كانت الصين في أوائل القرن العشرين هي رجل آسيا المريض، إمبراطورية قديمة وعريقة لها تاريخ طويل من الأمجاد والحضارة والإنجاز الذي ساهم في تشكيل تاريخ العالم وشَغَل عقول البشر عبر آلاف السنين. لكنها دخلت مرحلة ركود وانحطاط حضاري تاريخي تدريجي طويل وممتد عبر القرون الثلاثة الأخيرة، وتَرَكَها هذا فريسة ضعيفة للأطماع الاستعمارية الأوروبية والأمريكية والآسيوية. والأهم أنه تركها نهْب أزمات داخلية عنيفة حول طبيعة الدولة والنظام السياسي والقانوني، وعلاقته بالمجتمع والاقتصاد وعلاقات السلطة وتوزيع الموارد وشروط التحديث والتقدم والتنمية وقضايا الإصلاح الإجتماعي والثقافي ومعوقاتها.
وكان المآل التاريخي المنطقي هو انهيار البناء القديم المتداعي أمام الزلازل الداخلية وضغوط العالم الخارجي سريع التغير والتمدد، ومن ثم دخول الصين مرحلة من الصراعات والفوضى الداخلية، كان عنوانها الأبرز سياسيًا واقتصاديًا/ماديًا وأيديولوجيًا التدافع بين التقليدانية المحافظة والليبرالية التحديثية والقومية الإصلاحية والشيوعية الماركسية.
لكن جوهر الصراع كان وجوديًا بالأساس حول أسئلة الهوية والروح الوطنية والشخصية التاريخية والمصير والنموذج: من نحن؟ و كيف كنا؟ كيف أصبحنا؟ وكيف تأخرنا بينما تقدم غيرنا؟ وما العمل؟ وإلى أين نسير؟ وكيف نسير؟ وماذا نريد من الناس؟ ومن أنفسنا؟ ومن العالم؟
كان التيه والصراع والشتات هائلين، والأثمان المدفوعة عظيمة بقدر عظمة حجم التنين الصيني الضخم الشائخ والبليد، الذي يأبى أن يُغَيِّر جلده أو يموت واقفا.
كانت ثورة صن يات سين الليبرالية الإصلاحية، التي بدأت في أوائل القرن العشرين، ثم تُوِجَت بالنجاح سنتيّ 1911-1912 لتطيح بالإمبراطورية وعالمها المنقرض وعصر جمودها الطويل إلى ما وراء أسوار المدينة المحرمة، هي شرارة بداية التيه الصيني العظيم، الذي استمر أربعين عاما تخللته انتفاضات شعبية وصراعات طبقية وسقوط أنظمة سياسية وثورات شعبية مسلحة وحروب أهلية ليبرالية-قومية ثم قومية-شيوعية، وحروب عصابات واستعمار ياباني وحروب تحرر وطني وحرب عالمية وتدخلات خارجية من قوى عظمى تمارس لعبة الأمم.
وتَمَخّض التيه في النهاية عن انتصار الشيوعية سنة 1949 وتمكنها من الهيمنة وإخلاء الساحة تماما لأجوبتها الخاصة على أسئلة الوجود والتحديث تحت قيادة ماو تسي تونج؛ ذلك الماركسي العجيب، أمين المكتبة الشاب الذي كان مقتنعا أنه من العبث الكلام عن مبدئية رفض التغيير بالعنف في بلد متخلف، كانت تُحمَل النساء فيه على مركبات التنقل مثلهن مثل قطع الأثاث.
وكان مؤمنا بقدرته على تحمل أن ينطح برأسه جدران التيه عبر أكثر من خمسة وعشرين عاما، لأنه سينتصر في السنة السادسة والعشرين حتى لو خاض في أوحال السهول والوديان والقرى والمدن الصينية المترامية عبر ربع مساحة القارة الآسيوية، وحتى لو خاضت قدماه في بحور من الدماء و الركام و الأطلال، وقد كان..
