"كان نفسي أتولد في بلاد
تنفع قصيدة شعر
تحكي عن هموم الناس مايبكوش
مايكونش زهد الحياة عليهم قدر
حتى الطبيعة بتشبه العيشة
الورد مالبسش شوك علشان ضعيف
الورد لابس خيش".
بهذه الأبيات يبدأ الشاعر خلف جابر من غناوي النخل أولى قصائد ديوانه الأول عجلة خشب، ليشاركنا حلمه الشاعري النابع من فلسفته الإنسانية، وقدرًا كثيفًا من رؤيته للحياة والناس والشعر، فالطابع المجازي والتشبيهات التي يستخدمها ترتبط ببيئته القروية، وبالطبع تستدعي هذه البيئة مفرداتها باستمرار (الأرض، الشجر، الترعة، الغيطان، الشمس) في أشعاره، ومن أبرز الأمثلة على ذلك قصيدة من غناوي الحادي.
وخلف جابر شاعر عامية وصحفي مصري، صدرت له ثلاثة دواوين شعرية، هي من أعلى نخلة في الصعيد.. عيل بيطير غناويه للقاهرة عن دار تشكيل 2020 وفاز عنه بالمركز الأول لجائزة الأبنودي لشعر العامية في نفس العام، وأربعاء أيوب، عن دار دوِّن 2017، وعجلة خشب عن دار العلوم 2015، والذي وصل للقائمة القصيرة لجائزة أحمد فؤاد نجم. كما ألف سلسلة كتب صوتية تحت عنوان "ألف سيرة وسيرة"، من إنتاج تطبيق كتاب صوتي.
ورقة نعي
هناك معنى إيماني حاضر دائمًا في قصائد جابر، ربما يرتبط بالحياة الآخرة، وينصهر مع أفكار البعث والخلود أو حتى تناسخ الأرواح، بعيد تمامًا عن الاستخدام الوعظي، لكنه يؤثر بشكل جمالي وشاعري على مستوى تركيب الصورة، لاستحضار معاني الخلود والحياة والموت. هذه المفاهيم تطلق العنان للشاعر ليعيد تشكيل العالم والأشياء من حوله غير مقيد بالمادة، يقول:
"قَبْلِن يكون النهار.. الشمس كات أبريق نحاس في دار ستي.. ساعة خروجها للسما.. طلع وراها يأكد العشرة.. رفضوا دخوله للسما جسدًا.. رفض يعود للأرض واختار.. يصب النور على رجل جدي من السما للدار".
يعلق جابر مؤكدًا في حوار أجرته معه المنصة، تأثير البيئة والخلفية الدينية والثقافية "الإنسان صنيعة بيئته، والإبداع لا يأتي من عدم، بل هو انعكاس لها، وحتى إن لم يوظِّف الكاتب معرفته الدينية والفلسفية والاجتماعية في إبداعه؛ فسوف تنعكس بشكل لا واعٍ على كتابته. فمن أين يأتي باللغة إن لم يجمعها من على لسان الناس، خاصة إن كان شاعر عامية؟ وكيف يخلِق صورة شعرية إن لم يفتح عينيه على الشجر والطيور والمياه؟ ومن أين يأتي بإيقاع سليم إن لم يكتسب قدرًا من المعرفة يحقق له ذلك؟".
ويوضح أكثر "في كتاباتي أخذت من الطبيعة الصورة ومن البسطاء حكمتهم، أيضًا أحاول أن أكون شكوتهم من الفقر والبرد والتجاهل. ما أقصى أن تعيش نكرة، فالفقراء ليسوا ممن يذاع خبر موتهم في النشرة، إلا إن كان موتهم جماعيًا، لذلك أحب أن تكون قصيدتي ورقة نعي هؤلاء".
كذلك تأثر جابر في أشعاره بحكاياته الشخصية، فكما يحكي عن العجلة الخشب كرمز لطفولته التي يحن لها، تحضر أسرته في أشعاره وخاصة الأم والجدة، فكأنه يستدعي روح وحكمة حكاياتهما، ويعيد توظيفها في حكاياته، فيقول في قصيدة السلسال:
"كات ستي تشرب الميه بسماد
وتغني للغلبان في جمع القطن
بتغازل الشمس البعيدة
بقُصة خارجة كالهلال من تحت طرحتها:
ميل بقى يا نهار
أحسن وديني أفرد شعوري أطفيك".
