إحكيلي هو أحدث أفلام المخرجة والمنتجة ماريان خوري، وهو أول فيلم تسجيلي مصري يقع عليه الاختيار للمنافسة في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي طوال دوراته الـ41. افتتح الفيلم عرضه العالمي الأول في مهرجان IDFA في أمستردام، وهو واحد من أهم مهرجانات الأفلام التسجيلية في العالم.
الفيلم الذي ظهر للنور بعد سنوات لم تستطع ماريان حسابها، يبدو كأنه فيلم الحياة بالنسبة لها، أو ذلك العمل الفني الذي يظل الفنان دائرًا حوله طوال حياته حتى يصل إليه مهما حقق من مشاريع أخرى في طريقه، سترى أثره في دموعها التلقائية في أحد المشاهد الطويلة من الفيلم.
تخوض ماريان في فيلمها رحلة طويلة مع نساء العائلة، بدءًا من الجدة مرورًا بالأم ثم ماريان وانتهاءً بالابنة سارة. سلسلة من التساؤلات والاكتشافات التي كان بعضها صادمًا، تطرحها ماريان خريجة السياسة والاقتصاد التي وجدت ضالتها في السينما.
مرّت عشر سنوات بين إحكيلي وظلال، آخر أفلام ماريان، والذي افتتح مهرجان البندقية السينمائي الدولي عام 2010، وحصل على جائزة النقاد الدوليين الفيبريسي من مهرجان دبي السينمائي الدولي.
تعكس السنوات العشر التي تفصل بين الفيلمين وتيرة خوري في إخراج أفلامها، فخلال مسيرتها مع الإخراج والتي بدأت عام 1985 أخرجت أربعة أفلام فقط، بينما تمتد مسيرتها كمنتجة إلى ما هو أبعد من ذلك؛ بداية من عملها مع خالها المخرج يوسف شاهين منذ عام 1982 ومرورًا بالعمل كمنتجة إبداعية في أفلام مجموعة من أهم المخرجين المصريين مثل رضوان الكاشف ويسري نصر الله وأسماء البكري، أو مع مخرجات شابات مثل دينا حمزة، وهبة يسري وقبلهما هالة جلال، وتواصل طريق الإنتاج من خلال شركة أفلام مصر العالمية حتى الآن.
تَشكّل جزء من تكوين ماريان السينمائي على يد شاهين، خالها الذي أغواها للتسلل إلى عالم السينما على غير رغبة الوالد، والمنتج السينمائي الذي لم يكتب اسمه على الأفلام التي أنتجها، وكان حريصًا طوال حياته على ألا يقترب أبناؤه الثلاثة ماريان وجابي وإيلي من هذا العالم، وهو ما لم يحدث، إذ يشكل ثلاثتهم حاليًا مجلس إدارة شركة أفلام مصر العالمية للإنتاج السينمائي.
لكن بخلاف أخويها، لم ترغب ماريان في الاستسلام لموقع المنتج الذي رآها فيه شاهين، وقررت خوض مغامرات متقطعة في مجال الإخراج دون أن تتخلص من القلق الناتج عن طموحها والإطار الذي وجدت نفسها فيه كمنتجة.
خلال هذه المسيرة ابتكرت ماريان أو ساهمت في تأسيس العديد من المشروعات وأصبحت من رواسخ المشهد السينمائي المصري المعاصر، مهرجانات، منصات عرض، وكيانات تدريب، من بانوراما الفيلم الأوروبي، إلى أيام القاهرة السينمائية وغيرها من الفعاليات السينمائية التي تنظمها سينما زاوية التي تحرص ماريان دائمًا على نسب الفضل في تأسيسها لابنها يوسف الشاذلي، ثم ورش دهشور التي صارت في فترة زمنية قليلة واحدة من مساحات التدريب المهمة في صناعة السينما.
وفيما تبدو تلك الأدوار لمن يعرفونها جزءًا عضويًا من حياتها اليومية، يظل ما يخص علاقتها بالإخراج السينمائي جانبًا معقدًا وشائكًا.
