بعد شهر من إعلان هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، في نوفمبر/ تشرين الثاني، وصول رواية درب الإمبابي، لكاتبها محمد عبد الله سامي، إلى القائمة الطويلة للأعمال الأدبية المرشحة للفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب، أعلنت جائزة ساويرس الثقافية وصول الرواية نفسها، وهي العمل الأول للكاتب، إلى القائمة القصيرة في فرع الرواية، الأسبوع الماضي.
بحسب تصريح المؤلف للمنصة كان الخبر مفاجأة عظيمة تلقّاها بفرح شديد، كما تلقاها الوسط الأدبي بذات الاهتمام، وذلك بالنظر لكون الرواية هي العمل الروائي الأول لمؤلفه الذي يعمل في الأصل بمجال البرمجة.
ويكفي "سامي" تكريمًا كون عمله هو الوحيد بالقائمة الذي يعد العمل الأدبي المنشور الأول لصاحبه، في حين حازت الأسماء التي شاركته الترشيح امتياز إصدارات سابقة نشرت لهم قبل ذلك بين شعر ونثر.
يبدأ عبد الله حديثه مع المنصة بالمدخل الأهم لأي كاتب روائي شاب "هناك دائمًا هاجس يراود من يرغب بالكتابة لأول مرّة عن اللحظة المناسبة، والتي تأتي دون استدعاء، وعلى الرغم من أنني قد نشأت على الحكايات التي تواترت على مسامعي عن الولي الإمبابي ونسل "أبو طويلة" أبطال الحكايات، إلا أنها في فترة ما قد بدأت تتبلور في ذهني بقوام بدا في أول الأمر مناسبًا ليكون محتوى قصة قصيرة، وبعد البحث والعمل عليه وجدت أن لدي ما هو أكثر ووجب وضعه في رواية طويلة أحكي فيها ولا أبخل".
الخرافات والمعجزات وعي جمعي
تبدأ الرواية بمشهد يحكي فيه الجد الكبير "علي أبو طويلة" عن صراع البلاد قديمًا مع الأمراض التي حارت فيها النظارة، وعجز القصر العيني في أيامها الغابرة عن احتواء وباء الكوليرا المتفشّي، وسار شيوخ الحارة بأجولة قماشية تحمل ختم الحكومة الميري بعهدة تمنع فتحها إلا في يوم محدد على ضفاف النيل، ليجتمع القوم في المكان والزمان المعينين طبقًا لتعليمات الشيخ "عبد الوارث" إمام المسجد الذي أبلغهم أن تعليمات النظارة تقتضي عليهم استخدام المقصات العهدة بهدف "قص الوباء" من الجو، فلا يملك القوم إلا التنفيذ مع سخرية دفينة لا يقتلها إلا انتهاء الوباء بالفعل بعد شهور قليلة.
تبدأ حينها في التفكير بأن ربما كانت تلك حيلة من الحكومة لتفادي غضب الشعب عن توانيهم في علاج المرضى، الحكومة العليمة تمامًا بأثر التخاريف والأساطير في عقول القوم.
طول العمر أو طول النسب
يهاجم الموت بأذرعه "على" وعائلته، ويظل مهتاجًا حائرًا لمراقبة الموت لأحواله، فبعد أن استقر به الحال وتزوّج "فاطمة" ابنة معلمه وولي نعمته التي طالما تمناها طويلًا، اختطف الموت بذرة خلوده الأولى قبل أن يتم عامه الأول، مات "رزق"، فظل علي يصبّر نفسه وكاسحًا ظنونه بأن "رزقه" قد انقطع من الدنيا.
على طول الرواية يتساءل البطل عن جدوى الحياة ويتصارع مع فكرة الخلود وما يقابلها من تخليد اسمه بثبات نسله في الأرض، ومحاربة الموت الذي لا يأبه إلا بأعز الأحباب، ولهذا نظن أن الإلهام الأصلي للموضوع ربما قد استحضرته فكرة الولي وجهاد الإنسان ضد الموت، وسعيه للخلود حتى لو بالذكرى كحال الأولياء الذين لا تفنى سيرتهم.
يقول عبد الله "أعلم أن ذلك قد يبدو غريبًا، لكنّي قد بدأت العمل على الرواية بكتابة سيرة الولي الإمبابي أولًا، ثم راودتني بعد فترة من الكتابة فكرة كتابة سيرة العائلة، خصوصًا وأن بطل الرواية علي أبو طويلة تربطني به علاقة قرابة، فهو "جد جدّي"، وبالتالي بدأت في ربط سيرة الولي بمعجزاته بالسيرة الاجتماعية بإسقاط بيّن على فطرة الناس التي تمجّد الولي، خلوده مثلًا وقدرة اسمه على الحياة بين الناس لقرون، وما قد يبدو هذا حتى لو في معناه المجازي عن هزيمة الموت".