يظهر تفاعله مع الفلكلور والثقافة الشعبية من خلال بعض العناوين والموضوعات خاصة في القصائد الغنائية التي تشبه الغناء الفلكلوري، ويتناص مع قصص شعبية ليعيد إنتاجها كقصيدة عواد، التي ذكر أنه كتبها بعد ثورة 25 يناير، عندما عاد علماء ورجال أعمال وشخصيات معروفة عالميًا إلى مصر، على أمل أن يكون الوضع تحسن وأصبحت بلدهم صالحة لزراعة أفكارهم.
يميل جابر للغنائية في كثير من القصائد، ورغم كتابته للأغاني فإنه لا ينشرها في دواوينه، وعنها يقول "أحب الغنائية ولا أميل للتداعي (الحُر)، وتطربني الموسيقى بشكل عام، لكن موسيقى الشعر لا بد أن تحمل معنىً كبيرًا أيضًا، الأغنية يكتبها الشاعر وهو يعلم أن هناك وسيط آخر متمثل في اللحن وصوت المطرب سيحملها إلى المتلقي؛ لذلك فهي أشبه بصناعة يُسأل عنها فريق عمل، وتختلف فنياتها عن القصيدة، ومن ثم لا أظن أنني سأضع أغنية في ديوان، ولكن إن غُنّت إحدى قصائدي فهذا أمر آخر".
تجربة جابر في اﻷغنية، كما يصفها، "بسيطة"، لكنه سعيد بها، "فما قدمته مع صديقي أحمد مصطفى (فوكس) كان يسعدني بشكل شخصي، فهي كلمات كأننا كنا نصنعها لإسعاد أنفسنا، وما حققته من قبول جعلنا نكرر التجربة لمرات، وما غنته لي فيروز كرواية أعتبره إضافة؛ فهي تحب التجريب ويسعدني ما تقدمه كأحد مستمعيها. ليس لدي خطة في كتابة الأغنية لكن أتمنى أن أقدم فيها شيئًا يحبه الناس".
ما وراء الشعر
هذه الخلفية والتأثيرات المختلفة، تكشف ما وراء الشعر والشاعر، وميله لموضوعات أو أفكار بعينها، وكيف تكونت لغته وأسلوبه، خصوصًا إذا كان يمتلك صوتًا خاصًا.
"في الشعر لكل شيخ طريقة، لكن تستهويني الجملة البسيطة، وإن كانت كتابتها ليست يسيرة، إذا حُمّلت مع سهولة تركيبها بالفلسفة" يفصح جابر عن أسلوبه المفضل في الشعر، "ربما هو رحلة للعودة إلى الفطرة الإنسانية التي شوهتها التجارب، فالشعر هو قول أمي ما ولدتوش زي باقي الحريم دا شق قلبي وخرج، فكيف لا يكون كلامها شعرًا؟ الشعر بالنسبة لي يتجلى في قدرة أمي على الاختزال، وفي فلسفة صلاح جاهين رغم بساطة بناء الجملة لديه، وفي حكمة عبد الرحمن الأبنودي، الشاعر الذي أحبته النخبة المثقفة ورجل الشارع البسيط".
اختلف مفهوم الشعر بالنسبة لجابر من مرحلة لأخرى، واختلفت معه طريقة كتابته له طبقًا لقناعاته في كل مرحلة "أحيانًا تجد الجملة البسيطة وأحيانًا غير ذلك، لكن يبقى السعي إلى البساطة، فالألفاظ بالنسبة لشاعر العامية ليست معضلة، لكن توصيل المعنى والفكرة والفلسفة التي تحملها الجملة هو المشكلة، فجميعنا نحلم أن نصل بالأفكار العظيمة إلى البسطاء، ولكن هناك بعض من يدّعون أن الناس في الشارع لا تفهم، بحجة أنهم أرقى من الناس ولن ينزلوا إليهم، وأرى في هذا شكل من الغرور، لماذا دائمًا يتهمون الناس بالغباء دون وضع احتمال واحد أن تكون كتاباتهم هي الملغزة؟ وهذه ليست ميزة، بل ضعف وعجز ، وكذلك لا يعد مبررًا لمن يستخفون بالعقول على فيسبوك فيكتبون أشعارًا ركيكة ومكررة ومملة".
