أمام الباب الرئيسي لمطار طرابلس الدولي، كانت سيارة مرسيدس سوداء في انتظاري، كُتبت على لوحتها كلمة "مراسم". قلت لنفسي إن هذه سيارة لا تليق بصحفي صعلوك مثلي، وابتسمت. لكنني قلت لنفسي أيضًا إن المراقبة بدأت من الآن. كان ذلك في الأيام الأولى من فبراير/ شباط 2001، بعد أيام من إصدار ثلاثة قضاة أسكتلنديين في محكمة خاصة في قرية زايست الهولندية حكما ببراءة الأمين خليفة فحيمة من تهمة المشاركة في تفجير طائرة بان أميركان فوق قرية لوكربي الأسكتلندية، وكنت ذاهبا لتغطية عودته إلى منزله. لم يكن شهران قد مرا على زيارتي العاصمة العراقية بغداد، حيث رأيت كيف تخضع كل حركات المشاركين في مهرجان المربد الشعري لمراقبة النظام العراقي، فأصبحت جاهزًا لتجربة مراقبة جديدة مع نظام لا يقل قمعًا عن نظام صدام حسين.
استسلمت للسائق المُدَرَّب، وتركت له حقيبتي كأنني، كما يعاملني، أحد ضيوف الجماهيرية المهمين، وقابلت ترحيبه بعبارات مجاملة "مضادة"، ثم ارتديت وجهًا صامتًا، لكي أتمكن من ممارسة هوايتي في زياراتي الأولى للدول، وهي مراقبة المباني، ومحاولة استكشاف طبيعة سكانها، من خلال طرزها المعمارية. استسلم السائق، من ناحيته، لصمتي، فيما تفرغت لمتابعة المباني التي تمر سريعًا على جانبي الطريق. لم يكن غريبًا أن تكون المباني بيضاء، مكونة من طابق واحد، كما أن دهان نوافذها باللون الأخضر لم يكن غريبًا أيضًا، إذ لا بد أن ينعكس الكتاب الأخضر حتى على لون النوافذ. كان المشهد مملًا، ويدعو إلى النعاس، بعد رحلة طيران استغرقت ليلة بكاملها، مرورًا بساعات ترانزيت طويلة في مالطا، التي كان طيرانها هو الطيران الوحيد الذي يقوم برحلات منتظمة إلى ليبيا، بسبب الحصار الدولي المفروض على الجماهيرية القذافية العظمى.
كدت أغفو، لولا أننى رأيت على المدى البعيد بنايات مرتفعة على يمين الطريق، كانت خارج النسق المعماري الذي اعتادته عيناي تمامًا طوال دقائق الصمت بيني والسائق. ثم رأيت لافتة ضخمة بحجم اثنين أو ثلاثة من المباني ذات الطابق الواحد، فأثارت فضولي لمعرفة المكتوب عليها. عندما اقتربنا من اللافتة قرأت؛ "حي الأكواخ سابقًا". والتفتُّ لأرى الاسم الحالي للحي، لكنني لم أجد شيئًا. لاحقًا عرفت من شخص ليبي اصطحبني في سيارته، لضمان عدم المراقبة، أن هذا المكان كان مجموعة من الأكواخ، هدمها القذافي، وبنى مكانها تلك البنايات العالية، وأراد إعادة تسمية الحي، فسمّاه "حي الأكواخ سابقًا".
كنت أعرف أن ليبيا دولة غرائبية، كحاكمها، ولكن خيالي لم يذهب أبدًا إلى هذا الحد. داخلني شعور بأنني في دولة من تأليف جابرييل جارثيا ماركيز.
بعد حوالي 11 عامًا من هذه الزيارة كنت في طريقي إلى مطار بنغازي في سيارة تاكسي ظلت تهتز طوال الطريق، وتتمايل، لأن سائقها يحاول أن يتفادى الحفر والمطبات التي نسقط فيها من وقت إلى آخر، فتحول الطريق إلى فيلم أكشن أمريكي. قال لي سائق التاكسي "سامحني يا أستاذ، هذا الطريق لم تتم فيه أية إصلاحات منذ أن حكم الملعون ليبيا، قبل 42 عامًا. كان يكره بنغازي وأهلها". ربما كان السائق مبالغًا، لكن كلامه كان إجابة عن سؤال "لماذا بدأت الثورة الليبية من بنغازي؟"، وهو السؤال الذي صادفني كثيرًا في رحلة عملي الثانية إلى هذا البلد، لتدريب صحفيين ليبيين، هذه المرة، إذ أصبحت ممارسة المهنة أمرًا له معنى بعد الإطاحة بالقذافي.