عندما قررت إجراء هذا الحوار مع ماريان، لم يشغلني بالدرجة الأولى محتوى الفيلم بقدر ما كان يشغلني المعنى وراء إنجاز هذا الفيلم الذي شهدت شخصيًا، في فترات سابقة، جزءًا بسيطًا من التوتر والقلق والشك الذي ساور المخرجة حول إمكانية خروجه إلى النور.
ما الذي يعنيه إنجاز إحكيلي بالنسبة لسيدة تمتلك سمات وتاريخ ماريان خوري ولديها تلك العلاقة شديدة الثقل مع مخرج بحجم يوسف شاهين؟ الأمر أشبه بعلاقة الفراشات مع الضوء الساطع الحار، علاقة كان ممكنًا أن تصبح قاتلة، ولكنها نجت. هكذا عرفت عندما أعلنت ماريان عن انتهاء مشروعها ومشاركته في مهرجانين دوليين.
أجريت الحوار ولم تكن ماريان تعرف بعد بخبر حصول فيلمها على جائزة الجمهور بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ41، وهي الجائزة التي دفعتها لأن تكرر بحسم على خشبة المسرح الكبير في دار الأوبرا المصرية فور إعلان النتيجة "جايزة الجمهور لفيلم تسجيلي.. جايزة الجمهور لفيلم تسجيلي"، وكأنها حصلت بالتحديد على الجائزة التي تتمناها "اعتراف الجمهور بفيلم تسجيلي ومن إخراجها".
هل يموت الأب؟
التقينا على كرسيين خشبيين وطاولة وحيدة في أحد أركان الفناء الخلفي لسينما زاوية في شارع عماد الدين، مقر المشروع الذي قررت ماريان يومًا ما أن تفسح من خلاله المجال لابنها يوسف للاستقلال بعمله الخاص في مجال السينما، بينما نتحدث عن فيلمها الأخير الذي أسسته هي على عبارة "لازم واحد يموت علشان التاني يعيش"، في إشارة إلى ضرورة قتل الأب بداخلنا حتى نتمكن من الانطلاق.
إلى أي مدى تمكنت هي من قتل الأب الحقيقي، ثم أبيها الروحي الذي عملت معه لعشرين عامًا حتى تنمو، وأي مساحة تركها هؤلاء الآباء لها يومًا؟
ماريان وسارة والمسافة بينهما!
أسألها في البداية أيهما الأكثر حظًا، هي أم سارة ابنتها شريكة السرد في فيلم إحكيلي. فمن خلال حوارهما الممتد من أول الفيلم إلى آخره تنكشف جوانب من مسارات نساء العائلة، ومن بينهن ماريان وسارة اللتين تفصل بينهما عقود من الزمان.
تقول ماريان بلا تردد "إحنا الاتنين محظوظين، خاصة بعد إنجاز هذا الفيلم، تبدأ سارة الآن من النقطة التي انتهيت إليها تقريبًا، أنا حاليًا في الواحدة والستين وسارة في السابعة والعشرين، لكنها تطرح على نفسها أسئلة كثيرة في وقت مبكر جدًا". تصمت قليلًا قبل أن تضيف "في الواقع أحببت سؤالك".
تحكي عن كيف فجّر الفيلم، بحسب تعبيرها، صراعات مكبوتة بداخلها لسنوات طويلة "استغرق الإعداد للفيلم حوالي تسع سنوات، لكنه في الحقيقة استغرق أكثر من هذا الوقت بكثير، أنا أصنع هذا الفيلم منذ سنوات طويلة جدًا".
