يوتيوب
عزت العلايلي في لقطة من فيلم الأرض

مرثية لعزت العلايلي: إرث من شهادات على تاريخ الوطن

منشور الاثنين 15 فبراير 2021

رحل عزت العلايلي، لتقع قطعة أخرى من الدومينو التي تتساقط واحدة تلو الأخرى لممثلي الجيل القديم، أو كما يحلو للبعض أن يسميه الجيل الذهبي.

ترك العلايلي وراءه 192 عملًا، وهو الإرث الكبير الذي يصعب على المرء أن يُلم به، ولكنه ترك للمشاهد أيضًا حرية الانتقاء، بما يتناسب مع ما يريد، وأنا اخترت من إرثه أربعة وجوه، فلاحين وضابطين، يمثل كل منهم صرخة تكشف عن عطب في إحدى محطات تاريخ الوطن.

لا يمكن النظر إلى تجربة العلايلي كممثل بمعزل عن البيئة التي نشأ فيها، فالطفل الذي وُلد في باب الشعرية، ونشأ في حي بركة الفيل بالسيدة زينب، اكتسب مقدرة للتعبير عن آلام هؤلاء المطحونين في الحارات، أو جيرانهم من أبناء الطبقة الوسطى الذين يسكنون العقارات المطلة على الشوارع الرئيسية، بحكم أنه خالطهم، وعُجن طين شخصيته بالعيش معهم ومشاركاتهم الآمال والآلام، وهو ما نلمحه في التزامه الجاد في الأفلام التي قدمها.

ما يؤيد ذلك ويعبِّر عن وجهة نظر العلايلي في الفن، إجابته عن سؤال: ممثلًا سينمائيًا أم مسرحيًا؟ وكان ضيفًا في أحد حلقات برنامج سينما القاهرة من تقديم الإعلامية ناهد جبر، ورد أنه يعتبر نفسه كلاهما، فهو ينظر لهما كتعبير إنساني واحد عن الفن، ولا فرق بينهما في وجهة نظره، فممثلي السينما والمسرح يجب أن يقدموا قضية تمس هؤلاء الجالسين وراء الشاشة.

تخرج العلايلي في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1960، ولذلك تأثر في أفلامه ومسلسلاته بالأداء المسرحي، الذي يعتمد على المونولوج ونبرة الصوت والانفعالات، وطوره فيما بعد ليناسب السينما، فاستفاد من تجربة المسرح، وأفاد في تجربة الممثل السينمائي والمسرحي، وهو ما أعطاه مرونة في تقديم العديد من الشخصيات المتنافرة، تلك المرونة التي بدت في شخصيته منذ أن كان طفلًا، يهوى تقليد معلميه في المدرسة، ويوسف وهبي ونجيب الريحاني، ويعشق أن يؤدي مونولوجًا لشكوكو أمام زملائه.

تربى العلايلي في كنف التمثيل منذ أن التحق بفرقة التمثيل في مدرسته، فكان كطفل الأعراب الذي يولد مجيدًا للشعر، فهكذا كان عزت ممثلًا منذ نعومة الأظافر، ساعده كل ذلك أن يؤدي شخصياته كلها دون انفعالات زائدة عن الحد تُشعر المشاهد بالافتعال، وبذلك اكتسب ميزة الصدق عند المشاهدين، في أدواره العديدة التي قدمها، والمختلفة في شكلها غالبًا، فكان الرجل يكافح الأنماط والقوالب التمثيلية، فحتى وإن قدم الفلاح، فيختلف فلاح عزت الثائر في الأرض، عن فلاحه الجبان في المواطن مصري، وفلاحه المتجبِّر في الطوق والإسورة، عن فلاحه المغفل في وقال البحر، فاستحق عزت كلمة تلميذه محمود حميدة، حين قال: "جمجمة عزت العلايلي تُدرس".

عبد الهادي.. فلاح في مواجهة السلطة

في فجر أحد الأيام، كان عزت وأصدقاءه يتسامرون في منزله، فإذا بطرق على باب شقته، فيتساءل العلايلي عن هوية الطارق في ذلك الوقت المبكر من الصباح، وإذا به يوسف شاهين، الذي سرعان ما  أخبره: "بكرة تيجي مع حسن فؤاد الشركة تمضي عقد فيلم، هتشتغل معايا في الأرض" تعجب عزت من تلك السرعة الآلية التي يخاطبه بها شاهين، ولم يملك أن يرفض، خاصة أنه كان على معرفة بالرواية، إذ أدى دورًا فيها بالفعل حينما قُدمت كمسرحية، وهو الدور الذي أعجب شاهين ودعاه إلى اختيار عزت الممثل الموهوب، ليقدم شخصية عبد الهادي في فيلمه.

