تمتلك الأسكتلندية كاثرين كولدروود منزلا شاطئيا اعتادت أن تقضي فيه عطلة نهاية الأسبوع. مع موعد نهاية عملها يوم الجمعة، تحزم بعض الأمتعة الخفيفة وتركب السيارة مع زوجها وأطفالها الثلاثة نحو ستين كيلومترا لتقضي العطلة هناك. حدث ذلك مرتين في شهر مارس/ آذار. تبدو القصة معتادة ولكن هذه الرحلة البريئة والتي لا يبدو أنها تخص أحدًا أصبحت محل اهتمام الرأي العام في اسكتلندا ووضعت الحكومة هناك في حرج بالغ لعدة أسباب.
الدكتورة كولدروود ليست مواطنة عادية. هي كبيرة مسؤولي الصحة في الحكومة والمسؤولة عن صياغة كافة القواعد الخاصة بالتعامل مع أزمة انتشار فيروس كورونا. لا تتمتع كولدروود باحترام في حكومتها فقط ولكنها كانت وراء النصيحة التي تبنتها المملكة المتحدة لرفع شعار "ابق في المنزل، حافظ على منظومة الصحة الوطنية" (Stay at home. Save the NHS).
على مدى أسابيع كان الأسكتلنديون يتلقفون كل كلمة تصدر منها؛ هدوء يثير الإعجاب وثقة تنبع ولا شك من خبرة ومعرفة ودراية. كانت صوت الحكومة في الأزمة، وبالنسبة للشعب كانت مصدر الاطمئنان وصوت التعقل الذي ينصح بتجنب الخروج والسفر والحركة حتى إشعار آخر.
عندما كشفت صحيفة محلية عن خرق الدكتورة للنصائح والتعليمات التي صاغتها بنفسها، حاولت الحكومة احتواء الموقف بادعاء أن كولدروود اضطرت للسفر للتأكد من أن كل شيء على ما يرام في منزل العائلة الثاني. إلا أن مزيدا من الصور تكشفت، وأظهرتها تتنزه مع العائلة على الشاطئ وهو ما كان كفيلًا بإحراجها وإحراج الحكومة. لم تسكت الصحف وانهمرت تعليقات الجمهور الغاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي.
اجتمعت كولدروود مع رئيس الوزراء ثم خرجت لتقول "لقد رأيت كثيرا من تعليقات الناس على تويتر اليوم. بعضهم قال إنني منافقة. وبعضهم أخبروني بما تعين عليهم تحمله من مشاق من أجل الالتزام بالتعليمات التي أصدرتها أنا (بخصوص التباعد الاجتماعي والامتناع عن السفر). تلقى مكتبي كثيرا من الإيميلات من عموم الناس الذين أوضحوا لي مدى استياءهم وحدة شعورهم بالإحباط مما فعلت. أخبرني البعض أنني لم أكن مسؤولة بما يكفي وأنني تصرفت كما لو كنت شخصيا غير معنية بما أوجهه من نصائح".
"أريد ان يعلم الجميع أنني رأيت كل هذا وأنني سمعت كل تعليقاتهم. ما فعلته كان خطأ ولذا أعتذر بشدة. أكثر ما يهمني في الشهور القليلة الصعبة القادمة، أن يعلم الناس في مختلف أنحاء البلاد أنهم يحتاجون إلى تقليل انتشار الفيروس وهو ما يعني أنه يجب أن تكون لديهم ثقة كاملة فيمن يقدمون لهم النصيحة". كان هذه آخر كلماتها قبل أن تستقيل وتختفي من الحياة العامة.
ليست هذه قصة وحيدة ونادرة. تكرر الأمر بحذافيره تقريبا مع وزير الصحة النيوزيلاندي ديفيد كلارك، والذي ضُبِط مسافرا مع عائلته في نزهة شاطئية على بعد عشرين كيلومترا من منزله. وعندما كشف الأمر لم يراوغ كثيرا. "كوزير للصحة مسؤوليتي تتجاوز الالتزام بالقواعد والتعليمات إلى أن أكون مثلا وقدوة للمواطنين. في الوقت الذي نطلب فيه من الشعب القيام بتضحيات كبيرة، خذلت أنا الفريق الذي أعمل معه. كانت حماقة مني وأتفهم تماما أن يغضب الناس من سلوكي".