تعترف ماريان بأنها تأخرت كثيرًا حتى تجرأت على التفاعل مع مسائل معينة بينما بدأت سارة قبلها بكثير في طرح التساؤلات، تقول "لكننا التقينا في لحظة ما وبدأنا حوارًا شعرتُ خلاله أنني أعود بالزمن إلى الوراء، إلى علاقتي أنا بأمي، والتي تشعر سارة بعلاقة قوية معها دون أن تراها. هذا الفيلم هو رحلة نفسية لنا نحن الاثنين، أنا وسارة، لذلك عندما تسألينني عن أيّنا الأكثر حظًا أقول إحنا الاثنين محظوظتين بنفس القدر".
الولادة في عائلة سينمائية
تذهب ماريان إلى ما تراه "أزمة سارة" ابنتها كونها مولودة في عائلة سينمائية. "لم تكن متأكدة من أن السينما بالفعل هي ما تريد القيام به، كانت تشعر بثقل أنها وجدت نفسها في هذه العائلة وأنها تدرس السينما من سن 18 سنةً دون أن تكون متأكدة من أن ذلك هو خيارها حقًا".
أسألها هل كانت تساؤلات سارة حول رغبتها في صناعة الأفلام شغلتها هي أيضًا فتجيب أن "الإخراج بالنسبة لي هو احتياج، كلما رغبت في أن أحكي شيئًا سأصنع فيلمًا، لكن هذه المرة هناك شيء مختلف، لأول مرة أشعر أن هناك نوعًا من الاعتراف بأن هذا فيلم".
تصدمني الإجابة، فقد شاهدت كل أفلام ماريان السابقة، زمن لورا وعاشقات السينما وظلال الذي افتتح مهرجان فينيسيا وحصل على جائزة لجنة النقاد الدوليين فيبريسي في مهرجان دبي، فما الذي تعنيه بالضبط بفكرة الاعتراف بأنه فيلم؟
تقول ماريان "أنا من عائلة لها تاريخ سينمائي وتصنع نوعية معينة من الأفلام، بينما أقوم أنا بعمل شيء مختلف تمامًا ربما لا يعتبره الكثير من الناس أفلامًا، لكن عرض هذا الفيلم في مهرجان بحجم IDFA، أهم مهرجان تسجيلي في العالم، واشتراطه أن يكون له الحق في العرض العالمي الأول، ثم اختياره في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة، بمثابة اعتراف كبير بالفيلم وبالسينما التسجيلية".
كاميرا صغيرة في مواجهة الغول
ارتبطت بداية ماريان مع الإخراج حين أدركت إمكانية صناعة أفلام بكاميرات صغيرة وبدون إمكانيات ضخمة. في عام 1998 أثرت فيها جدًا مشاهدة فيلم The Idiots للمخرج لارس فون ترير، وهو أحد مؤسسي تيار الدوجما، وكان الفيلم عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان.
تقول ماريان "بسبب عمل عائلتي بمجال السينما كنت دائمًا أهاب من الإمكانات الضخمة في صنع الأفلام، كنت أخاف من التصوير، لكن مع عرض فيلم The Idiots في مهرجان أدركت أن هناك مخرجين يستخدمون كاميرات صغيرة وتعرض أفلامهم في مهرجان بهذا الحجم".
انتهزت ماريان في هذا الوقت فرصة سفر خالها يوسف شاهين إلى اليابان وطلبت منه شراء كاميرا سوني صغيرة لها. "هذه الكاميرا حررتني، كنت أسرق الوقت خلال عطلات الأسبوع وأذهب للتصوير بها، وهو الوقت الذي بدأت فيه أول أفلامي، زمن لورا (1999)".
كانت لورا مدرسة الباليه لابنتها سارة عندما كان عمرها ست سنوات، أعجبتها شخصية تلك السيدة الإيطالية المولودة في مصر والتي رغم تجاوزها عمر الثمانين، في ذلك الحين، كانت قوية وقادرة على الاستمتاع بالحياة والشعور بأن لديها ما تمنحه للبنات الصغيرات. "كانت تمنحني قوة كبيرة عندما أشاهدها".
يبدأ المشهد الأول من فيلم زمن لورا بلقطة لها من الخلف ترتدي المايوه وترقص بينما تدخن سيجارة، لن تدرك سنها أبدًا إلا عندما تلتفت إلى الكاميرا.
