ينسب السكندريون أنفسهم إلى البحر، لا يستطيع السكندري التخلي عن طبيعته هذه؛ فالبحر حياته وملتقى حكاياته، وبديهي ذلك التلازم بين الإسكندرية وبحرها فهذا الأخير رئة المدينة ولولاه لاختنق أهلها حتما. لكنه ليس الرئة الوحيدة؛ فهناك رئة ثانية تتمثل في ترعة المحمودية، رغم أنها كثيرًا ما سقطت من ذاكرة المكان.
لكن ما يثير رغبة الحكي عن ترعة المحمودية يتعدى محاولة إيجاد مكان لها في ذاكرة المدينة إلى تفسير التغيرات الكثيرة التي شهدتها هذه المدينة. فعلى سبيل المثال، للإسكندرية خيال كوزموبوليتاني وحنين إلى ماضٍ ينتمي إلى البحر المتوسط والغرب بأكثر مما ينتمي إلى العالم الشرقي، وقد تساءلت كثيرًا عن سبب هذه الميزة للإسكندرية عن غيرها من مدن مصر، ووجدت بعضًا من الإجابة في تاريخ ترعة المحمودية.
عندما بنى الإسكندر مدينته، وفر لها الماء من خليج شقه من النيل يصل إلى المدينة، وقد كان لمصر وقتها عدة أفرع للنيل[1]، وظلت المدينة تعتمد على هذا الفرع لتلبية احتياجاتها إلى أن أصاب الإهمال المدينة بعدما صارت ثغرا في أغلب حقب التاريخ الإسلامي وذلك لحساب مدن مصرية أخرى كرشيد ودمياط.
ولم تعد الحياة إلى المدينة مجددًا إلا مع حفر ترعة المحمودية في عهد محمد علي باشا (في الحكم: 1805 - 1848)، والتي بها أراد إحياء المدينة لتكون مركزا للتجارة والتصدير وفق طموحاته الاقتصادية المرتبطة بالسوق العالمية، فلما تأسست المدينة مُنح كثير من سكانها من الأوروبيين امتيازات مكنتهم من الإقامة بالإسكندرية وتعميرها[2]، فكان لترعة المحمودية التي افتتحت في سياق نهضة محمد علي أثر في تكوينها الأوروبي الحديث.
لكنَّ ترعةً سُمّيت باسم سلطان عثماني هو محمود الثاني، حفرها فلاحون مصريون تحت سياط الوالي محمد علي الذي سينافس السلطان فيما بعد، تحمل من الدلالات والرمزيات عن طبيعة النظام وتوجهاته الكثير.
تجارة الباشا وشق الترعة
عند حفرها الذي بدأ عام 1807 دلت الترعة على توجهات نظام الباشا وأولوياته، التي تمثلت في إيجاد ممر نقل نهري ينقل المحاصيل المصرية والقطن بالذات إلى ميناء تصديره. إنها بدايات الانخراط في السوق العالمية والتحام الرأسمالية التجارية بالرأسمالية الصناعية والتوسعية، في الوقت نفسه تتراوح تقديرات الدراسات حول أعداد المصريين الذي قضوا أثناء حفرهم الترعة بفعل المرض أو التعب وشدة العمل.
لم تكن للفلاح المصري قيمة في نظر هذا النظام الساعي إلى تحقيق طموحاته الإمبراطورية، فدفن من مات منهم في مكانه وأهال التراب فوقه؛ "فوارت الأرض أرواحًا تركت أجسادًا وأجسادًا بها أراوح. ومات وقتل أكثر من مائتي ألف وجرت السفن في الترعة فوق مائتي ألف حكاية، بعدد الموتى، وربما حكايات أكثر، هل تحتاج أمة من الأمم إلى أكثر من مائتي ألف قتيل ليتكون عندها تاريخ من الأساطير والأشباح والجنون والعفاريت؟"[3].