طيبون من نسل ولي طيّب
من بعد طول عزّ تصيبه الأقدار في تجارته، فيقرر "على" تغيير عتبته، مهاجرًا عن "إمبابة" إلى قليوب، ليعمّر أرضها أموالًا وبنين وهاجرًا "فاطمة" وش الخير والعز، ومحمّلًا بذنبها أيضًا طول الرواية، طالبًا إليها السماح.
تسير الرواية بالأبطال ممهدة لهم الطريق، وضاربة عرض الحائط بما يبدو من استقرارهم أحيانًا، وعلى الرغم أننا لا نكاد نلمح بين الأجيال خطّ شرير لا بالفطرة ولا حتى بتأثير من صعوبة الحال، فقط، بقايا من أنانية وتفضيل للنفس وتخاذل طفيف. فهل بدأت دنيا إمبابة بالولي الطاهر واستمرّت على نهجه لا تخطئ؟
يجيب عبد الله "قد يبدو هذا الانطباع للقارئ في الوهلة الأولى، غير أن السبب الأصيل وراء ذلك هو الوجهة التي اخترت أن أروي منها أحداث الرواية، فأنا اكتب واحكي بصفتي الزمن، الذي يسرد الأحداث بلا وجهات نظر، فلست راويًا عليمًا يروي الحكاية ويقصها بمشاعر أبطالها، ولا حتى أحكي الحكايات على لسانهم، أنا مجرد راوي، وللقارئ الاختيار أي الصفوف يتّخذ، فعلى الرغم من حبي لبعض الشخصيات بالفعل، إلا أنني لم أحابي أحدًا، أنا الزمن، وتركت للقارئ مسألة تصنيف الشخصيات ما بين مذنب ومضطر للذنب".
صندوق الدنيا
بعد منتصف الرواية، يفاجئنا فصل مكتوب بفصحى مبهرة وخط يختلف عن خط الرواية، يسمّى فصل الولي، يحكي فيه محمد عبد الله سامي عن بعض من سيرة الولي "العارف بالله يوسف إسماعيل الإمبابي" في العصر الأيوبي وبلمحة صوفية فيما يبدو كبردية وجدها بطل الرواية بين حاجيات قديمة، فينتقل بنا الزمن إلى عهد الولي الذي اعتزل الناس إلى خلوته بالمسجد، معترضًا ربما على بعض من مظاهر مجون مورست على باب المسجد من شرب للخمر وخلافه احتفالًا بالمولد النبوي، غير أن رؤيته قد اقتضت صعوبة دفع الناس بغوغائهم وإصرارهم وتقاليدهم التي اعتادوها منذ عهد المماليك بكلام قد يبدو لهم خواء، وأفعال نهر وتقريع، ما كانوا ليقبلوها، وبينما يصرّ تلميذه على الوعظ فيهم، فلا يصيبه من سماعهم له سوى قنينة تطيح برأسه فلا يكاد بعدها يبين.
لا تسير الرواية على حال واحد، كأن تعتمد الحكي عن سيرة أجيال عائلة "أبو طويلة"، بل تمتد بتداخل شخصيات مساعدة تأتي سيرتهم وتمد حكاوي عتيقة وأخرى معاصرة، فبينما يأتي فصل الولي كفصل مقتطع من كتاب التاريخ بفصحاه وحسّه التأريخي، تأتي حكاية أم كلثوم والساعاتي بنبرتها الفكاهية، حيرة ربما قد راودت المؤلف خوفًا من أن تتسرب الحكاية من بين يدي القارئ بكثرة تشعبها خصوصًا بكثرة أبطالها، وما يقارب الأربعين شخصية.
يحكي عبد الله "تطلبت الأحداث مزجًا بين الحكايات العتيقة والمعاصرة، وجاء كل في مكانه دون خلط فيما أرى"، يضيف: "أما عن كثرة الأبطال، فلطالما راودني خوف عميق من اختلاط الشخصيات على القارئ، وقد اقترحت على الناشر طباعة شجرة عائلة كنت قد أعددتها مسبقًا، تضاف إلى هوامش الرواية أو ملحقاتها، غير أننا قد انتهينا إلى ترك المهمة للقارئ فذلك مما يربطه بالأحداث والشخصيات أكثر، وذاك نفس الأسلوب الذي اتبعناه جميعًا مثلا في متابعة شخصيات مائة عام من العزلة لماركيز، وكان شديد همّي لمساعدة القارئ على متابعة الأحداث يتركّز في اختيار أسماء مختلفة للشخصيات، حتى وإن جرّت العادة بين المصريين على تكرار ذات الأسماء في العائلة الواحدة بدوافع من توقير، محاباة أو تبرّك".