لكن ما الذي كان يخيف ماريان خوري من الكاميرا رغم عملها قبل هذا الوقت بسنوات مع شاهين، ورغم انتمائها لعائلة معروفة في المجال؟ تقول ماريان "عملت كثيرًا مع شاهين كمنتجة منفذة، وتعلمت منه الكثير لكن منطقة الإخراج كانت خطًا أحمر، هو خالي وأنا أحبه جدًا لكن علاقتنا كان بها توتر شديد جدًا عندما نقترب من المنطقة البعيدة عن الإنتاج".
من وضع هذا الخط الأحمر؟ أسألها فتجيب "لست أنا، ولا هو أيضًا، لكن هذا الإحساس كان دائمًا بداخلي، كنت أقول لنفسي من أنا حتى أصور فيلمًا بكل هذه التكاليف، هاحكي إيه؟ هل لدي شيء لأقوله أصلًا؟ هل لدي ما يستحق عناء وتكاليف يوم تصوير؟ وكنت أشعر أنني لست مهيأة لعمل أفلام، لم أدرس السينما وكنت أدير ميزانيات أفلام لمخرجين موهوبين ولديهم مستوى عالٍ من التفكير، فمن أنا حتى أصنع فيلمًا؟".
تذكر ماريان أنها ذات يوم عبرت لشاهين عن حبها للأفلام التسجيلية. "كنت أعرف أنني أحبها ولدي حساسية كبيرة تجاه التفاعل مع الموضوعات الشائكة، لكنه قال لي إن هذا الطريق صعب جدًا، ودائمًا ستواجهين المشاكل، ابتعدي عن هذا الطريق".
أسألها ألم يكن شاهين يرى فيها أكثر من منتج منفذ في أفلامه؟ فتحكي عن بداية عملها معه "كنت قد انتهيت للتو في عام 1982 من الدراسات العليا في السياسة والاقتصاد بإنجلترا، فوجئت به ذات يوم يقول لي ما رأيك في العمل معي كمنتج منفذ، كان والدي توفي وتصوير فيلم حدوتة مصرية انتهى، اصطحبني شاهين من عزاء والدي إلى استوديو النحاس على ما أذكر لمشاهدة المونتاج الأول للفيلم وشاهدت كيف صوّر شاهين أبي، لم يكن والدي يريدني أن أعمل في السينما أو أن اقترب من شاهين، كانت بينهما صراعات إيديولوجية، وكنا نسكن في نفس المبنى، لكن علاقتهما كانت معقدة نوعًا ما".
حارس تاريخ العائلة
ذكرتِ أن فيلمك الأخير فجر صراعات داخلية كانت بداخلك لسنوات، هل جزء من هذه الصراعات التعارض بين ما أراده الوالد، وما رآه شاهين، وما رغبت أنت في تحقيقه؟ "بالتأكيد هذا جزء منها" تجيب، لكن الصراع الأكبر بداخلها كان "شعوري الدائم بأنه لم تتح لي فرصة للحداد".
تحكي ماريان أن "فترة الثمانينيات بالنسبة لي كانت فترة صعبة حيث فقدت فيها ثلاثة أفراد قريبين جدًا إلى قلبي، والدي عام 1982 وجدتي عام 1984 ووالدتي عام 1989، ولم تتوافر في نفسي القدرة طوال كل تلك السنوات على ممارسة فعل الحداد".
اهتمت الجدة بحفظ أرشيف العائلة لسنوات طويلة خاصة عندما صار ابنها مخرجًا معروفًا، كانت تنتزع صوره وأخباره من الصحف وتضمها لأرشيف العائلة، وعندما توفيت الجدة صارت ماريان حارس أرشيف العائلة. تضيف "هو جزء مرتبط برغبتي الدائمة في تسجيل كل لحظة في حياتي والاحتفاظ بها، لكن قراري بما يمكن عمله بهذا الأرشيف تأخر طويلًا حتى ظهر في إحكيلي".