أتذكر مناقشات سابقة مع الصديق محمد نعيم إتفقنا خلالها أنه يمكن لنا أن نقول إن مصر تمر الآن بأعراض صينية شبيهة، ولا أعني هنا أن البلدين متماثلين، فالفوارق بينهما كبيرة وواضحة. ولا أعني أيضا أن مصر ستخوض نفس التيه الصيني بحروبه وصراعاته وانفجاراته، ولا أعني بالطبع أن مآل تطور الوضع المصري سيكون انتصار الشيوعية على الطريقة الماوية، ولكن أعني أن مصر أيضًا تخوض شتاتها الخاص الآن ولكنه يختلف عن التيه الصيني، الذي شهد صراع بدائل حقيقية وحية للمستقبل، برثاثته وثقوبه السوداء التي لا تفعل شيئا غير أنها تبتلع وتُفَكِّك وتُجَرِّف.
لم تكن ثورة يناير ثورة بالمعنى الكلاسيكي، ولكنها كانت لحظة انكشاف لما تمر به مصر من تيه من ناحية، ومن ناحية أخري لحظة بداية لعملية ممكنة من التغيير الثوري، قد تستغرق عقودًا و أجيالًا، وتحتاج لتوفر شروط إمكان ذاتية و موضوعية.
تمر مصر بمرحلة اضمحلال تاريخي وتآكل تدريجي، لكنه متسارع، لهياكل السلطة والدولة على خلفية انفجار تراكمات عقود من الفشل والضياع واللا تنمية واللا مشروع والانعزال عن متغيرات العصر وانفجار فقاعة الحلول البهلوانية المؤقتة لكسب الوقت والجري في المكان وترحيل الأزمات والرشى للجميع، سواء "هلّيبة" أو شعب على حساب التخطيط والعمل الحقيقي.
هذا إلى جانب انفجار أزمات التحديث الفاشل تاريخيًا في مصر وأزمات الدولة وعلاقتها بالمجتمع والمؤسسات والاقتصاد وأنظمة القيم الدينية والثقافية ومفاهيم الشرعية والقانون والهوية والنظام العام والكليات الجمعية وغيرها من الأزمات التاريخية القديمة، والتي آن لها أن تنفجر في وجوهنا بعد قرنين من التلفيق والتحايل والمراوغة والعقم.
وإلى جانب الاضطراب السياسي المستمر، فمن المرجح أن ينتج عن هذا درجات من العنف الاجتماعي والأهلي وصراعات محلية على مستويات عديدة وارتفاع في معدلات الجريمة والتناقض البنيوي بين ظاهرتين متوازيتين: أولًا، توغل و هيمنة الأجهزة الأمنية والعسكرية والجبائية على المجال العام بلا أي أسقف للقمع والعنف الدولتي، وبلا أي اعتبار، ولو شكلاني، لمحقوقية مفهوم المواطنة، وبلا أي وسائط سياسية مجتمعية قادرة على التفاوض بالأصالة عن نفسها من جانب.
وثانيًا، مع تضخم القطاع غير الرسمي من جانب آخر، ليس فقط اقتصاديًا ولكن أيضًا على مستوى إدارة المجتمع والضبط والتحكم وصناعة قواعد المجتمع وتنفيذها بعيدًا عن الدولة وعلى حساب "حكم القانون" و"احتكار الدولة للعنف المادي و الرمزي"، وغيرها من المسائل التي طالما شغلت نُخَب دولة ما بعد الكولونيالية في مصر.
ينشغل أغلب المحللين بتطورات صراع المجال السياسي في مصر منذ الثورة لصالح الغفلة عن الأزمة التحتية الأكثر أهمية؛ ألا وهي أزمة العقد الاجتماعي وعلاقة الدولة بالمجتمع والاقتصاد السياسي اللا تنموي الفقير من الانجازات. تلك الازمة التي التهمت كهنة العالم القديم مثل مبارك وابنه وحزبه الوطني ورجال أعماله وجماعة الإخوان المسلمين ومن والاهم، وستلتهم الجنرالات وحراس المعبد الدولتي الحاكمين حاليًا، لأن معادلات الأزمة تبقى كما هي.