بالطبع كان لشق الترعة فضل في ازدهار الزراعة على طول ضفافها، مما يجعل الصورة البصرية المرتبطة بترعة المحمودية صورة مليئة بالزرع والقوارب النيلية التي تنقل البضائع من الإسكندرية وإليها مع سائر القطر المصري، فالترعة ممر ملاحي، وعلى ضفافه الأراضي الزراعية التي يملكها الإقطاعيون ويحرثها الفلاحون.
وخلال فترة الخديوية والملكية يمكنك أن ترى عزب الباشاوات المصريين والأجانب وحقولهم وحدائقهم، وبعض الفلك الشراعية للنزهة في أوقات الراحة .غير أن سمات مرحلة النهوض التي اتسمت بها فترة الباشا الأول قد آلت إلى سمات التمتع بنعم هذه الفترة وما أنعم الاحتلال والرأسمالية على الإقطاعيين من خيرات[4].
صناعة الجمهورية وبناء الطريق
ازدهرت الإسكندرية وتمدد نطاقها العمراني وبدأت الصناعة تأخذ مكانها شيئا فشيئا على ضفاف الترعة في مناطق الإسكندرية المأهولة وقتها على امتداد أحياء محرم بك وكرموز. لكن حدودها لم تتعدَّ النزهة التي بها تبدأ فساحة الأرض. أما التوسع الأكبر للصناعة الوطنية جاء مع أيام الجمهورية، أيام عبد الناصر، يمكنك الآن أن ترى توسعا في مصانع الغزل والنسيج والزيوت والصابون والنحاس سواء بالتأميم أو التأسيس، استتبع هذا اتساع المجال العمراني على ضفاف الترعة بعدما كان محدودا في أحيائها التقليدية القديمة، وكان من نتائجه موجات الهجرة الداخلية الكبيرة من المحافظات إلى المدن، خصوصا بعد تهجير الأجانب من الإسكندرية، في عملية غير منظمة بُنيت بيوت العمال، الذين تمتعوا بحقوق كبيرة بعد الجمهورية، قرب المصانع، بعضها من مشاريع الإسكان الحكومية وكثير منها بناه الناس لأنفسهم.
الصورة الآن طريق على حد الترعة ومصانع تلو مصانع، وبيوت العمال قريبة من مصانعهم، بقدر ما اتسعت المصانع والعمائر تقلصت المساحات المزروعة أمام ندرة التخطيط لعلاقات الزراعة بالصناعة بالمجال العمراني في هذه المنطقة. تبدو الأولوية الآن للصناعة الوطنية على حساب الحسابات الديموغرافية التي ستشكل فيما بعد الصداع الأبدي لأناس تمددوا فجأة وبسرعة على طول طريق الترعة، والأولوية أيضا للدولة المركزية على حساب تمكين العمال والمواطنين من نظامهم الاقتصادي والاجتماعي ديموقراطيا؛ بحجة ألا يكون ما بنته الاشتراكية القومية هشا أمام تغيرات رأس السلطة وتوجهاتها فربما تتجه نحو الرأسمالية، لكن الدولة المركزية –وياللسخرية- ذاتها هي من اتجهت –فيما بعد- غربا، وهي من تولت مهمة تصفية "مكتسبات" النظام الاقتصادي القومي[5]
قرر السادات أن يبدأ في سياسة الانفتاح الاقتصادي، وكان معنى هذا التحول من اقتصاد ومجتمع "مغلق" إلى اقتصاد ومجتمع "مفتوح" أمام شركات استيراد البضائع وأسلوب الحياة "العصري" المتلائم مع مجتمع "السلام" الجديد المتعاون مع صندوق النقد والبنك الدوليين والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية[6]، ومع شركات "خبراء" الزراعة والتسميد بدلا من الجمعيات التعاونية الزراعية، ومع مبادرات القطاع الخاص الأجنبي في التمويل والتجارة والأعمال بدلا من المصانع القومية.