ما يفرّق بين تأثير فيلمها إحكيلي وأفلامها السابقة خلال صناعتها هو قرارها أن تنتج إحكيلي وحدها رغم أن ذلك عملية شاقة جدًا، تقول "الفيلم حساس وذاتي ولا يحتمل وجود ضغوط منتج آخر، فالإنتاج يمنحك نوعًا من السلطة ولم أكن احتاج إلى أي سلطة من خارجي في هذا الفيلم".
تتذكر ماريان فيلمها ظلال الذي كانت قصته تشغلها لفترة طويلة وكانت قد حصلت بالفعل على كل التصاريح والأدوات اللازمة لتصويره داخل مستشفى العباسية، تقول "بمجرد دخولي للمستشفى قلت لنفسي إيه ده؟ هاعمل الفيلم ده لوحدي! خفت". ولهذا طلبت من صديقها المخرج التونسي مصطفى الحسناوي مشاركتها صنع الفيلم، تقول ببساطة "كنت أريد نوعًا من الونس".
اقترح مصطفى أن يحصلا على غرفة في مستشفى العباسية وهكذا صنعا الفيلم معًا، لكنهما اختلفا لاحقًا خلال مرحلة المونتاج.
"هذه التجربة أشعرتني بأن عمل مخرجين اثنين على فيلم يشبه ولادة طفل من رحمين، وهو أمر صعب جدًا". لذلك قررت في إحكيلي أن تكون أكثر صدقًا مع نفسها وقررت اتخاذ كل القرارات الخاصة بهذا الفيلم وحدها، مع الاستعانة بآراء المعارف والأصدقاء والخبراء مع نهاية كل مرحلة مهمة في الفيلم.
تشعر ماريان بأنها تغيرت كثيرًا كمخرجة. "كانت الملاحظات على زمن لورا أول أفلامي كفيلة بأن تدفعني للبكاء، لكن حاليًا صارت لدي ثقة أكبر خاصة مع مشاركتي في كل تفاصيل صناعة فيلم إحكيلي، بما في ذلك التصوير، فكل لقطاتي مع سارة من تصويرنا بينما باقي عناصر الفيلم هي أرشيف العائلة المصور والمسجل، فحياتنا اليومية كعائلة مليئة بالسينما".
في العام 2004 حاولت ماريان إجراء حوارات مع شاهين حول العائلة في إطار نيتها عمل فيلم عن والدتها لكنه لم يكن متحمسًا للحديث عن العائلة، تقول "كنت أبكي يوميًا بعد الانتهاء من التسجيل، كان يشعر أنه قال كل ما يريد عن أخته وأمه في أفلامه ولا يرغب في قول المزيد عنهما، لكنه في نفس الوقت لم يرد رفض التسجيل معي".
صوت النساء: البحث عن العدالة
أسألها عن السبب في رغبتها الدائمة في عمل فيلم عن والدتها، والذي تطور لاحقًا ليضم نساء العائلة فتقول "ماتت والدتي في عمر الثالثة والستين. لم أفهم أبدًا سبب موتها المفاجئ، كانت دائمًا في حالة اكتئاب وكأنها قررت أنها لا تريد العيش أكثر من ذلك، كانت لدي أسئلة كثيرة حولها أريد فهمها".
رغم أن شاهين لم يكن راغبًا في الكلام أكثر عن موضوعات تصور أنه قال كل ما يمكنه قوله عنها، فقد منح ماريان عددًا كبيرًا من أشرطة الكاسيت التي سجلها مع والدتها أثناء التحضير لأفلامه الذاتية. تقول "شعرت أنه يعرف من داخله أنني سأصنع شيئًا".