للأداء التمثيلي العديد من المدارس، وعزت العلايلي ينتمي للمدرسة الكلاسيكية بأسلوبها المعروف "التيباج"، الذي يعني أن المظهر والتصرف الخارجي للممثل يجب أن يطابق المظهر والتصرف الخارجي للشخصية التي يؤديها، وهو ما يجعل الممثل يعيش الشخصية حتى خارج البلاتوه، ويمنحها جزءًا من حياته الشخصية بعيدًا عن التمثيل، فكما جهز دي نيرو في دور ترافيس بيكيل لتلك الشخصية، بممارسة مهنة سائق التاكسي والالتحام بذلك المجتمع عن قرب حتى يتجلى في أداءه للشخصية، هكذا أدى عزت العلايلي أدواره.

نشير هنا إلى دوره في فيلم الأرض "عبد الهادي"، ففي حديث أفضى به الراحل في آخر أيامه إلى الإعلامية إنجي علي، يتحدث فيه عن كواليس تجهيزه لتمثيل شخصية عبد الهادي، اتبع عزت حمية غذائية قبل تصوير الفيلم وتدرب بدنيًا كثيرًا ليظهر بمظهر الفتى مفتول العضلات، الذي تليق بشخصية أبية وثائرة كعبد الهادي، والمشهد الشهير لعبد الهادي وهو يحمل البقرة مستنجدًا بالحسين من أجل إخراجها من الساقية، كان نتيجة لمحاولات عديدة أخرى قبل أداءه، فكان عزت يذهب لأحد الفلاحين ويعطيه بعض الجنيهات ليساعده في استكشاف مدى عمق الساقية وطبيعة مياهها وما إذا كانت ملوثة، والطريف أن الفلاح رفض هذا الطلب من عزت، وبطبيعته المغامرة قرر عزت أن ينزل في الساقية بنفسه، وتفانى في أداءه لمشهد نجدة البقرة، لدرجة أصابته هو في الواقع بالديدان.

"بتفكر في إيه؟ سلامتك م الفكر يابا محمد.. ما تيجي نقرا فاتحة وصيفة دلوقتي".

قدم عزت العلايلي في ذلك المشهد من فيلم الأرض أحد تجلياته في الأداء، التي عبَّر فيها من خلال ضحكاته التي خنقتها الدموع عن  المرارة والطموح اللتين تحملهما شخصية عبد الهادي، الفلاح المصري الفتيّ، الذي يبرع في خلط الفرح بأشد لحظات كربه. في أواسط ثلاثينيات القرن الماضي.

جاءت شهادة العلايلي على هذا العصر من خلال تلك الشخصية التي قدمها، في فيلم الأرض الأيقوني، وبنظراته الذليلة لحميه محمد أبو سويلم (محمود المليجي)،  في المشهد الختامي، بيُنما يُسحَل متمسكًا بتراب أرضه، ولا يملك عبد الهادي سوى الخضوع، عبَّر العلايلي بنظرات عينيه عن الذل والخضوع اللذان لم تكن حياة الفلاح لتستقيم دونهما آنذاك، من خلال الصور المكبرة التي قدمها يوسف شاهين في نهاية فيلمه، لقبضة يد محمد أبو سويلم المدماة على التراب، بعد فشل ثورته، بسبب قوة العدو، وخيانة الحليف، لتمر أمامنا صورة مكبرة لمأساة الريف المصري.

يسهل على كل مصري أن يعي جيدًا دوافع ثورة محمد أبو سويلم، لأنه يعلم أن تلك البلاد هي هبة النيل، ومن يفرض سيطرته على المياه، فهو يمتلك رقاب الناس بين يدين، لذلك كانت مسألة الماء قضية الحياة لفلاحي أرض هذا الفيلم، حين يأتي قرار مركزي من الحكومة يقضي بتخفيض أيام تزويد أراضي الفلاحين بالمياه شهريًا من عشرة أيام إلى خمسة، وكأن العشرة كانت كافية لهم أصلًا، مما لا يدع لفلاحي الأرض سوى الثورة، حتى لو كانت ثورة تتصاعد فيها الدوافع الفردية والأنانية التي تفرّقهم وتحزّبهم، وتنتشر الخيانات والصراعات بينهم، وفوق هذا كله يريد الإقطاعي ذو الأصل التركي أن يشق طريقًا سهلة على ضيوفه وصولًا إلى قصره، مما يجعله يجور على أرأضي الفلاحين، ويأتي برجال الشرطة الذين يطبقون حظر تجوال عليهم.