جذر الأزمة في مصر مادي؛ وهو ببساطة أن مصر فشلت في بناء قاعدة إنتاجية في قطاعات الزراعة والصناعات التحويلية المولدة للثروة و فرص العمل. مصر بلد متخلف حضاريًا واجتماعيًا واقتصاديًا، لا تنتج ما يكفي من الثروة لتحسين شروط الحياة بالنسبة لمواطنيها، أو توفير الحد الأدنى من الحياة الآدمية الكريمة للقطاعات الأوسع منهم.
وهذا الفشل مؤسسي وسياسي بالأساس، إذ لم تنجح النخب الدولتية المصرية الحديثة عبر قرنين من فانتازيا التحديث إلا في بناء دولة تجمع بين السيئين: دولة غير ديمقراطية، ودولة غير تنموية.
ولم تنجح النُخَب البورجوازية الاجتماعية المصرية بدورها في إحداث تراكم رأسمالي إنتاجي تحديثي للمجتمع ومُوَلِّد للثروة في استقلال عن بيروقراطية الدولة، وبشكل يجعلها شريكة حقيقية في صناعة قرار السياسات العامة. بل انحصر أفق تطلعاتها بحدود الأسقف المنخفضة لرأسمالية المحاسيب والتزاوج المصلحي والاجتماعي مع نُخَب جهاز الدولة الديناصوري.
هنا سلطوية الدولة المصرية لها دافع مصلحي أساسي، إلى جانب العوامل الأيديولوجية والثقافية بالطبع، ألا وهو التعتيم على سؤال صناعة قرار السياسات العامة المتعلقة بتخصيص الموارد و الانحيازات المصلحية المؤسسة له، وإبعاد هذه السياسات عن أي محاسبية أو مشاركة شعبية أو شفافية.
آخر المحاولات الجادة
كانت الحقبة الناصرية هي آخر محاولة جادة في مصر (الجدية نادرة في العموم) لتغيير معادلات التنمية، وانتهت بالفشل الذريع كما هو معروف، وبسبب تناقضاتها الداخلية البنيوية وعجزها السياسي واختلال أهدافها وإفلاس وسائلها بالأساس.
وكانت لحظة 1967 هي نهاية آخر عقد سياسي واجتماعي جاد عرفته الدولة الحديثة في مصر؛ الوصاية السلطوية في مقابل الأمان والرفاه الاقتصادي.
ومنذ هذه اللحظة دخلت مصر في التيه، و كان الضامن الرئيسي لتثبيت الأوضاع على ما هي عليه، هو ظروف عرضية بالأساس، مثل ضرورات الحرب ثم التسوية مع إسرائيل طوال السبعينيات، ثم ضرورات مواجهة الحركات الإسلامية العنيفة طوال الثمانينات والتسعينيات.
وبعدما انتهت معركة الدولة مع هذه الحركات بانتصار الأولى في نهاية عقد التسعينيات كانت سنوات الألفية الجديدة هي سنوات بداية التراكم الاحتجاجي الاجتماعي المتشوق إلى أفق سياسي جديد، والذي أوصلنا إلى مشهدية احتضار عصر الركود المباركي العظيم والانكشاف الرسمي لحقيقة التيه المصري في يناير 2011.
ويبدو موقف أيتام الاستبداد من النخب الاجتماعية المذعورة من انهيار عالمها القديم في يناير، والمتعطشة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أو القفز إلى نظامية فاشية حقيقية، مدهشًا في عماه الأيديولوجي وانفصاله النفسي التام عن الواقع.
فهم يتصورون أن وضعية مصر ما قبل 2011 كانت وضعية مرشحة للاستمرار كبلد متخلف كبير السكان وينوء بالمشاكل الجسيمة والاختلالات الهيكلية الرهيبة والتردي الفاضح في أداء أغلب مؤسساته ومنظوماته العامة والخاصة، من تعليم وصحة وإسكان وخدمات وتشغيل وإنتاج وطاقة ومواصلات ومرافق وعدالة وفض منازعات.
وتموج في شوارعها جموع مليونية ضخمة من المهمشين والساخطين واللا منتمين غير القابلين للاستيعاب داخل دولاب التيار الرئيسي في مصر بمؤسساته واقتصادياته وثقافته وقيمه، حتى لو أريد لهم هذا.