تتفق مع انطباعي حول رغبتها من خلال هذا الفيلم في إعادة سرد تاريخ نساء العائلة بصوت نسائي من وجهة نظرهن بعد سنوات من فرض رجل سرديته الخاصة عن العائلة، فكأنها تبحث من خلال فيلمها عن عدالة ما تخص صوت النساء، ورغم أن لقطات من أفلام شاهين الذاتية التي تناولت العائلة موجودة في فيلمها أيضًا لكنها لا تقدمها من وجهة نظر شاهين بل من وجهة نظرها.
تقول ماريان "كانت هناك ضرورة لوجود وجهة نظر مختلفة، لوجود صوت نساء العائلة، الأم كما صورها شاهين تختلف كثيرًا عن تلك التي شعرت أنا بها وكذلك الجدة، علاقتي بهما تختلف عن علاقة شاهين، حكيت لك عن كيف شعرت سارة بثقل العائلة وربما هذا الثقل هو الذي عطّلني ثلاثين عامًا عن صنع هذا الفيلم، ربما استغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى أتحرر من الأمور المكبوتة بداخلي: أبي، يوسف شاهين، أمي".
الموت.. الحياة.. التحرر
بدأ فيلم إحكيلي بجملة "لازم حد يموت علشان حد يعيش" وهي جملة تتكرر في الفيلم، والموت ليس مقصودًا بمعناه المادي، وإنما القدرة على الحياة في وجود الآخر. تقول "هو سؤال اسأله لنفسي دائمًا في علاقتي بأولادي، سارة ويوسف يجب أن يقتلوني بداخلهم حتى يستطيعوا شق طريقهم بشكل مختلف".
تحكي ماريان "أول شيء قاله لي ابني يوسف عندما عمل في السينما هو مش عايزك تتدخّلي خالص، وكان قراري بترك المساحة له قرارًا واعيًا جدًا بالنسبة لي، وأي شخص في العالم يجب أن يفعل ذلك، أن يترك المساحة حتى يشق الآخر طريقه ويعيش".
أسألها إن كانت تتمنى لو أتيحت لها أيضًا هذه المساحة لشق طريقها بمفردها، فتجيب مباشرة "مع شاهين؟ لا أعرف، ربما لم يكن لدي ساعتها الوعي بضرورة وجود هذه المساحة". لكنها تقول إنها حاليًا تفكر في أنها كانت تحصل على مساحتها للنمو بعيدًا عن شاهين عندما كانت تعمل مع أشخاص آخرين. "لهذا كنت مهتمة بالعمل كمنتجة في أفلام رضوان الكاشف، ويسري نصر الله، وأسماء البكري، كنت أجد نفسي مع الآخرين، اختبئ خلف هؤلاء الذين شعرت بوجود هذه المساحة معهم، لكن مع شاهين لم يكن ذلك ممكنًا، فهو كان مدرسة أخرى وتركيبة أخرى، ولأنني كنت الذراع اليمنى له فربما فضل أن أبقى في الجزء الإنتاجي فقط من عالمه".
تقول إنها تدرك الآن أن دور المنتج مهم جدًا لأنه من الممكن للمخرج أن يصنع فيلمًا أفضل إذا كان معه منتج إبداعي جيد.
"هذا الإحساس وصلني مؤخرًا، شاهين أيضًا رأى قدراتي الإبداعية كمنتجة مع آخرين خلال السنوات العشر الأخيرة التي كنت قد ابتعدت فيها عن العمل معه بعد عودتي من فترة انقطاع، لكن هذه المسألة شائكة بعض الشيء في علاقتي به، فهو دائمًا يشعر برغبة في الحفاظ على هؤلاء الذين يعملون معه بأن يكونوا حوله، ولم يكن متحمسًا لأن أقوم بمشاريعي الخاصة سواء كمنتجة أو كمخرجة". مع ذلك كان مهمًا بالنسبة للشابة ماريان أن يبدى شاهين دعمه لها، وغياب ذلك خلف لديها شعورًا دائمًا "إني باعمل حاجة غلط".