كل تلك الأحداث تفجر نارًا يشعلها محمد أبو سويلم ذو الخلفية النضالية العميقة، بمساعدة من الشاب عبد الهادي، فيدخلان في جبهتي صراع؛ أولهما مع بعض الفلاحين الذين يركنون إلى جانب السلطة الآمن، والأخرى مع الإقطاعيين والحكومة، وتقود تلك الأحداث أبو سويلم وصهره إلى السجن، حيث تحاول السلطة تجريدهما من شرفهما بحلق شاربيهما، وإرغامهما على شرب بول الخيل، وغيرها من الانتهاكات. صورة جلية قدمها شاهين عن عصر البطش بالفلاح المصري في زمن الإقطاع والملكية، وصورة رمزية أخرى عن ضياع الأرض، إذ عُرض الفيلم أعقاب نكسة 1967.

حسن الوكيل.. ليه اتهزمنا سنة 67؟

رفضت مؤسسة السينما في البداية إنتاج الفيلم تحاشيًا لمعركة حتمية ستدخلها مع السلطة نظرًا لما يحتويه من رسائل هجومية واضحة، وحينما عرض الفيلم سنة 1975 كان حُذف منه بالفعل أكثر من 20 مشهدًا. نتحدث هنا عن زائر الفجر، التجربة السينمائية التي تعد مغامرة على مستوى كل شيء، فهو الفيلم الثاني لمخرجه ممدوح شكري، الذي مات مكلومًا على منعه من العرض ولم ينل فرصة أن يراه في السينما، وجاء إنتاجه من بطلة الفيلم نفسها ماجدة الخطيب، بعد رفضه من شركات الإنتاج الكبرى، وتعاون مع ماجدة في هذا الفيلم مجموعة من الفنانين المتحمسين، على رأسهم عزت العلايلي، الذي قبل عرض صديقته ماجدة، وفي تلك الفترة كان عزت أصلًا مغامرًا ومجربًا، ومنفتحًا على التجارب الإنتاجية والإخراجية المستقلة، ففي ذلك العام كان قدم دوره في فيلم اللبناني المثير للجدل ذئاب لا تأكل اللحم.

"أنا عرفت دلوقتي بس.. ليه احنا اتهزمنا سنة 67".

في أعقاب نكسة 1967 تكشفت الممارسات القمعية لنظام عبد الناصر، وهو ما فتح أبوابًا تأتي منها تيارات النقد اللاذعة، كان أبرزها السينما التي قدمت مجموعة من الأفلام تحاول أن تفتش في أسباب الهزيمة.

قدم العلايلي دور وكيل نيابة، مخوَّل بالتحقيق في قضية مقتل الصحفية اليسارية نادية الشريف، المشهورة بمعارضتها للنظام القائم آنذاك، ومن خلال التحقيق في حياة وتصرفات العديد من الشخصيات التي ترتبط بها، ويمكن أن يكون لكلٍ منها دور ورابط بمقتلها.

وكلما يقترب المحقق من حل القضية، نجد الفيلم يبتعد بنا عن قصته الأولى وهي مقتل الصحفية، فتلك القضية تنعكس على نفس حسن الوكيل، فبعد أن دخلها بأفكار بسيطة وحماسية كأي محقق يتطلع لكشف غوامض قضية جنائية، وجد نفسه يكتشف من خلال تحقيقاته ومقابلاته، ملامح حياة نادية الشريف وحقيقة النظام الذي يعمل لصالحه، ويساعد على رسوخه، وكيف أن الفساد ينخر فيه كالسوس، وأن المجتمع يتداعى تحت وطأة ذلك الفساد، فمن أدنى درجات هرم السلطة إلى أعلى مستوى في الأجهزة السلطوية، ليس سوى رائحة عفن النظام، ويخلص إلى تساؤل هام؛ كيف يتسنى له في هذا الواقع الموبوء أن يفتش عن أي حقيقة؟

محمد فوزي.. فساد الأمر الواقع 

كاد الفيلم أن يتعرض للمنع هو الآخر بأمر من وزير الداخلية وقتها، نبوي إسماعيل، لولا تدخل السادات ليقدم صورة عن نفسه كراعي الحرية والإبداع والفن. عن قصة لنجيب محفوظ، قدم علي بدرخان رؤيته لمجتمع الانفتاح الساداتي، مجتمع "مسيو عليوة عليان" على حد تعبير الشيخ إمام، في فيلم أهل القمة، بعد أن قدم فيلم الكرنك الذي أدان فيه الناصرية، لم يطُل بحث بدرخان عن ممثل يقدم دور الضابط النبيل الذي يسقط في هاوية أخلاقية بسبب المجتمع وقيمه ما بعد الانفتاحية، فكان العلايلي في فيلم زائر الفجر قدَّم نفسه بشكل لا يدع مجالًا للبحث عن آخر يؤدي دور الضابط في فيلم أهل القمة.