وكان يعني هذا أيضا الانتقال من "الاكتفاء الذاتي" إلى "الاعتماد المتبادل". وقد اتبع السادات في توجهه هذا سياسات جديدة في التعاطي مع الظهير الزراعي المصري، وعلى البناء الاقتصادي الصناعي في الوقت ذاته، فأدت تعديلات قانون الإصلاح الزراعي إلى تقليص الحقوق النسبية التي تمتع بها الفلاحون من خلاله، كما أدت التغيرات في طريقة تمويل الفلاح وبعض التحولات في نوعية المزروعات وتوجيهها نحو التصدير إلى بدايات تهميشه، تهميش يشترك فيه مع العامل الذي بدأ يفقد ما اكتسبه من نظام يوليو لحساب قوى الإنتاج والاستهلاك الجديد.
وضحت انحيازات النظام الجديد بشدة في محاولات رفع الدعم التي أفضت إلى احتجاجات 1977 التي سماها السادات وقتها "انتفاضة الحرامية" وهي كلمة بالغة الدلالة للتعبير عن موقفه من المنتفضين من العمال والفلاحين والطلبة الذين بدأ يتضح لهم مقدار التهميش الذي يخزنه لهم النظام ليدفعهم على أطراف المدن ويبدأ مصطلح "المناطق العشوائية" في الصعود.
وضحت كذلك اهتمامات النظام التي بدأت في إهمال القرى الريفية في الدلتا والصعيد لصالح المساحات الواسعة الجديدة من الأراضي المستصلحة في الصحراء في علاقة جديدة مع المستثمر الزراعي بدلا من الفلاح، وإهمال المدن القديمة وضواحيها بالذات مثل ضفاف ترعة المحمودية لصالح ولع بالمدن الجديدة في علاقة مع البرجوازية الصاعدة بدلًا من العمال والمتعلمين. وبهذا بدأت الهوة تتسع بين مركز الدولة وهوامش المدن. فدفع بالريف إلى أقصى الهامش وجاءت بعده المدن الفقيرة أو ضواحي المدينة وبدأ المركز ينتقل تدريجيا من وسط المدينة إلى المدن الجديدة.
كان لهذا الوضع أن يُحدث اضطرابات تفوق انتفاضة 1977 إلا أن الوضع الإقليمي استوعب بشكل كبير هذه الاضطرابات في اجتذاب موجات من هجرة العمالة المصرية إلى دول الخليج مع طفرة في أسعار النفط. بلغت ذروة هذه الهجرة في النصف الثاني من السبعينات إلى عام 1983[7] وهي فترة استطاع خلالها المصريون في هجرتهم الثانية (الأولى كانت داخلية والثانية كانت خارجية) أن يعودوا منها بأموال قادرة على رأب بعض الشقوق في حياتهم من توفير مسكن وبداية مشروعات في الاقتصاد الموازي، لكنها زادت من حدة الصدع الأصلي، نتيجة التضخم الناتج عن سيولة مالية لا يكافئها نشاط إنتاجي، ونتيجة تصدع العلاقة بين الإنسان والأرض في غربته، والإنسان ومجتمعه في غيبته، والإنسان ودولته الغائبة إلا عندما تحل أوقات تحصيل الرسوم والمخالفات.
لم نشرد بعيدا؛ فترعة المحمودية وطريقها بقيا شاهدين على هذه التحولات الزراعية والصناعية والحضرية وممثلين لها؛ ويمكنك أن ترى أثر هجرات الخليج في مبانٍ من الحديد المسلح على أراضي الترعة الزراعية، وعمائر طويلة في طريقها الحضري. وترى تزايد نطاق مدن الفقراء على هامش الإسكندرية واتساع نطاق اقتصادها الموازي وتوتر علاقاتها مع المركز.
زرع السادات وتبعه مبارك بتحولهم إلى الانفتاح والرأسمالية ومن ثم الاستهلاك سياسات بدت محل خلاف في أولها، واضطراب وصعود وهبوط طبقي، وبعض المكاسب الآنية لبعض الفئات، لكن ثمارها الحقيقية ظهرت فيما بعد.