خلال عملها في فيلم عرق البلح (1998) مع رضوان الكاشف أسمعت شاهين أغنية بيبا وسألته "عجباك؟" فقال لها "أنا غيران منها". خلف لديها ذلك اعتقادًا بأن شاهين تقبل الأمر، فعندما عرف أنها تصوّر فيلم ظلال وكان ذلك في بداية مرضه اتصل بها وكان سعيدًا وقال لها "خلي بالك دخلتي في منطقة حساسة والناس دول ممكن يحبوكي". تصمت قليلًا قبل أن تقول "ربما كان شاهين خائفًا عليّ وأراد أن يحميني، إنما إلى درجة كانت تعيقني عن العمل، وربما لم يرغب في أن أعمل في الأفلام التسجيلية".
تتذكر أنه قبل أن يقرر عمل فيلم سكوت هانصور (2001) قال لها "ليه ماتعمليش الرواية دي"، وطلب منها قراءتها "لكنني لم أشعر بالرغبة في العمل بهذه الطريقة، لم أشعر في أي وقت أن الأفلام الروائية تشعرني باللذة، ربما عدم دراستي للسينما كانت سببًا في عدم رغبتي في خوض مجال الأفلام الروائية".
ألا تتمحور المسألة حول هاجس المقارنة بينها وبين شاهين؟ "أعرف من البداية أنني مختلفة تمامًا عن يوسف شاهين" وتحكي أنها خلال صنع فيلم عاشقات السينما (2002) كان الموضوع مرهقًا جدًا بسبب نقص المعلومات فبذلت مجهودًا كبيرًا جدًا في البحث، وتكونت لديها كمية ضخمة من المواد خلال المونتاج مما أصابها بالاكتئاب، لكنها فوجئت بيوسف شاهين يقول لها "تستاهلي" لأنه رأى أنه كان عليها أن تقوم بعمل ديكوباج (أي كتابة رؤية لكل مشهد قبل تصويره)، لكن ذلك كان بالنسبة لها مستحيلًا مع نوعية هذا الفيلم.
"شاهين كان يصنع أفلامه الوثائقية بطريقة الفيلم الروائي، كل شيء مكتوب ومعد مسبقًا، نحن من البداية غير متفقين في أسلوب صنع الأفلام". لكن بما أن شاهين كان بالنسبة لها هو الكتاب المقدس في السينما، حسب تعبيرها، "فكنت أقنع نفسي دائمًا بأن ما أقوم به هو أي كلام، ومع ذلك كان لدي شعور بأن ما أفعله مهم، لم تكن لدي الجرأة للوثوق بما أفعل، دائمًا كان لدي ذلك الشعور المتناقض تجاه أفلامي، عندما شاهد شاهين واحدة من اللقطات المؤثرة في فيلم زمن لورا مثلًا قال لي يا بنت الإيه.. عرفتي تجيبي الإحساس، وكان هذا من اللحظات السعيدة".
عن الوقت وحكاية الفنان
بعد سنوات من الهوس بفيلم غير واضح المعالم، بينما تقوم بالإعداد له من خلال التسجيل والتصوير وتفقد الأرشيف، كانت اللحظة التي أدركت فيها أنها بدأت بالفعل في إحكيلي هي لحظة مناقشتها الأمر مع سارة.
في البداية كانت الخطة هي عمل فيلم عن أمها باستخدام الكم الهائل من الأرشيف الذي ورثته عن العائلة وكانت الأم هي مركز الفيلم، لكن خلال إحدى زياراتها لباريس دار حوار بينها وبين ابنتها سارة عن الفيلم استمر لساعات طويلة حتى آخر اليوم ووجدت نفسها تقوم بتصوير جانب منه، "كانت سارة تنتقد طريقة كلامي عن الفيلم وتقول إنني لا أقول مباشرة إنني ببساطة أصنع فيلمًا عن أمي، كانت تتحدث عن ماذا لو كانت هي التي تصنع فيلمًا عن أمي أنا وعن قربها هي من جدتها، فشعرت في هذه اللحظة بأن سارة جزء من الفيلم وهكذا سار الفيلم في مسار مختلف".