عن الجدل بين ثنائية الموهبة والصنعة يضيف "فؤاد قاعود مثلًا يرى أن نصف القصائد يأتي بالاجتهاد والآخر يأتي مصادفة، وفي رأيي أن تلك المصادفة هي الموهبة، فلا شيء يحدث محض صدفة، وإلا لرأينا شعراء كثيرين هكذا، فالأمر لا يقوم على الموهبة وحدها، كما أن الصنعة وحدها لا تصنع شاعرًا".
مواجهة القاهرة والحب والموت
أربعاء أيوب هو الديوان الثاني للشاعر، وعن الاسم فهو طقس سنوي شعبي، يحتفل فيه عدد كبير من المسلمين والمسيحيين في عدة دول عربية، بالنزول إلى ماء البحر للاغتسال، وليشكوا وجعهم وهمهم ومرضهم، اعتقادًا منهم بأن الله شفى النبي أيوب بعد 40 عامًا من المعاناة من المرض بمعجزة من ماء البحر.
يتخذ جابر من هذا الطقس فكرته الرئيسية كرمز، ليمنحه مساحة أكبر من ديوانه الأول للتعبير عن ذاته وهمومه الشخصية، وفيه تطورت لغة جابر ورؤيته الشعرية، بدءًا من خروجه بشكل كبير من الانحصار في عباءة الصعيد من حيث الموضوعات أو اللغة والإيقاع والمفردات، فكما بدأ ديوانه الأول برغبته قصيدة تحكي عن هموم الناس، أراد هنا قصيدة عن همه وذاتيته، بدءًا من الإهداء الذي كتبه "إلى الاتنين اللي ماقدرتش أنتصر عليهم، الحب والموت"، كما يبدأ الديوان بقصيدة مخلة العارف التي يمكن أن تتبين منها ما يشغله، عندما يقول في مقطعها اﻷخير: "انت اللي شايل في قلبك.. حبيبتك وصاحبك وبلدكم والقاهرة والشعر".
في قصائد الديوان هناك علاقة تفاعلية بين هذه الأشياء الذي يحملها الشاعر في قلبه، والتي عملت كمؤثرات لتغير اللغة الذي تحدثنا عنه، من أبرز الأمثلة قصيدة على سبيل التناول التي يقول فيها:
"إزاي شاعر صعيدي
اتعود يكتب للغلابة والشجر
هيكتب عن الشيكولاتة اللي بتحبها البنت
وازاي هيعرف يحتويها
إذا كان مايعرفش طبع الشواراع الأسمنت
فكان ضروري نفترق
علشان تدوم الذكرى جوانا".
في هذا المقطع، يستدعي الشعر والقرية والحبيبة والقاهرة، في تسلسل منطقي للأحداث التي غيرت الشاعر، الصعيدي الذي ينتقل للقاهرة ويحب فتاة منها، لكن العلاقة لا تنجح بسبب الاختلافات الثقافية، كما أنه لا يتأقلم مع المدينة التي يشعر فيها بالاغتراب.
الحب مابيملاش بطون
الشعر في قصيدة جابر حاضر دائمًا كلفظ ومفهوم معادل لأشياء كثيرة في الحياة ومشتبك معها. رجوعًا لرمزية أربعاء أيوب، فالشعر لجابر كالبحر لأيوب، أو ربما تتبدل الأدوار ويكون هو الابتلاء أيضًا، فكثير من قصائده يذكر فيها الشعر، خصوصًا في علاقته بالحبيبة، فيقول مثلًا في على سبيل التناول "اشكر البنت اللي رفضت تبادلك الكلمة.. لأن الشعر في الأحزان"، فالقصيدة كثيرًا ما تكون معادلًا للحبيبة، كما أن الشعر معادل للحب، كما يقول في مقطع "الحب زي الشعر مابيملاش بطون".
يحكي جابر أنه "بالنسبة لشخص انطوائي مثلي كان الشعر صديقًا انتشلني من الوحدة، وكل من حولي الآن كان الشعر وحده سببًا في جعلنا أصدقاء، فهو من حملني من قريتي إلى محافظاتهم المختلفة، وجعل بيننا أحاديثَ مشتركة، فأنا شخص في حقيقتي أحب السكوت، استمتع بالصمت".