فسر لي كلام السائق سر إرسال القذافي رتلًا من الدبابات والمدرعات إلى بنغازي، مهددًا بإبادتها، قبل أن تتدخل طائرات حلف الناتو، وتقصف الرتل، على مشارف المدينة. في عام 1963، بدأ معمر القذافي دراسته في الأكاديمية العسكرية الملكية في بنغازي، التي تخرج فيها عام 1965، وأسس خلال فترة دراسته تنظيم "الضباط الأحرار" الذي قاد من خلاله انقلابه على الملك السنوسي عام 1969. وعلى الرغم من دراسته فيها، فإن كل من تحدثت إليهم في بنغازي قالوا لي إنه معروف بكراهيته لهذه المدينة، لكن أحدًا لا يعرف السبب. أما شواهد الكراهية، فتبدو واضحة من خلال مقارنة بسيطة بين مدينتي طرابلس وبنغازي.
لا أريد لخيالك أن يذهب بعيدًا، فتعتقد أن طرابلس مدينة حديثة تعبر عن ثراء عاصمة دولة نفطية، لأن أية مقارنة يمكن أن تعقدها بين طرابلس وبنغازي هي، في حقيقتها، مقارنة بين السيئ والأسوأ. تبدو الشوارع الرئيسية في طرابلس مثل "وش القفص في عربية الفاكهة"، فهي مرصوفة جيدًا، ومبانيها مطلية بالأبيض، مع نوافذ خضراء، طبعًا، لكن خلف الواجهة ما خلفها.
في 2001 كنت أعمل في صحيفة صوت الأمة، عندما دخل عليَّ أستاذي عادل حمودة رئيس التحرير، وسألني "باسبورك معاك؟"، فأخذه مني، قائلًا "جهز نفسك علشان تسافر ليبيا بعد بكرة. بكرة هييجي لك الباسبور بالتأشيرة، ومعاه التذكرة". في ذلك الوقت، كانت صوت الأمة تتابع محاكمة الليبيين عبد الباسط المقرحي والأمين فحيمة، المتهمين في قضية تفجير طائرة بان أميركان فوق قرية لوكربي الأسكتلندية. في 31 يناير 2001، نال فحيمة حكمًا بالبراءة ليعود فورا إلى ليبيا، فيما حكم على المقرحي بالسجن مدى الحياة. وكانت عودة فحيمة حدثا يستحق التغطية، على الرغم من محاولة نظام القذافي استخدامها دليلا على براءة المقرحي، وبراءة النظام نفسه، الذي اعترف، لاحقًا، بمسؤولية ليبيا عن التفجير، ودفع 2.7 مليار دولار تعويضات لأهالي الضحايا. وصل فحيمة إلى بيته يوم الخميس، ووصلنا إلى طرابلس صباح الجمعة، لنلحق بالاحتفالات في المساء.
تحمل الزيارة الأولى لأي بلد صدمتك الأولى، أو دهشتك الأولى، لكن زيارتي طرابلس جمعت بين الصدمة والدهشة في مزيج لا يسهل فهمه لمن لم يمر بالتجربة. كانت صورة ليبيا في ذهني هي صورة الدولة النفطية الثرية، التي يعيش أهلها تحت حكم قمعي، لكنهم يتمتعون بالثراء، كما هو الحال في كثير من دول الخليج النفطية. ولكن مطار طرابلس الدولي هز تلك الصورة مبدئيًا، إذ وجدته صغيرًا فقيرًا مهملًا متسخًا، ولا تمكن مقارنته بأي حال بمطار القاهرة الدولي القديم، عندما كان في حالة يرثى لها قبل تجديده.
