب وذهب لتجهيز غرفة العمليات في عيادته الخاصة، غافلت أمي الجميع وهربت، لتصادف أمها في الشارع فتصطحبها الأخيرة على مضض إلى مستشفى المستعصية (حلوان العام)، حيث ادعتا ما أن وصلتا إليها أنهما قادمتان لكشف النساء، وليس للولادة، كانت تتمنى أن ينصفها حظها، فيغير الطبيب تشخيصها إلى الولادة بالطريقة الطبيعية، غير عابئة بما قد يسببه ذلك من خطر على حياتها.
نظير خمسة جنيهات فقط، هي تكلفة عملية الولادة الطبيعية في المستشفى الحكومي ذلك الوقت، خرجت من بطن أمي سالمًا، أشبه جدي حسن وأخوالي، أسمر مثلهم، لكن فرحة ستي سندس بوصولي كانت أكبر من أن تضيعها في المقارنة بين لون عينينا وبشرتنا، حد أنها أسمتني أحمدًا على اسم طبيب المستشفى الذي نجح في ولادتي، ومثله نجح أبي بعد سنوات قليلة من حضوري في إنهاء دراسته بالمعهد، لكن ذلك لم يكن كافيًا لإلحاقه بنقابة المهندسين، التي لم يكن قانون الانتساب إليها يشمل المتخرجين في المعهد العالي للهندسة، وإن تشارك الاثنان في المفردة المكونة لاسميهما.
هل اكتفت أمي؟ لم تسترح كريمة لما وصلت إليه مع أبي في مشواره الدراسي، وبينما كانت منشغلة بالبحث عن مدرسة ابتدائية مناسبة لإلحاقي بها، أعلنت النقابة عن تعديل في قوانينها يسمح بانتساب خريجي المعاهد الهندسية العليا إن أجروا معادلة تستلزم التحاقهم بالدراسة مدة عامين في أي من كليات الهندسة.
والتحق أبي بالمعادلة في كلية الهندسة بجامعة الزقازيق في محافظة الشرقية، لكنه رسب في عامه الثاني، ونفد صبره من السفر والعمل والدراسة، وقرر أن يعدل عن استكمالها، لكن الأيام تمر تحرك عجلتها أمي فتدهس الصعب منها إلى ما فيه اليسر لمن حولها، واجتاز أبي المعادلة، والتحق بالنقابة، وعين في شركته مهندسًا وظل يرتقي في وظيفته إلى أن وصل لدرجة المدير العام.
تبدأ اللغة بحرف الشين
لم تستفد أمي من الرجال الذين مروا في حياتها بقدر ما أفادتهم، لكنها مثل كثيرات تفضل الذرية من الذكور على الإناث، وعندما لمحنا ابني يزيد للمرة الأولى، وكانت تقف إلى جواري على باب غرفة العمليات، حيث ترقد زوجتي شيرين، بعد أن فتحته الممرضة لتمرير أغراض يحتاجها الطبيب، لم تقل هذا ولد، لأنها بالتأكيد كانت تعرف نوعه الذي تكتمت عليه منذ شهره الخامس، وإنما قالت "ده أبيض"، بفرحة تكاد تتجاوز أي سعادة شعرت بها في حياتها قبل تلك اللحظة، هل كانت أمي تحتفل بتعزية الزمن لجدتي عما ظنت أنه تغيير ألحقته بجينات أحفادها؟ أم كانت تحتفي بزوجة ابنها التي امتلكت جينات قوية مثل جيناتها طغت على ما أورثته لابني؟ لم يمتلك يزيد عيني أبي وإن امتلك لونه، وأورثته شيرين عينيها البنيتين.
كنت في الجامعة، وكانت ترتدي بلوزة بنفسجية وجيبة، وكأنها حملت الشمس في عينيها لتضيء غرفة الأسر الكئيبة في كلية الآداب بجامعة حلوان، التي كنا ندرس فيها معًا في تخصصات مختلفة، كنت أتحدث عن رواية الحب في زمن الكوليرا لجابرييل جارثيا ماركيز عطفًا على النكتة السخيفة التي أطلقها يوسف معاطي على لسان عادل إمام في فيلم السفارة في العمارة، لكن شيرين لم تشارك الحاضرين نكتتهم وإنما عبرت عن إعجابها بالرواية وبفيرمينا داثا حب فلرونتينو إريثا الأبدي، بينما تجفل بين الجملة والتي تليها ليتغير الضوء في الغرفة بين نور وإظلام.
تحتفظ شيرين بالشمس في عينيها، وتضيء لي عبرهما البيت والشارع والناس والكتب، فتقيني شر أن أتعثر مثل أي أبله في الظلام، تخوض وحدها فيه بقدرة تفوق ما أملكه؛ عندما عادت منذ أيام مضطربة من عملها، كان ثمة حيوان يقف بين ممري نفق المترو الذي يربط بين اتجاهي حلوان والمرج في محطة جمال عبد الناصر، يتحين الفرصة لينقض على أي امرأة تعبر الطريق خلالهما، وعندما هم بلمس جسد شيرين عاجلته بالبوكس في وجهه، وجرته إلى الضابط، يحاول الأنطاع إثناءها عن ذلك بدعاوى الجبن المختلفة، لكن الضابط خذلها مثل من تحلقوا حولهما من الراكبين.
عندما عادت إلى البيت غاضبة تقص عليّ ما حدث لم يشغلني من كل ما جرى، سوى أن ما كانت تخوضه شيرين لم يضبب عقلها المتقد، رغم فوران أعصابها، فردت حين تصدى نطع تصل لحيته إلى منتصف بطنه لتخليص المتحرش منها، بدعوى أن تتركه إلى الله الذي سيرد فعلته في بناته، بآيات من سورة النجم تقول "أم لم ينبأ بما في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفى، ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى"، ولم تكتف بذكر "لاتزر وازرة وزر أخرى" المكرر تعبيرها في أكثر من موضع في سور القرآن المختلفة.
تحرر شيرين كل نصوصي وتطور أفكارها دائمًا إلى ما هو أعمق، لكنها تظن في كثير من الأحيان، أنني أثقل كاهلها، بما أوكله إليها إلى جانب ذلك، من مهمة البت في جميع قراراتنا المصيرية، غير أنها لم تفهم بعد أنني أثق في قدرة ستي وأمي وقدرتها على استبانة الطريق.
كنت أتمنى لو رزقت بابنة، لكن وهبني الله ولدين، غير أن عزائي أن امرأة قوية ستصنعهما مثلما صنعتني نساء قويات، وأن أيًا منهما أو كلاهما، سيكون أقدر مني على سرد حكاية عن كيفية إنقاذ أمهما حياتهم وأبيهم، لأنني مثل أي غريق يظن أن ذراعيه حملاه للنجاة، وليس جذع شجرة، تخلى بكرم عن جذره، فصار لوحًا يطفو به فوق الماء إلى الشاطئ.