فساد الترعة والطريق
نحن الآن في بداية الألفية، حسني مبارك أتم سنته العشرين في الحكم ولا صوت يعلو فوق صوت الخصخصة والفساد وإهدار المال العام. في طريق الترعة، يمكنك أن ترى الآن أفواج العمال العاطلين أحيانا والمحتجين أحيانا، وأن ترى مصانع قد باتت خرائب وأخرى أوشكت أن تكون، لن ترى مساحات الأراضي المزروعة إلا بقدر اقترابك من الحدود الإدراية لمحافظة البحيرة، وعلى طول الطريق ستجد أراضي المصانع وما بقي منها، ومبان تلو أخرى بينها الأزقة كمتاهة لتجار المخدرات والمنبوذين، على جانبي الترعة ستجد ما كان يوما حدائق ومقاعد وزينة بعد أن سُرق حديدها ومات شجرها وحلت القمامة محلها، وفوق الترعة الراكدة –بعدما انتقل الاعتماد عليها إلى ترعة النوبارية- جسور ومعديات للمشاة، وطريق من الأسفلت لم يتوقف الحفر فيه ولم تتوقف أعمال رصفه ثم حفره ثانية لإيصال المرافق عبره.
لم يكن طريق الترعة في ذلك الوقت مكانا مهملًا من العشوائيات وحسب، بل أيضًا مجال عظيم للاختلاس من الأموال المخصصة لإصلاح الطريق ورفع كفاءته. أثناء بحثي، رصدت مشاريع إصلاح طريق المحمودية التي يقوم عليها كل محافظ للإسكندرية، قد خُصصت مبالغ لها تتراوح بين عشرين مليون مرة، وأربعين مليون مرة ومائة وعشرين مليون مرة، لا أحد يعرف بالطبع أين ذهبت[8].
من ناحية أخرى انتقل تركيز الخطاب الشائع من "ترعة" المحمودية إلى "طريق" المحمودية كمحور مروري يخفف الزحام عن المدينة ليس إلا[9]. لا حديث عن المصانع أو الشركات أو العشوائيات. الصورة وقتها: أموال تصرف على طريق مكسر ومياه آسنة وبيوت عشوائية من يقطنها إما أن يعتاش من خدمات أهل المنطقة الاستهلاكية أو يخرج تماما خارج نطاق المحمودية ليجد له عملا. ديموغرافيًّا كانت منطقة المحمودية في حالة تنقل يوميا، يخرج آلاف الناس من أماكن إقامتهم فيها إلى أماكن عملهم المتناثرة ثم يعودون آخر النهار، ما سبب زحاما في اتجاه العمل نهارا، واتجاه الإقامة آخر النهار، في مكان لم تُبن فيه المنازل إلا لقربها من المصانع وأماكن العمل.
إبان الثورة وبعدها، ظهرت عدة مشاريع لتطوير طريق المحمودية ببناء جسور للسيارات فوق الطريق وإعادة سفلتته، بعضها كانت تكلفته مائتي مليون جنيه، توقف العمل فيه مع عزل محمد مرسي عن الحكم، وأتُهم الإخوان بالسعي لردم بعض أجزاء الترعة واستغلالها عن طريق شركات الاستثمار لصالح مشاريعهم الخاصة[10].
كانت المحمودية مثالا على استراتيجية الإماتة البطيئة من خلال الترك والإهمال وعرقلة الإصلاح حتى يمل الناس ويضجروا، فيقبلون بأي حل يأتي من أي طرف، ولا شك أن مستقبل الاستثمار في مكان كهذا جعل أطرافا عديدة تطمع في الاستحواذ عليها، لكنها فشلت بالبيروقراطية أحيانا وأفشلتها الإرادة السياسية أحايين كثيرة، حتى جاء الحل على يد النظام الحالي، حل لا يمكن رفضه أيا كان بعد كل هذه السنوات من الموت البطيء.
خلال عشر سنوات من 2005 إلى 2015 تقريبا لم أكن أمر على الطريق إلا وتساءلت وتساءل الجميع عما يحدث فيه، نفس أعمال الحفر والرصف والإنشاء تتم كل فترة، ثم تترك بغير انتهاء، ثم أعمال إصلاح ما أفسدته الأعمال السابقة، ثم إعادة الأمر كما كان قبل هذه الأعمال، وزحام شديد أثناء كل هذا.