ولكن عندما زرت بنغازي بعد 11 عامًا، وجدت مطارها الدولي أسوأ من أي توقع. لم يكن بالإمكان أن أقارنه بأي مطار محلي في مصر، وكانت المقارنة الوحيدة التي خطرت على ذهني وقتها هي مقارنته بموقف عبد المنعم رياض للأتوبيسات في القاهرة. عندما تنزل من سلم الطائرة، ستجد كل حقائب الركاب ملقاة على الأرض، تحت الطائرة، وعلى كل راكب أن يتعرف على حقيبته. سيكون عليك أن تجر حقيبتك في اتجاه مبنى صغير من طابقين، وأن تضعها في ثقب في جدار المبنى. سيتبين لك، عندما تعبر من الباب، أنه سير للحقائب، لا يزيد طوله عن ثلاثة أمتار. ستنجح، بلا شك، في التقاط حقيبتك من السير، لأنه شبه متوقف، لكن سيكون عليك أن تحملها على ظهرك، وتصعد سلمًا يشبه سلالم المباني السكنية، بحثًا عن صالة الجوازات.
لا توجد صالة جوازات. هناك ممر بطول حوالي 10 أمتار، في نهايته رجل يجلس خلف مكتب خشبي متهالك، يشبه مكتب "البلوكامين" في أقسام الشرطة المصرية، وهذا الرجل هو الجوازات. لا، لا، لا يوجد كمبيوتر، فالرجل أمامه كشف مُسطَّر بالقلم الجاف على ورق فلوسكاب، مقسم إلى خانات: رقم مسلسل، الاسم، الجنسية، رقم الجواز، قادم من، رقم التأشيرة، ملاحظات. وهو يملأ كل هذه البيانات يدويًا، بقلم جاف قديم، راكبًا، راكبًا، قبل أن يضرب الختم في المحبرة ليمنحك ختم الدخول. قلت لنفسي "كان بإمكان مليارات تعويضات لوكيربي أن تبني أحدث مطار في بنغازي". واكتشفت أن مطار طرابلس أفضل قليلًا، ثم استبعدت المقارنة، خصوصًا أن زيارتي وقتها كانت زيارة شبه رسمية، مشمولة برعاية نظام يأمل في استخدامي في الدعاية السياسية له.
انتهت دقائق الصمت التي بدأت من مطار طرابلس عندما وصلنا إلى فندق المهاري على كورنيش المدينة. استقبلني موظفوه بترحاب متوقع، وقال لهم السائق الذي أصر على أن يسحب حقيبتي إلى الاستقبال "ضيف الأستاذ أحمد". تكررت هذه العبارة كثيرًا طوال زيارتي، وكانت تفتح كل الطرق المقفولة، بالمعنى الحرفي، ولم أتجرأ على السؤال "مين الأستاذ أحمد؟"، لكنني عرفت، لاحقًا، أن المقصود هو أحمد قذاف الدم، منسق العلاقات المصرية الليبية، وابن عم الأخ قائد الثورة، والرجل القوي في ليبيا وقتها. أدهشني مفتاح الغرفة الحديدي، الذي يشبه مفتاح بيتنا القديم في الصعيد، أو مفاتيح غرف اللوكاندات القديمة في العتبة ورمسيس. وبمجرد دخولي إلى الغرفة، أخذت أتفحصها، لأعرف إذا ما كانت هناك كاميرات، لكن هذا الهاجس سرعان ما اختفى، إذ من الطبيعي أن تكون هناك معدات مراقبة مختلفة،كما أنني لا أملك ما أخفيه، ولن أفعل ما يدعو إلى الريبة مع نظام كهذا، وفقا لنصحية أستاذي عادل حمودة. قلت لنفسي إنني سأنام ساعة لأستريح بعد ليلة سفر متعبة، انتهت بهبوط عجيب من قائد طائرة إير مالطا. التفّت الطائرة بزاوية تقترب من 360 درجة، ثم هبطت مباشرة لتلامس الأرض. قبل هذا الدوران شديد الحدة، كان من السهل أن أرى من النافذة حاملات الطائرات التابعة للأسطول السادس الأمريكي، منتشرة في المياه الدولية، أمام الساحل الليبي.