بلد غير منتج، محدود الثروة، وأغلب منافعها وامتيازاتها محتكرة لصالح قطاعات ضيقة من نخب الدولة الرثة ونخب البورجوازية الأكثر رثاثة. قطاعات لا تقبل إلا بأن تتسلط علي الباقين وتتميز عنهم، ولكن مع ضرورة بقاء درجة كبيرة من السلام الاجتماعي و"الاستقرار المجتمعي" وغياب العنف الأهلي والصراع الاجتماعي. على أن يكفل هذا دولة أبوية قمعية ضابطة ومسيطرة!
هذه ببساطة معادلة مستحيلة ونادرة الوجود في العالم، واستمرارها عبر أربعينية السادات ومبارك كان هو الأمر الاستثنائي الذي يحتاج إلى تفسير. وتكلمت عن العوامل العرضية بالإضافة إلى العوامل الخارجية و قوة كوابح العصر الريعي القادر علي كسب الوقت وترحيل الأزمات. لكن في النهاية انتهى عصر الأوهام وذابت في الهواء، فمرحبا بكم في صحراء الواقع.
قد يقول قائل إن المسألة مسألة وقت، وعلينا تحمل المشقة الحالية على وعد تحسن الأحوال في المستقبل البعيد، وهذا هو تحديدًا رهان ظاهرة السيسي حاكم مصر الحالي. لكن من المدهش أن يضيع وقت طويل في الجدل السياسي في محاولة توضيح الواضحات من المعضلات وإثبات لا منطقية وهراء هذا الرهان. فهذا الرجل ما هو إلا عسكري بيروقراطي محدود القدرات، وابن أصيل للدولة القديمة منتجة الأزمة من الأساس وأحد أطرافها الرئيسية، وليس كائنا فضائيًا صاحب قدرات إصلاحية فذة هبط علينا من كوكب المريخ ومن خارج سياق الأزمة و مؤسسات الأزمة.
السيسي ما هو إلا واجهة لتحالف أجهزة دولتية عسكرية و أمنية حاكمة، تحالف يريد مقاومة زلزال يناير وانكشاف ملامح التيه عبر تشكل جديد للنظام، هدفه طمس فكرة التغيير والدفاع الشرس عن الدولة القديمة عبر العمل المباشر لقلوبها الصلبة، بعد تحلل آليات الضبط والتحكم المباركية لحقبة ما قبل 2011.
عودة إلى رهان ظاهرة السيسي الذي يعتنقه الكثير من حَسَني النية أو المذعورين من التحلل المصاحب للتيه المصري، فهذا الرهان يشترط وجود سياسات إصلاحية تنموية حقيقية لمواجهة الأزمات الاقتصادية على المدى الطويل.
لكن هذا لن يحدث لأن بنية الدولة القديمة وسياسة المؤسسة العسكرية الحاكمة تتعارض مع ما يتطلبه هذا من إعادة هيكلة حقيقية للدولة، وعقد سياسي واجتماعي جديد، وخلخلة تركيبة المصالح الاقتصادية الحاكمة التي تعوق أي سياسات تنموية لإيجاد إنتاج حقيقي وتشغيل وفرص عمل، والاستثمار في التعليم والصحة لرفع الإنتاجية و محاربة الفقر إلى آخره، وإعادة الهيكلة هذه سواء باتجاه تقشف (شامل أو انتقائي) نيوليبرالي أو باتجاه انغلاق دولتي حمائي وانكفائي.
لكن في الحالتين سيكون لها حتما مستفيدين و خاسرين، ولا يمكن تمريرها إلا عبر تكوين تحالفات اجتماعية تُكَتِّل المستفيدين وتُحَيِّد الخاسرين، وهذه هي "السياسة" بألف و لام التعريف، والتي ترفضها تماما أجهزة مماليك السلاح والأمن في مصر حاليًا. ترفضها مصلحيا وعقائديًا، وتراها مَعْوَل هدم لـ"الدولة" التي أصبحت هدفًا كليًا وغاية وجودية ومطلقًا سياسيًا مكتف بذاته.