ما يراه محور المحمودية؟
يمكنك اليوم أن تسير في طريق المحمودية على سرعة تسعين كيلومتر بسيارتك الخاصة، في طريق حر جديد من إنشاء الهيئة الهندسية التابعة لوزارة الدفاع، بعد ردم بعض أجزائها وتغطية المجرى المائي من خلال مواسير ضخمة مدفونة، بتكلفة بلغت خمسة مليارات جنيه، ويطلق عليه شريان الأمل، حيث يتخلله أربعة عشر منطقة تنموية أنشئت مع الطريق. إضافة إلى منطقة بحيرات صناعية ترفيهية[11].
حصرت محافظة الإسكندرية الأراضي والمصانع والكيانات غير المستغلة على الطريق فبلغت مساحتها ما يزيد عن مليوني متر مربع بقيمة تفوق أربعين مليار جنيه[12]، يجري العمل على استغلال المساحات "المكتسبة" بعد توسعة الطريق وإعادة إنشائه بالاستثمار فيه، عن طريق الشركات الاستثمارية، وعن طريق قطاع التشييد والبناء.
الصورة اليوم تدل على أولويات النظام؛ إنشاء الطرق السريعة لتوفير بنىً تحتية للمستثمرين، وربما لخدمة مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تتعاون فيها مصر مع الحكومة الصينية وتستثمر الصين في قطاعات تهدف إلى خدمة مبادرتها العالمية، والاستثمار العقاري حيث الاستفادة من أراضي المصانع القديمة ببناء مجمعات عمرانية جديدة، والاستثمار السياحي بإنشاء مناطق ترفيهية وبحيرات صناعية. لم نعثر على خطة لتطوير المصانع على جانبي الطريق.
يشير طريق المحمودية الجديد إلى عدة طبائع للنظام الحالي، حيث تعمل الدولة باعتبارها شركة وشركة استثمارية تبحث عن أفضل فرص الاستثمار، لا القيام بدورها في الرعاية الاجتماعية والاقتصادية لمواطنيها وحمايتهم. ويشير الطريق إلى هوس النظام بالبناء الجديد والضخم، وعزوف عن إصلاح القديم أو حل مشكلاته، فقد تعمد الدولة إلى إنشاء مناطق صناعية جديدة في أماكن الكثافة السكانية القليلة للشركات الرأسمالية، بدل إصلاح وتطوير مصانع القطاع العام الكائنة بالفعل والتي توفر حماية أكبر للمواطن.
يشير الطريق إلى رؤية للتمدن مهووسة ببناء الطرق والكباري واستخدام الأسمنت والحديد، واعتباره مجرد مولات تجارية ومساحات ترفيهية تجذب السياح. هكذا يرى النظام التمدن؛ طريق سريع ومساكن مطلية الواجهة وأرقام في معدلات النمو يشرف عليها البنك الدولي. ليس مهمًا أن يفتقر أغلب سكان محور المحمودية إلى العمل الآمن، والحماية الاجتماعية، وأن تظل حاجتهم أبدية إلى الخروج يوميا وقطع مسافات هائلة تفصلهم عن أماكن عملهم –لو توفرت لهم- ذهابًا وعودة. رؤية للتمدن اعتمدت على وضع الطريق الحر السريع كما هو، وعلى السكان أن "يتحضروا" ويتكيفوا معه.
تضع هذه الرؤية تغييرا ديموغرافيًّا عنيفا آخر يطال المجتمع المصري، من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي إلى المجتمع الاستهلاكي، المحمودية -الترعة والطريق والمحور الجديد- شاهدة على أن للنظام دائما غاية مادية تغفل الإنسان والبيئة التي دمرتها طرق الخرسانة والأسمنت، فالطريق الجديد لم يُبنَ في صحراء قاحلة بل على مساحات كانت في يوم من الأيام مليئة بالزرع والماء، ولم تُعوض هذه المساحات بل جففت وحلت محلها مجمعات العمائر الطويلة، وكأن النظام في عداء مع البيئة الطبيعية وليس لها مكان في خطط التطوير.