أيقظني صوت تليفون الغرفة، وجاءني صوت موظف الاستقبال "مكالمة من مكتب الأستاذ أحمد". وعلى الطرف الآخر سمعت من يقول "أهلًا بك أستاذ ياسر، هنا مكتب الأستاذ أحمد، حمدا لله على سلامتك، ومرحبًا بك. إذا احتجت أي شيء، نحن تحت أمرك". استخدمت عبارات مجاملة "مضادة"، ثم حاولت أن أعود إلى النوم، لكن التليفون رن مجددًا، وكانت مكالمة من السفارة المصرية "سعادة السفير بيبلغك تحياته، وبيقول لك حمدا لله على سلامتك، ولو احتجت أي حاجة اتصل بنا على رقم كذا". بين محاولات النوم، لم يدهشني كيف عرفت السفارة المصرية بأمر وجودي، لكنني شعرت بنوع من الطمأنينة. لا فائدة من النوم إذن، فلأفتح التليفزيون لأتسلى قليلًا، قبل أن يبدأ البرنامج المعد سلفًا لزيارتنا. عندما فتحته لم أجد سوى قنوات معدودة، على كل منها برامج عن القذافي، أو برامج عن الكتاب الأخضر، أو خطب معادة للأخ قائد الثورة. رن جرس التليفون مرة ثالثة، كأن مكتب الأستاذ أحمد يراقب أفكاري "أستاذ ياسر، ستكون السيارة جاهزة الساعة السابعة مساء لتأخذك إلى بيت فحيمة". وبعد قليل، اتصلت السفارة المصرية للاطمئنان.
مصادفات غريبة في بلد غريب
بعد 11 عامًا، كان حضور السلطة مباشرًا في شوارع بنغازي. لم تكن سلطة بل سلطات، كل منها لها منطقة نفوذ. قبل الهبوط في مطار بنغازي، لاحظت أيضًا حضور حاملات الطائرات التابعة للأسطول السادس الأمريكي أمام الساحل الليبي. وفي الطريق من المطار إلى فندق تيبستي، شاهدت انتشار الميليشيات المسلحة في الشوارع في منظر مخيف. أوقفتنا كمائن عسكرية عدة، لكن أفرادها كانوا يسمحون لي بالمرور، بعد أن يفحصوا جواز سفري المصري، مع كلمات ترحيب لم تنجح في إزالة الخوف من تلك المدافع الخفيفة المحمولة على سيارات رباعية الدفع. كانت هناك آثار لما بدا لي أنه معارك على الجدران والمباني، وعبارات مع الثورة، وأسماء شهداء.
كان الفندق أشبه ما يكون ببيت أشباح، فلا نزلاء تقريبًا. الاستقبال فارغ، باستثناء موظف واحد يتحدث مع رجل عجوز أوروبي الملامح. انتظرني الرجل إلى أن أنهيت إجراء التسجيل، ثم سألني "هل تتحدث الإنجليزية؟"، فأجبته بالإيجاب. شعرت بأن الأوروبي العجوز وجد منقذًا. قال لي إنه يريد أن يتحدث مع موظف الاستقبال، لكن الموظف لا يتحدث الإنجليزية، فتوليت عملية الترجمة. كان الأوروبي العجوز صحفيًا هولنديًا جاء ليكتب كتابًا عن ليبيا، وأخبرني بأنه سيذهب إلى واحة في الجنوب في اليوم التالي. سألته إذا ما كان الوضع آمنًا، فقال "سأتدبر أمري، ولكن هل يمكن أن تساعدني في التواصل مع الموظف إذا احتجت لذلك غدًا؟". كان مدهشًا أن موظف استقبال في فندق خمس نجوم لا يتحدث أية لغة باستثناء العربية، لكن أصدقاء ليبيين أخبروني بأن القذافي منع تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس "لأنها لغة الاستعمار".
عاش القذافي فترة تعليمه العسكري في بنغازي، التي تبعد حوالي ألف كيلو متر عن العاصمة طرابلس، و569 عن مدينة سرت، التي أكمل فيها دراسته الابتدائية. ولد القذافي في قرية قريبة من سرت تدعى "جهنم" في 7 يونيو 1942، وبعد إتمامه الدراسة الابتدائية أرسله أبوه إلى مدينة سبها في الجنوب الغربي، حيث واصل تعليمه على مدرسين كان أغلبهم من المصريين. والأرجح أن هذا ما فتح عينيه على متابعة جمال عبد الناصر والمد القومي العروبي في ذلك الوقت، وهو ما كان له أثر كبير في اختياراته وتوجهاته اللاحقة، بدءًا من اختياره دراسة التاريخ، قبل أن يلتحق بالاكاديمية العسكرية الملكية، مرورًا بتأسيسه تنظيم الضباط الأحرار، وصولًا إلى استيلائه على الحكم عام 1969. كان القذافي أكثر من يعرف أن الطريق إلى الحكم في طرابلس لا بد أن يبدأ من بنغازي، وهذا ما حدث بالضبط عندما ثارت بنغازي عليه في 17 فبراير 2011، لكنه لم يفعل شيئا، طوال 42 عامًا من حكمه، لكي يتفادى ذلك.