كما تشابه الحب بالشعر في أربعاء أيوب، فلا يعرف إن كان فيه الشفاء أو البلاء، يتشابه الحب مع الموت، اللذان لم يستطيع الشاعر أن ينتصر عليهما، فيقول في أحد المقاطع: "تعرف بإن الحب عكس البشر.. لو تقتلوه بيعيش".
الحب المستحيل المحكوم عليه بالفشل والفراق حتمي كالموت، فيقول في قصيدة أخرى "لكننا الجفنين.. لابد نتباعد علشان نشوف النهار". ويعبر جابر عن تجربته في الحب، ويقارن بينه وبين حبيبته من خلال المقارنة بين القرية والمدينة، فيقول:
"الحب في بلدنا.. يشبه نجيلة نبتت في القلب.. مالناش دخل فيها... الحب في بلدكم.. يشبه نجيلكوا الصناعي.. بتفصلوه ع القد".
هذه المقارنة بين القرية والمدينة وتأثيرها عليه، يطرحها في مشهد كأنه يصف فيه لحظة نزوله القاهرة للمرة الأولى، في قصيدة مخلة العارف:
"القاهرة المزروعة بالإعلانات بدل الشجر
داير تدور فيها عن ضلك
يلي أنت أغرب من خيوط الكهربا في الغيطان
من اللي هيدلك؟"
رغم هذا الشعور بالغربة، كان لجابر موقفًا مغايرًا، أثناء تريند وسط البلد الساخر. يحكي عن بداية دخوله هذا المجتمع عندما كان أصغر سنًا، ومرافقته للشعراء والكتاب التي جعلت المدينة مستأنسة، وأثقلت موهبته، ورأى أنه من العيب بعد ذلك التنكر لذلك الفضل، وتحول مصطلح وسط البلد لمادة للسباب والتندر ولو على سبيل "الإفيه وركوب الترند"، فرغم مساوئ هذا الوسط، فهو يجمع كل شارد ووارد من كل حدب، و كأي مكان مفتوح للجميع حوى الجيد والكثير من أنصاف المواهب والمحبطين، وكان عليه أن يحسن التمييز بينهم ومَن الجدير بالصحبة والثقة أو التجاهل، معتبرًا وسط البلد "والبطن قلابة" كما عبر في قصيدة، لكن رغم ذلك، تشعره القاهرة بالوحشة والغربة، وتظل قريته هي المكان الوحيد الذي يطلق عليه "البلد".
ربما أثرت القاهرة واشتباك جابر معها، على مستوى اللغة نفسها أيضًا، فالإيقاع الغنائي أو السريع الذي كان في ديوان عجلة خشب، استبدل بإيقاع بطيء، فالبيئة القروية البسيطة يناسبها هذا الإيقاع الغنائي الذي يشبه تجانس عناصر الطبيعة، أما الإيقاع الأبطأ رغم هدوئه على مستوى القراءة أو الإلقاء، فإنه يحمل بداخله ضجيج المدينة، وهذا الإيقاع هو الذي يستوعب كمًا كبيرًا من الأصوات والصور والمعلومات والمعاني المركبة، التي يستوعبها الشعر الحديث، بما فيها من انتصار للمعنى الكلي العميق والشاعري ببساطة، على حساب الصور الشعرية المجازية التي تحمل دهشة التشبيهات البلاغية.
ربما لذلك بدأ أربعاء أيوب بمقدمة نثرية تمامًا رغم ما فيه من شعرية وبلاغة، وهذا التغير على مستوى الشكل لابد أن يسبقه تغير على مستوى الرؤية، وبالطبع ليست القاهرة هي المؤثر الوحيد، لكنها معادل لتأثيرات أخرى ربما ارتبطت أغلبها بالمكان الذي هو المدينة، كما ارتبط الديوان الأول بالقرية، بما حدث في كل منها من تجارب شخصية واكتساب رؤى عن الحياة والناس والشعر.
من أمثلة ذلك في قصيدة مثقال ذرة، بين كن ولا تكن، ينتصر الشاعر لرؤيته عن الحياة والسعادة بتفاصيل بسيطة وعابرة، لكنه يلتقطها بكاميرته في مشاهد متتالية، ليضع تعريفًا مثاليًا له "خليك إنسان.. أو موت بشويش"، هذه هي بصيرة الشاعر الذي يرى ما وراء الطبيعة والأشياء.