- تعرف يامحمد بيه، أنا لولا الحظ ملخبط معايا. ماكنش الحال بقى كده.

* أظن حتقولى كنت حتبقى ظابط.

- لأ فشر، شغلتكم دى متملاش العين.

تأتي بعض الثيمات السينمائية معكوسة، مثل المجتمع الذي يصوره الفيلم، ففي هذا الفيلم لا نتعامل مع زواج زعتر وسهام بوصفه تعبير عن احتياج، كدوره في أي فيلم جماهيري، ولا يأتي أيضًا كجزاء للطيبين والأحباء المخلصين، وعقاب لأولئك الذين وقفوا في طريق حبهما، بل هو نقطة في سياق أكثر شمولية وتعقيدًا.

يحاكم علي بدر خان سياسة الانفتاح الساداتي، من خلال شخصيات ثلاث، هي الضابط محمد فوزي (عزت العلايلي)، والنشال السابق زعتر (نور الشريف) الذي صار مهربًا، والتاجر زغلول رأفت (عمر الحريري)، الذي يشكل رمزًا لتلك الطبقة التي أتى الانفتاح بها.

يظهر عزت العلايلي في أداء عظيم لشخصية الضابط، فكما أخلص عزت العلايلي لأداء تلك الشخصية، كان الضابط محمد فوزي مخلصًا، بل من القلة المخلصين في عملهم، قبل أن تبدأ مسيرته نحو الهاوية، ذلك الضابط الذي عاش محاطًا بسمعة أخلاقه الطيبة وسيرته الحسنة، نتابعه في هذا الفيلم حين كان أمينًا وفقيرًا بينما يكتسب وعيه بفساد مجتمعه،  فيما يصعد زعتر النشال هو الآخر ليكون رجلًا مرموقًا، ويقع في حب سهام أخت الضابط.

https://www.dailymotion.com/embed/video/x6zs2dy

يقدم لنا أهل القمة رسالة واضحة وصريحة، مفادها أن التخريب الأخلاقي- الاقتصادي هو من عمل كبار التجار والمتواطئين معهم من موظفين على مستويات عدة، من خلال تقديمه صورًا من التهريب والرشوات والتواطؤ، ذلك المناخ الفاسد الذي تعكسه نظرات محمد فوزي حينما يجد رئيسه شوكت ممثل السلطة، يتدخل تدخل حاسم بمكالمة منه، لتبرئة زغلول رأفت الذي يوشك على دخول السجن.

كذلك يقدم تشاؤمًا منتصرًا للواقع، فنجد أنه يميل لتبجيل شخصية زغلول رأفت، الفاسد لكنه يتبرع للجمعيات الخيرية، ويستخير ربه قبل الإقدام على شيء، غير أن فساده مصبوبًا على الدولة فما الذي يجعله مكروهًا من الناس؟ وعلى الجانب الآخر تواصل شخصية الضابط محمد فوزي انحدارها، الذي يبدأ من خلال الموافقة على زواج أخته سهام من النشال زعتر، وينتهي الفيلم تاركًا محمد فوزي يغوص في زحام البشر، ويرفض مصافحة زعتر زوج أخته، ويسير هائمًا، مدركًا استحالة استمراره في تأدية دور الموظف الغيور على مصالح دولته، وكأن نظرات عزت العلايلي تعلن وفاة محمد فوزي، وكل نموذج مشابه له في أرض الواقع، فمحمد فوزي بمسلكه الشريف لم يعد قادرًا على إعالة أسرته، وزعتر النشال، أصبح زعتر باشا صهره، بعد أن كان مخبرًا يعمل لصالحه ليشي بزملائه من النشالين.

عبد الموجود.. المواطن مصري

قدمت لنا نظرة صلاح أبو سيف قبل الأخيرة، شخصية الفلاح البائس عبد الموجود في فيلم المواطن مصري. تلك المرة كان أكثر من 20 سنة مرت على فيلم الأرض، كانت كفيلة بتحويل عزت العلايلي من عبد الهادي الفتى الحالم، الذي لا تُخضعه سوى سياط السُلطة، إلى "عبد الموجود" الخفير المتقاعد، الخانع بطبعه، والجبان.