وعلى الرغم من الخوف الذي شعرت به في بنغازي، فإنني لم أشعر مطلقًا بهذه المراقبة اللصيقة التي شعرت بها في طرابلس. كان غريبًا أن تتصل بي السفارة المصرية، فيتبعها اتصال من مكتب أحمد قذاف الدم، أو العكس، لكنني عزوت ذلك للمصادفات. فكرت في أنني أريد أن أرى المدينة بعيوني، وليس بعيون مكتب الأستاذ أحمد، لكنني فكرت أيضًا في تلك الرقابة التي لم يحرص أصحابها على إخفائها. وفكرت في أنهم لا يريدونني أن أرى بنفسي، فقلت إن الحل هو أن أراقبهم إلى أن أجد ثغرة للخروج من الفندق وحدي. نزلت إلى ردهة الفندق، وجلست، وتعمدت ألا أسلم مفتاح الغرفة لموظفي الاستقبال، لكي أعطي انطباعًا بأنني موجود في الغرفة، وأخذت أراقب باب الفندق إلى أن جاءت لحظة، يمكن أن تقدرها بإحساسك، شعرت فيها بأنني يجب أن أخرج الآن، ففعلت. كان كورنيش طرابلس هادئا بشكل لا يناسب مدينة متوسطية، فالمارة قليلون، كما أنهم من النادر أن ينظروا إلى البحر، أو أن يتوقفوا أمامه. مشيت إلى أن وصلت إلى مبنى قديم جميل عليه لافتة تقول "الفندق الكبير"، ولم أنتبه إلى أن هذه ترجمة للاسم الأصلي للفندق وهو Grand Hotel، فليس مسموحًا بتسمية الأشياء بأسماء غير عربية.
ليس على كورنيش طرابلس ما يمكن أن تشاهد، فالبحر على يمينك، والمباني الصامتة على يسارك، ولا أثر لحياة يمكن أن تعتبرها طبيعية. قلت إنني يجب أن أدخل إلى العمق، في الشوارع الخلفية الموازية للكورنيش، لعلني أرى الحياة كما تحدث بالفعل. خلف مباني الكورنيش مباشرة كان الفقر مختبئًا على هيئة بيوت شبه عشوائية، أقرب ما تكون إلى بيوت الأحياء الشعبية في إمبابة وبولاق الدكرور. دكاكين صغيرة قديمة، وبشر يشبهوننا، ومطاعم شعبية، ولا أثر على الإطلاق يدل على وجودك في دولة تمتلك كل هذه الثروات النفطية الهائلة، فأين تذهب عائدات النفط؟
عدت إلى الفندق، ففاجأني موظف الاستقبال بوجه قلق "أين كنت يا أستاذ؟ مكتب الأستاذ أحمد اتصل تلات مرات". طلبت منه أن يتصل بهم، فجاءني صوت "لا، ولا شيء، بس حبينا نتطمن عليك أستاذ، ونؤكد على موعد الذهاب إلى بيت فحيمة في المساء". عندما أنتهت المكالمة والتفتُّ، سمعت صوتًا مصريًا هادئًا يقول "أهلًا بك أستاذ ياسر. أنا فلان الفلاني سكرتير تالت من السفارة المصرية. سعادة السفير داعيك تشرب معاه شاي، لو وقتك يسمح دلوقت". قلت له "طبعًا، يسمح جدًا". عندما دخلنا إلى مبنى السفارة، شعرت بالكثير من الاطمئنان، الذي زاد بابتسامة السفير هاني خلاف. "تشرب إيه بقى يا بطل؟"- سألني، فأجبت: "شااااااي، شاي كشري مصري تقييييل". كان الرجل دبلوماسيًا من طراز رفيع. تبادلنا أحاديث كثيرة في السياسة والثقافة، وكانت نصيحته "حاول إنك تسمع بس".