كما يعود جابر ﻷسلوبه اﻷصلي في عدد من القصائد أهمها المرحوم، التي يستوحيها من فن العَديد في رثاء الموتى من الفلكلور الصعيدي، لكن هنا الميت هو الذي يرثي نفسه ويكتب وصيته ورحلته.
يشير جابر إلى اختلاف لغته في دواوينه الثلاث "بالتأكيد هناك اختلاف ما بين دواويني، سواء جاء ذلك بقصد أو عفويًا، فأحيانًا يختار الموضوع لغته وطريقة كتابته، وانتقالي من قريتي إلى القاهرة ساهم في إدخال لغة مختلفة وأيضًا صورًا جديدة، حتى وإن حملت بعض الصور معي إلى القاهرة؛ فقد جاءت مشتبكة مع المكونات القاهرية، أما من حيث اللغة فليس طبيعيًا أن تكون الكتابة عن بساطة التراب بنفس اللغة المعبرة عن قسوة الإسفلت، وبديهي أن يصف الشاعر الأشجار بلغة أرق مما يستخدمه في وصف عمود إنارة".
"ذلك الانتقال أيضًا أضاف إلى قصيدتي مواضيع جديدة، فملمح الحنين للطفولة الذي تجده في ديواني الأول (عجلة خشب) يقابله الشعور بالاغتراب في ديواني الثاني (أربعاء أيوب)، أما ديواني الثالث (من أعلى نخلة في الصعيد عيل بيطير غناويه للقاهرة) فقد جاء كحلقة وصل بين مرحلتين"، يقول جابر.
من أعلى نخلة في الصعيد
كما ذكر جابر، فهو مزج بين التجربتين شكلًا ومضمونًا، أي أن أغلب قصائده جاءت كمختارات من أبرز قصائد الديوان الأول والثاني، بالإضافة إلى عدد من القصائد الجديدة، يستدعي هذا العنوان الطويل المسافة الفاصلة بين التجربتين، كما يستدعي تأثير الصحافة من حيث شكل العناوين الخبرية.
يجيب جابر عن سبب توجهه للعمل الصحفي وكيف أثر على تجربته الشعرية أو العكس "الصحافة هي أقرب الأعمال إلى الشعر، أو هكذا كنت أظن، فالعمل بالصحافة جعلني على اتصال دائم مع الوسط الثقافي ومستجداته، وأيضا أجبرني على القراءة باستمرار، فقبلها كنت موظفًا في إحدى الشركات، لكنني لم أكن سعيدًا بالعمل هناك، ولا يعني هذا أنني سعيد في الصحافة، ولكن إن كان لا بد من العمل فليكن في شيء متعلق بالكتابة".
اللغة الصحفية تقريرية خالية من المجاز، ذلك عكس الشعر تمامًا. يشرح جابر تأثير ذلك "قصائدي الجديدة جاءت عناوينها طويلة، واسم ديواني الأخير أكبر دليل على ذلك، ما أثار جدلًا كبيرًا فور الإعلان عنه، حتى إن البعض اعتبر عنوانه قصيدة منفردة، ومن التأثيرات الأخيرة الملحوظة التي سببها العمل بالصحافة، تأخر نزول ديواني الأخير الذي كان من الممكن أن يستغرق وقتًا أقصر في كتابته. للصحافة أيضا تأثير سلبي، فالشعر إن كان شحنة أو طاقة إبداعية، فبالتأكيد يهدر بعضه في الكتابة الصحفية".
عن الشهرة والساحة الشعرية
سألت جابر عن جمهوره المستهدف وموقفه من الشهرة، فأجاب "أنا أكتب إلى الناس وعنهم، فكما قلت في أغنية يا غلابة، لا أحب أن أغني عن الفقراء في قاعات مكيفة محرومين من دخولها، وإن كنت لا أقدر أن أدخلهم معي فعلى الأقل سأذهب إليهم وأغني لهم. أستهدف بشعري كل الناس ولا أقول شريحة معينة، فالنخبة المثقفة أيضًا ضمن الشريحة المستهدفة، وكتابة القصيدة التي تلقى قبول النخبة والعامة هو رهاني".