أما خيار ترحيل استحقاقات الإصلاح الحقيقي، ومحاولة كسب الوقت عبر أسلحة الريع الخارجي والدعاية والتذرع بالأخطار على أمن البلاد، وهو الخيار المتبع بالفعل في المرحلة الحالية، فيمكن له أن يُرَحِّل الأزمة بالطبع. ولكنه لن يقدم أي حلول لها، وهو يؤجل المحتم ليس إلا.
ما الذي يريده الجنرالات؟
يريد الجنرالات تقشفا ماليًا، على ناس آه و ناس لأ، وزيادة إيرادات مماليك السلطة في صورة جباية مع استمرار إغلاق المجال السياسي لصالح الجيش بشكل قمعي. ولا غضاضة في وجود مؤسسات سياسية شكلية محدودة وظيفيًا، يتم وضع أسقف لحركتها والتدخل لهندسة آلياتها والتحكم في مخرجاتها من المنبع، مثل البرلمان. وإطلاق وحوش دولة ملوك الطوائف المافياوية من أمن وقضاء وبيروقراطية وغيرها على الناس، وإطلاق العنان لها للنشاط في السوق بالأصالة عن مصالحها الضيقة كفواعل تجارية و مالية.
وداعا لفكرة مؤسسات العدالة في الدولة المصرية الحديثة، بل وداعا لثنائيات الدولة/السوق، والعام/الخاص. مع الحفاظ على الامتيازات الاقتصادية للحاكم العسكري والأمني والتحرر التام من الالتزامات الاجتماعية والاقتصادية تجاه الناس (المصطلح الأدق هو الرشى الاجتماعية) وقليل أو كثير من البروباجندا الجوفاء المتجددة عن "فناكيش" المشروعات القومية.
هؤلاء المماليك الجدد وصلوا من قصَر النظر وكراهية واحتقار الشعب والثقافة المافياوية وعقيدة الفصام وهوس التسلط المستمد من موروث مصر الفتاة؛ الجذر الأيديولوجي الرئيسي لنُخَب دولة يوليو بأجيالها وحلفائها، إلى عدم إدراك أن هذا وضع غير قابل للاستمرار طال الوقت أو قصر.
لكن في المقابل، وعلى خلفية الأزمات الست لقوى التغيير الوليدة والمتراكمة ذاتيا وموضوعيًا (أزمات المشروع، والتنظيم، وقاعدة الدعم الاجتماعي، والتمويل، والقيادة، والخطاب) تبدو قوى التغيير تلك – على الأقل في المرحلة الآنية - غير قادرة على تقديم مشروع بديل للسلطة يستطيع حشد الناس على أرضية سياسات للأمل في واقع جديد و عبر سياسات برامجية تقوم على الحضور الاجتماعي التفصيلي والجاذب، لا المواقف المبدئية.
فالسخط وحده لا يكفي، وقد يؤدي إلي حالة من العدمية السلبية الانسحابية واللا مبالية، أو الانفجار الغاضب الذي لن يسفر في نهاية المطاف - و في ظل هذه المعطيات - إلا عن مزيد من الفاشية الدولتية أو عن عودة جديدة للحركات الإسلامية؛ الوجه الديناصوري الآخر للعالم القديم في مصر. فالثقب الأسود لا يجيد إلا التفريغ و التجريف.. إنه التيه.
وبرغم أن أزمة الاقتصاد السياسي مركزية في فهم التيه المصري، فالصراع على الموارد المحدودة في بلد ما قبل رأسمالي متخلف هو بلا شك محرك الأزمة التاريخية المصرية. إلا أن هناك مستويات أخرى لا تقل أهمية، وهي مستوى الصراع الأيدولوجي والثقافي الذي يلعب دورا بارزا في تشكيل إرادة العيش المشترك، أو في نفي هذه الإرادة. وفي القلب من هذا الصراع مسألة الوطنية المصرية السلطوية؛ الخيط الناظم لجميع السرديات الأيدولوجية في مصر، والدالة الأهم على الشتات المصري بمرحلته الأيديولوجية الرثة الحالية في عصر نظام الجنرالات.
ولهذا حديث آخر في جزء ثان من المقال.