في الطريق إلى بيت الأمين فحيمة، انحرفت السيارة إلى طريق فرعي، عليه لافتة تقول "طريق خاص"، ولجنة تفتيش أوقفتنا لحظة، قبل أن تفتح الطريق بكلمة السر التي خرجت من فم السائق "ضيف الأستاذ أحمد". قال السائق "هذا الطريق أسرع، وأقل ازدحامًا". يشبه بيت فحيمة دوار العمدة في الصعيد: بيت عالي الجدران، أمامه مساحة مفتوحة كبيرة، امتلأت عن آخرها بالمهنئين، الذين انتظموا في حلقات على الأرض، حيث دارت أكواب الشاي الليبي الصغيرة على الجميع. يستخدم الليبيون الشاي الأخضر، ويغلونه لفترة طويلة جدًا، ثم يصبونه للضيوف في كؤوس صغيرة جدًا، ويسحبون براد الشاي إلى أعلى، حتى تزداد الرغوة في الكأس، فيصبح نصفه شايًا، والنصف الآخر رغوة، ويكون المذاق أقرب إلى المرارة. لم يكن لدى الأمين فحيمة ما يقوله سوى كلمات الترحيب مع كل رشفة شاي، وتكرار حمد الله على البراءة. بدا رجلًا بسيطًا، مطيعًا، لا يصلح لمهمة خطرة كالمشاركة في زرع قنبلة على متن طائرة، أو لعله كان ماهرًا بما يكفي لكي يبدو كذلك، لكن المحكمة الأسكتلندية لم تجد أدلة تكفي لإدانته.
على العكس من فحيمة، وجد القضاة أن الأدلة المتوافرة ضد عبد الباسط المقرحي، "الضابط ذي المستوى الرفيع في المخابرات الليبية"، كافية لإدانته بتهمة القتل، والحكم عليه بالسجن مدى الحياة، استنادًا إلى القانون الأسكتلندي. قال لي صحفيون، عرفتهم لاحقًا، تابعوا محاكمة لوكربي في قرية زايست الهولندية، إنهم لاحظوا فرقًا كبيرًا بين شخصيتي المقرحي وفحيمة، وإن الأول كان واضحًا أنه تلقى تدريبًا مخابراتيًا عالي المستوى، وكان شخصية قوية، حازمة، صامتًا أغلب الوقت، على عكس الثاني الذي كان شخصًا عفويًا، ضحوكًا، تمامًا كما رأيته في بيته بعد إطلاق سراحه. رفض المقرحي الاعتراف بقرار المحكمة، ورفضت دولته القرار كذلك، واستمرت في الدعاية المضادة لسردية المحكمة الأسكتلندية. وربما كان جزءًا من برنامج الدعاية أن نزور والدة عبد الباسط المريضة في المستشفى، بعد أن زرنا فحيمة المبتهج بالبراءة في بيته.
كانت والدة عبد الباسط سيدة عجوزًا تعدى عمرها السبعين، ترقد على سرير عادي في أحد مستشفيات طرابلس، بسبب مرض في القلب، لكن ربما أراد المضيفون أن نفسر مرضها بالحزن على ابنها المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة. طلب أحد المرافقين الليبين أن أصور الأم إذا أردت، فقلت "أنا لا أصور المرضى، احترامًا لخصوصيتهم". لم تستغرق الزيارة خمس دقائق، إذ لم تكن الأم في كامل وعيها، فتمنيت لها الشفاء، وطلبت الذهاب حتى لا نزعجها. لاحظت أن المستشفى نظيف، لكنه لا يليق بدولة فيها كل هذه الثروات النفطية، وربما لذلك يسافر أهالي غرب ليبيا إلى تونس للعلاج، ويسافر أهالي الشرق إلى مصر لأفضلية الخدمات الصحية في قطاعها الطبي.
انتقلنا لزيارة أسرة عبد الباسط المقرحي في بيته الواقع في حيٍّ راقٍ من أحياء طرابلس، يدعى حي دمشق. مقارنة ببيت فحيمة، كان بيت عبد الباسط أقرب إلى فيلا ذات بناء حديث، كما أن أثاث غرفة الضيوف كان من النوع المودرن، وكذلك ملابس زوجته وأبنائه الخمسة. لم تكن أيام مرت على الحكم بإدانة عبد الباسط، لكنني لم ألمح أية مظاهر للحزن في البيت الذي سيغيب عنه صاحبه، وفقا للحكم القضائي، 20 عامًا على الأقل. كانت الأسرة صامتة، كأن الزيارة إجرائية، ولم تبدر من أي من أفرادها أية كلمات سوى التأكيد على البراءة. قالت لي ابنته الكبرى غادة إنها ستدرس القانون الدولي، بعد أن لمست الظلم الواقع على والدها في المحاكمة.