كما أنها أيضًا كانت كفيلة بنضج عزت العلايلي وانتقاله من مرحلة الموهوب إلى الممثل القدير، كان ساهم فيها وقوفه في محطة صلاح أبو سيف، الهامة في صقل موهبة أي ممثل من أبناء تلك الفترة. كان أبو سيف على دراية بموهبة عزت العلايلي، فاختاره في ظهوره الأول على شاشات السينما في فيلم رسالة من إمرأة مجهولة، وقدما معًا شخصية "شوشة" الأيقونية في فيلم السقا مات، واختاره مرة أخرى في  المواطن مصري لتتجلى تلك الهارمونيا بينهما في شكلها الأخير.

يتحدث عزت العلايلي عن صلاح أبو سيف فيصف تجربته بأنها كالعمل وأنت "سايب إيديك"، وينبع تفرُّد تلك التجربة بينهما لكون صلاح أبو سيف يقدر موهبة عزت العلايلي جيدًا، ويتعامل معه معاملة خاصة تركز في أداءه كممثل على الجهد النفسي أكثر من كل شيء.

كان العلايلي يتعامل مع قدراته في تقديم الشخصية وفق تسلسل معين، وكان دأبه أن يصور مشاهد انفعالاته في تدرج من الهدوء إلى الحدة إلى الانفجار، وهو ما يفسر لنا إصراره على صلاح أبو سيف أن يكون مشهد عبد الموجود وهو يرى جثة ابنه هو المشهد الختامي في التصوير، رغم أنه ليس المشهد الختامي في الفيلم، فقد كان عزت يشحذ قدراته التمثيلية ليقدم مشهدًا قال عنه إنه المشهد الأكثر تأثيرًا فيه، وكأنه كان يبكي ابنه في الحقيقة.

جاء الفيلم المواطن مصري كملحمة اكتملت أركانها بموسيقى المبدع ياسر عبد الرحمن، وكانت إدانة أخرى أكثر جرأة لعصر أنور السادات، فلم يصنع الفيلم من نصر أكتوبر عملًا بطوليًا منزهًا، بل هو عملًا بطوليًا طالته أيادي الفاسدين والإقطاعيين الجدد الذين يمثلهم عمر الشريف، فبعد أن ردت السلطة أراضي عائلته التي سحبتها منه سياسات الإصلاح الزراعي ومنحتها للفلاحين، صادف أن يكون منهم عبد الموجود، خفيره السابق، ويستخدم العمدة عبد الرزاق الشرشابي، يده الطولى في ابتزاز خفيره المسكين، إلى درجة تجعله يرسل ابن الخفير إلى الخدمة في الحرب بدلًا من ابنه توفيق.

من خلال رحلة تزوير أوراق مصري عبد الموجود ليصبح توفيق الشرشابي، ستتكشف لنا صورة أخرى من الفساد البيروقراطي، الذي يسهل خداعه بسهولة بمجموعة من الأوراق كفيل بها محامٍ فاشل هو حمدان الويشي.

في الفيلم نرى رحلة تجريد الفلاح  على يد "الرئيس الفلاح" من أرضه وشرفه، وحتى حقه في البطولة، وفي فخره بابنه الشهيد، ويؤدي عزت العلايلي دور الخانع هذا بشكل يستدعي الرثاء حقًا، فكما لو كان أدى دور بطرس الرسول الذي أنكر المسيح ثلاث مرات، فها هو عبد الموجود ينكر ابنه ثلاث مرات، حتى عندما تنهمر دموعه وينفطر قلبه بوضوح للجميع أمام جثة ابنه، يواصل انكاره لابنه، فلا يترك للمشاهد سوى أن يلعن دم العبيد الذي يسري في عروق عبد الموجود، ويود أن يحطّم نير عبودية الرجل الذي باع ابنه مقابل حفنة من الجنيهات، تتطاير من يديه في مشهد نهاية الفيلم.

رحل عزت العلايلي جسدًا، وترك وراءه العديد من الشخصيات التي لن ترحل، منذ ما يربو عن 70 سنة حين كان طفلًا ينصب مسرحًا من أخشاب سريره وستائر غرفته، ويتلقى أجرًا رمزيًا من أطفال الحارة ليشاهدوه وهو يمثل، وبعد ثمانية عقود يرحل بعد أن أدى دوره الأكمل والأفضل، في أن يكون عزت العلايلي.