تكشف المحمودية أن العمران لم يُفهم باعتباره عملية لتحرير الإنسان وأنها عملية يجب أن تتناسق مع بيئة المجتمع وقيمه، ربما لكل تغيير عنيف ومشروع عملاق منافع اقتصادية على من يديره وبعض المشتغلين. لكن التغيير الديموغرافي العنيف والمفاجئ ينزع الإنسان من استقراره الاجتماعي وتطوره الطبيعي بحيث يكون العمران نتيجة لعمله وتقدم معارفه، فإذا نُزع الإنسان من شعوره بالانتماء لمجتمعه وشعوره بأنه صاحب المكان وله عليه سلطان ورأي، بات هذا التغيير مصدر تهديد على النظام برد فعل عنيف مثله وعلى المواطن برد فعل كالتدمير ذاتي إذا لم يُفسح مجال للتعبير عن نفسه. لكن لا مشكلة من تدمير المواطن لنفسه إذا كان توجه النظام لا يهتم به إلا من جهة قوة عمله التي يبذلها لرفع معدلات النمو ومراكمة ثروات الشركات الكبرى المستفيدة من هذه المشروعات.
من الرأسمالية التجارية إلى الرأسمالية الوطنية إلى رأسمالية الدولة ثم رأسمالية السوق النيوليبرالية التي يظللها الفساد، ظلت السلطة المركزية ثابتة في إدارتها للتحولات التي تصيبها في المكان، تحدوها توجهاتها الخاصة التي يخضع لها الإنسان والبيئة بلا نصيب لهما في أهدافها وإن أصابتهما بعض منافعها وبعض مساوئها فهما دائما رهن لما تقرره السلطة العليا، ولا يبقى للمكان إلا أن تمحى ذاكرته كل حين، لكنه يبقى شاهدا على ما حل به.
الآن، تحت الطريق الخرساني السريع، مواسير تحمل مياه كانت تسقي المزارع والحدائق، وكورنيش تزين بباقات من الأزهار، وبقايا خردة وشحم العمال، وفي رواسب الأرض أرواح من حفروا الترعة في أول أمرها، في مكان –كغيره- خدم دائما مصالح طبقة حاكمة مهما تبدلت، وترك أشباه أرواح لطبقة محكومة لم تبخل بجهد لم تملكه لنفسها يوما، تبقى شاهدة ما حل بالمكان.
[1] عمر طوسون، تاريخ خليج الإسكندرية القديم وترعة المحمودية، هنداوي، 2012
[2] حسن محمد صبحي، المؤثرات الأوروبية في مجتمع الإسكندرية في العصر الحديث، في: جتمع الاسكندرية عبر العصور، مجموعة محاضرات ألقيت في ندوة علمية بكلية الآداب في إبريل 1973، مطبعة جامعة الإسكندرية.
[3] إبراهيم عبد المجيد، لا أحد ينام في الإسكندرية، روايات الهلال، 1996، صـ231.
[4] توضح الصور القديمة أن العمال والمراكب والأشجار والنخيل وبعض بيوت الفلاحين ومباني الباشاوات هي صورة الترعة https://www.youtube.com/watch?v=OuD5XmX6YVA
[5] هاني شكر الله، ثورة بغير منظمات ثورية وسياسة بلا أحزاب سياسية .. محاولة لفك اللغز المصري، موقع بالأحمر
[6] تيموثي ميتشل، حكم الخبراء مصر التكنو سياسة الحداثة، ترجمة بشير السباعي وشريف يونس، المركز القومي للترجمة، 2010، القاهرة، صـ340-345.
[7] صقر النور، الأرض والفلاح والمستثمر دراسة في المسألة الزراعية والفلاحية في مصر، دار المرايا، 2017، القاهرة، صـ72.
[8] https://www.youm7.com/story/2010/9/5/التلوث-يحاصر-ترعة-المحمودية-ويقضى-على-خطط-تطويرها/274630
[9] http://www.alexandria.gov.eg/Lists/List19/DispForm.aspx?ID=136
[10] https://www.dostor.org/301020
[11] مشروعات مصر | محور المحمودية الجديد https://egy-map.com/project/%D9%85%D8%AD%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%85%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF
[12] المصدر السابق.