تذكرت بيت عبد الباسط المقرحي، بعد ذلك، عندما دعاني صحفي ليبي صديق إلى العشاء في بيته في بنغازي، مع عدد من الزملاء المشاركين في التدريب الذي قدمته لهم على المهارات الصحفية. كان العشاء كسكسي ليبيّا في صينية كبيرة يأكل منها الجميع، وكان الحديث عن مستقبل ليبيا بعد الثورة. طوال أيام التدريب الخمسة، سمعت حكايات مرعبة عن جرائم ارتكبها القذافي ضد أهالي بنغازي طوال فترة حكمه. سمعت حكايات عن الإعدامات العلنية في ملعب الكرة الرئيسي في المدينة، لكن أبشع ما قيل لي إن القذافي كان يجبر الأمهات على حضور إعدام أبنائهن (أعداء الشعب)، وعلى إطلاق الزغاريد بعد الإعدام. بدا الأمر لي كأن فيه الكثير من المبالغة، لكنه يصبح أقرب إلى التصديق عندما تقرأ عن مذبحة سجن أبو سليم في طرابلس، التي أُعدم فيها قرابة 1200 سجين، رميًا بالرصاص، خلال ساعة واحدة، عقابًا على محاولتهم التمرد.
لم يكن القمع يستهدف بنغازي وحدها كما يظن أهلها. كان الليبيون متساوين في القمع كأسنان المشط، لكن التهميش الذي شعر به أهالي بنغازي ربما كان السبب الرئيسي في مضاعفة إحساسهم بالظلم، خاصة مع تركز أغلب الثروات النفطية في المنطقة الشرقية من ليبيا، وحرمانها في الوقت ذاته من أية مشروعات تنموية مقارنة بالمنطقة الغربية. ضم العشاء في بيت صديقي ليبيين من مناطق مختلفة، مما أشعل الحوار، فسمعت للمرة الأولى كلامًا عن الحكم الفيدرالي في ليبيا، وحق أهالي الشرق الليبي في نيل حصتهم من الثروات النفطية، وتوزيع ثروات ليبيا توزيعًا عادلًا.
في صباح اليوم التالي، تحدثت إلى زملائي عن أصوات الطلقات النارية التي كنت أسمعها طوال الليل، فأخبروني بأن هذا أمر طبيعي، لأن كل ميليشا تعلن عن حضورها، وعن مناطق نفوذها، بهذه الطريقة. وفي استراحة الغداء، فوجئت بأن مطعم الفندق ممتلئًا على غير العادة. كان هناك العشرات ممن يرتدون جلاليب بيضاء قصيرة، ويطلقون لحاهم الحمراء إلى صدورهم، فقيل لي إن من هؤلاء قادة ميليشيات، وإنهم يجتمعون اليوم لبحث أمر الانتخابات البرلمانية في المنطقة الشرقية. وخارج الفندق، كان هناك مسلحون كثيرون، وعربات رباعية الدفع تحمل مدافع خفيفة.
قبل هذا الاجتماع بنحو شهرين، في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، كان القذافي مع مرافقيه يحاولون الفرار من غارة شنتها طائرات من حلف الناتو على موكبه، فعثر عليه ليبيون مختبئا فيما قيل إنه ماسورة مجارٍ في محيط مدينة سرت، وقريبًا من مسقط رأسه (قرية جهنم)، وكانت حوالي ثمانية أشهر مرت على انطلاق الثورة الليبية في بنغازي. بعد العثور عليه قُتل القذافي بشكل وحشي، لكن يمكن تفهمه عندما تستدعي تفاصيل 42 عامًا من الحكم القمعي الوحشي. هل كان على الطاغية أن يمثل أمام القضاء ليحظى بمحاكمة عادلة؟ بالنسبة لي "نعم"، ولكن القذافي لم يمهّد في سنوات حكمه طرقًا للعدالة، فاختار الليبيون تطبيق "عدالة الجماهير".