مَن البطل، إمبابة أم الإمبابي؟
يفرض المكان وجوده على الرواية، إما في إمبابة مقر الأحداث أو في قليوب حيث أنشأ البطل شجرة عائلته الجديدة استجلابًا للرزق.
يتخذ محمد عبد الله سامي من أدب الأماكن ملجأ لقص روايته، أدب قد روته وأشبعته أقلام عظيمة كإبراهيم أصلان وخيري شلبي، لا ينفي سامي افتنانه بهما، وبدنيا "الكيت كات" على سبيل المثال والتي أبدع "أصلان" في رسمها. يقول "أثق أن المكان هو الذي يوحي للأديب باختيار خط الكتابة، فأي مدينة تملك روحًا أصيلة وشخصية متفرّدة تضفي من طابعها على الأشخاص، وتستفز الأديب للكتابة عنها، هي البطل".
الكتابة بالعامية وشجارات المثقفين
يذكر يوسف السباعي في مقدمة إحدى كتبه حوارًا دار بينه وبين أحد مفتشي وزارة التعليم، ورغبته في أن يقرر إحدى روايات السباعي ضمن المناهج الدراسية يومًا، غير أن ما يمنعه هو لجوء السباعي للحوار العامي، الأمر الذي يتنافى مع وقار الهدف في رأيه، وقد أقر السباعي بمحاولاته إرضاء الوزارة غير أنه كما قال عارضته شخصياته وأبت عليه ونفرت.
بالنظر إلى رواية "درب الإمبابي" التي جرى فيها الحوار بالعامية - بخلاف فصل الولي، نجد أن قرار سامي باتباع حدسه قرارًا شجاعًا أفاد الرواية ووضعها في حيزها الزمني المطلوب.
يقول عبد الله "بقدر ما أفادتني دراسة الكتابة عن سيرة الأجيال عند محفوظ، فقد جعلني خيري شلبي أقرر الكتابة بالعامية، وبالأخص استخدام الحوار كتقنية شديدة الأصالة تحكي ولا تثرثر، وأنا أؤمن تمامًا بقدرة اللغة على إيصال الفكرة، بفصحى كانت أو عامية، ومن هذا ما افتتنت قبل وقت قريب بكتاب "المولودة" لنادية كامل، على الرغم من كثرة الجدل الذي أصاب الوسط الثقافي عن أصالة العمل الأدبي في حالة ما إذا كتب بالعامية، الأمر الذي لا يحتاج لنقاش أصلًا، فالجدوى في المحتوى وأهميته وأصالته ولغته الواثقة وليس في لهجة سرده".
الجوائز في العالم العربي دعوة للحرب
فيما أعلنت القائمة الطويلة الشهر الماضي عن قائمتها التي ضمت رواية "درب الإمبابي"، وبين الفترة الطويلة التي ستعقبها حتى الإعلان عن القائمة القصيرة، بدأت الرواية في الظهور على رفوف القارئين في مختلف منصات التواصل الاجتماعي حتى يومنا هذا، ومن ذلك ما قد ندعوه أثر الجوائز التي تعد بالقطع عامل محفّز للقارئين على التعرف على أعمال أدبية ربما قد سقطت سهوًا عن الانتشار بدافع من كثرة الإصدارات مؤخرًا.
يقول عبد الله "القارئ العربي ينظر للفائزين أو المرشحين دائمًا بنظرة شك في مضمون أعمالهم الأدبية حتى يثبت العكس، ومن ذلك ما قد رأينا من الجدل الذي أصاب فوز جوخة الحارثي بالبوكر العالمية، والشغف والترقّب وبعض الإحباطات التي تصيب القارئين كل عام قبيل وبعد إعلان الفائزين بجائزة نوبل وغيرها".
وكانت جوخة الحارثي قد فازت بجائزة البوكر العالمية، عن روايتها التي صدرت في نسختها الأصلية باللغة العربية عام 2010 عن دار الآداب اللبنانية، وصدرت نسختها الإنجليزية بترجمة مارلين بوث تحت اسم "Celestial Bodies" أو "أجرام سماوية" عام 2018، وقد شهد الوسط الأدبي العربي لغطًا إبان الجائزة حول أحقية فوز جوخة بالجائزة ما بين مقرّين بجودة محتواها الإبداعي باللغة العربية، وآخرين أصرّوا على أن الترجمة هي من مهدت لها الطريق.
انتهى محمد سامي عبد الله من كتابة عمله الثاني وهي مجموعة قصصية، ستصدر قريبًا تحت اسم "نابليون والقرد"، ويعكف حاليًا في مرحلة البحث لكتابة عمله الروائي القادم، في مجال الأدب الحكائي والذي سيتناول حكاية تجري في زمان حديث تحت اسم "حارس المعبد الأخير".