ليس مهمًا اعتبار إحكيلي أهم أفلامها بقدر أنه يعكس تطورها كمخرجة على مر السنوات، وأنها تعتبره فيلمًا كان من الضروري أن تصنعه، تقول ماريان، وتضيف "جزء من سعادتي حاليًا غير مرتبط بمدى جودة الفيلم وإنما بأني أستطيع الآن أن أقول أنا خلصت الفيلم، يمكنك أن تحكي مليون حكاية لكن على المرء أن يصل لحكاية معينة يشعر أنها أهم حكاية يريد أن يحكيها الآن".
أسألها عن السبب في حديثها عن صعوبة قرارها إنتاج الفيلم بمفردها برغم كونها أحد أعضاء مجلس إدارة شركة أفلام مصر العالمية الذي يضم أفراداً من عائلة خوري، بباعهم الطويل في عالم الإنتاج. أقول لها ربما تخيل الناس أن الأمر قد يكون أسهل عندما تقدم ماريان خوري على صنع فيلمها، فتجيب أنه في شركة مصر العالمية "نحن مختلفين في وجهات النظر حول اختيار الأفلام التي يمكن إنتاجها، واتفقنا في النهاية على أن كل واحد منا يمكنه إنتاج ما يريد من أفلام طالما لا يتعارض ذلك مع مصالح الآخرين، الإنتاج بشكل عام عملية صعبة وهي بالنسبة لي أكثر صعوبة لأنني من داخل المطبخ".
هل جزء من صعوبة العمل في مجال الإنتاج أو الإخراج مرتبط بكونك امرأة مقارنة بما لو كنت رجلًا؟ أسألها فتجيب ببساطة "لا أعرف، ما أستطيع قوله أن طريقي لم يكن سهلًا". لكنها ترى أن هناك فارقًا بين العمل كمنتجة وكمخرجة.
الإخراج من وجهة نظرها هو أصعب دور في العمل السينمائي، لأن المخرج مضطر للتعمق بداخله، وربما لذلك لا يمكنها إخراج فيلم كل سنة أو سنتين. "لقد أخرجت أربعة أفلام في 20 سنة. الإخراج عملية شاقة، وبالنسبة لامرأة تريد أن تحصل على كل شيء، على عائلة وعلى دورها كمخرجة وكمنتجة الأمر أكثر صعوبة، لا يتوقع المجتمع من المرأة أن تجمع بين الكثير من الأشياء". وتضيف أن شاهين يومًا ما قال لها "عليك الاختيار"، ونفس السؤال تطرحه سارة ابنتها على نفسها حاليًا هل تريد أن تصنع عائلة أم تواصل العمل في مجال السينما.
أسألها إن كانت تتمنى لو كان يوسف شاهين حاضرًا في عرض إحكيلي؟ فتجيب مجددًا "مش عارفة" وتقول إنها علامات الاستفهام حول كيف سيستقبل الجمهور الفيلم لا زالت لديها.
تجد نفسها في نهاية حوارنا راغبة في الحديث عن جانب آخر في علاقتها بشاهين "تعودين كثيرًا لعلاقتي بيوسف شاهين". فتقول "ما أريد التأكيد عليه هو أن علاقتي بشاهين ليست بسيطة، لدي خليط من الأحاسيس تجاهه خاصة عندما بدأنا في سلسلة العروض الاستيعادية لأفلامه المرممة، وبدأت في إعادة اكتشاف أفلامه وبعضها لم أكن شاهدته أو فهمته من قبل، ومع إعادة اكتشافي لسينما شاهين هناك دائمًا عملية أخرى من إعادة الاكتشاف لعلاقتي به"، تقول ماريان، وتضيف أن بعض الناس خلال العمل يقولون لها إن بينها وبين شاهين أمور كثيرة مشتركة. "يقولون لي. إنت زي خالك بالضبط!".
يُنشر هذا الموضوع بالتزامن على رصيفـ22 في إطار تعاون بين الموقعين.