وعن موقفه من الشهرة يقول "أتمنى أن أصير شاعرًا مشهورًا، لكن أعدك أنني لن أقدم تنازلات في سبيل ذلك، علاقتي بالجمهور تبدأ بعد كتابة القصيدة، حينها أتمنى أن أحملها إلى كل شخص، أحب أن أقولها للناس في المترو وعلى المقاهي وعلى ساوندكلاود وعلى يوتيوب وفي التليفزيون، بل وأتصل ببعض أصدقائي لأسمعهم آخر ما كتبت، وأتمنى أن تنال إعجابهم".
عن رؤيته لساحة شعراء العامية الحالية، من الشعراء الشباب والمشاهير والذين يطلق عليهم شعراء "الاستيدج"، يقول "في مصر شعراء عامية مشاهير لكن لا أرى فيهم شعراء كبار، فالأبنودي وسيد حجاب وفؤاد نجم ماتوا تقريبًا في فترة واحدة، ومن وقتها ومصر تبحث عن شاعر، وأرى في الشعراء الشباب مشاريع مبشرة، لكن الرهان على المنجز والاستمرارية. أما عن شعراء الاستيدج فما يهمني القصيدة التي تقدم وليست الطريقة، ولكن ما يقع فيه هؤلاء أنهم أصبحوا يكتبون للاستيدج، بمعنى أنهم يسمعون صوت السوكسيه أثناء الكتابة، فتخرج القصيدة جوفاء لا تطرب ولا تغني من جوع".
سألته لماذا لا يخوض تجربة الحفلات رغم أنه يمتلك مقومات "شاعر قوال"، من الإلقاء المميز والقصائد المحببة للجمهور، فرد "لفترة كنت أنظم حفلات في ساقية الصاوي.. وغيرها من الأماكن، لكنني وجدت أن الأمر يحتاج إلى طاقة أكبر من كتابة الشعر، يحتاج إلى التنظيم والكثير من الدعاية، وأنا لا أطيق هذا. أحب كتابة الشعر، وأحب وقفتي على المسرح وتصفيق الجمهور، لكن ما بين هذا وذاك يرهقني كثيرًا ويجعلني أدخل في دوامة اكتئاب، ومن ثم توقفت عن كل ذلك واكتفيت بأن أذهب إلى الأماكن التي أدعى إليها، ومؤخرًا توقفت عن ذلك أيضًا واكتفيت بإلقاء الشعر في اللقاءات التليفزيونية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي".
عما يمثله الأبنودي له كشاعر وكيف يقيم تجربته قياسًا على شعر العامية، يرى جابر "الأبنودي من أهم شعراء القرن العشرين، وأقصد بالشعراء هنا من يكتبون العامية والفصحى، فتجربته لا تقل عن تجربة محمود درويش أو أمل دنقل، بل وشعراء عالميين، وهو صاحب الفضل في الخروج بشعر العامية من الزجل إلى القصيدة. كما أنه أضاف الملاحم الشعرية إلى تراثنا العربي بـ جوابات حراجي القط، وأحمد إسماعيل.. سيرة إنسان".
تأثر جابر بالأبنودي في بداياته، وكان حريصًا على التخلص من ذلك التأثير، كما يحكي "جعلني هذا أحرق الكثير من أشعاري، وحتى الآن لا أخفي حبي له، كما تأثرت بغيره أيضًا أمثال فؤاد حداد وفؤاد قاعود، ولا أحب فكرة التفضيل في الشعر، فأهم ما يميِّز الرواد أن لكل مهم طريق ومشروع مختلف، أما عن الشاعر المفضل فليس ضروريًا أن يكون شاعر عامية، فأكثر ما أقرأ هو شعر الفصحى".
أما عن جائزة الأبنودي التي حصل عليها هذا العام، وما تمثله الجوائز له وهل تعتبر مقياسًا لتحقق الشاعر، فقال: "الجوائز بمثابة كلمة شكر رسمية، لكنها لا تلزم الناس تجاه الفائز بأي شيء، ففوزك بجائزة لا يعني أنك أفضل شاعر في جيلك، بل أن لجنة التحكيم رأت في ديوانك أنه الأفضل، ومن الممكن ألا يفوز نفس الديوان إذا تقدم لجائزة أخرى، لكن أؤكد أن الجوائز تسعدني كثيرًا، سواء من حيث الاحتفاء الإعلامي أو القيمة المادية؛ فهي السبب الحقيقي في تقدمي للمسابقات".