عرض الرجل الاستقالة وقالت رئيسة الحكومة إن فصله كان الإجراء الوحيد المحتمل في الظروف العادية. ولكن نظرا للظروف سيستمر في الحكومة مع تخفيض درجته الحكومية وسحب منصب إضافي كان يتمتع به.
وزير الفنون في حكومة مقاطعة نيوساوث ويلز الاسترالية دون هاروين استقال بعد مخالفة مشابهة مؤكدا أنه لا يريد أن "تشوش مسألة تتعلق بي على عمل الحكومة". وأكد أنه يشعر بمزيد من الأسف بسبب اهتمام الرأي العام بأموره الشخصية أثناء هذه الظروف الصعبة.
القصر الملكي في بلجيكا اعتذر بدوره لإسبانيا بعد خرق أحد الأمراء لقواعد الحظر في برشلونة التي سافر إليها الأمير الشاب ليلحق بحفل كان مقاما هناك ثم تبين أنه مصاب بكورونا.
في بريطانيا، ما زالت أصداء فضيحة كبير مستشاري رئيس الوزراء البريطاني دومينيك كَمنيجز الذي ترك منزله أكثر من مرة وقاد سيارته مئات الأميال من أجل القيام بزيارات عائلية تتصاعد، خاصة وأنه سافر في إحدى المرات مع زوجته وهي مصابة بكورونا بينما كانت سياسة حزبه وحكومته ونصائحهما للناس أن يبقوا في منازلهم.
في كل هذه الحالات ورغم بعد المسافات بين البلدان، يكاد يكون هناك إجماع على مفاهيم أساسية بخصوص القوانين والقواعد المنظمة للمجتمع. الفلسفة في كل الحالات واحدة والهدف الأسمى هو حماية المجتمع وأمنه وضرورة التزام الموظف العام بأن يكون قدوة. الاستثناءات مكروهة، والرأي العام يعتبرها نفاقا. ما ينطبق على المسؤول الأعلى ينطبق على الجميع. بل وبلغ الأمر حد أن رئيس الشرطة في مقاطعة نيوساوث ويلز أصر على فرض غرامة على الوزير المستقيل، امتثالا للقواعد الموضوعة قائلا "لا أحد فوق القانون".
في عالم مواز وفي الحالة المصرية لا يوجد ما يشير إلى الإحساس بأي تناقض عندما يؤكد المسؤولون ليل نهار على أهمية الامتثال لقواعد الصحة والسلامة والتباعد الاجتماعي بينما هم يخرقونها عيانا بيانا. أحد أكثر المشاهد عبثية هو متابعة جولات المسؤولين الحثيثة من أجل التأكد من سلامة العمال والمواطنين والتزامهم بالتعليمات في مواقع العمل بارتداء كمامة الفم والأنف.
الصحف والمواقع تنقل ببراءة كيف يوبخ المسؤول المواطنين أو العمال الذين يسارعون إلى تثبيت كماماتهم بينما يقف هو دون أية احتياطات. وتزداد الصورة عبثية عندما يجتمع كبار المسؤولين معا. تستطيع أن تتعرف بينهم على المسؤول الأكثر سطوة والأعلى مكانة. هو دائما ذلك الذي يخالف التعليمات ولا يرتدي الكمامة بينما يقف الباقون حوله في خضوع والتزام، وإن اختلف الأمر قليلا بعد إصابة محافظ الدقهلية، إذ انعكس الشعور بالخوف في اليوم التالي على جولات وصور المسؤولين الذين التزموا جميعا بوضع الكمامة.
الفكرة في المكتوب هنا ليست في الصعبانيات المستهلكة أو في التأسي على ما وصلنا إليه. هي فقط محاولة لفهم طبيعة القانون وفلسفته ودلالاته عندنا وعند الآخرين. وهو ما قد يتضح بجلاء عندما نتذكر ما حدث بعدما توفيت حماة أحد مقدمي برامج التليفزيون المعروفين. غض المسؤولون الطرف عن تنفيذ القانون، في "مجاملة" واستثناء يتكرران دوما مع أصحاب الحظوة والنفوذ. تكدست المقابر بالناس وتوافد المعزون على السرادق في زحام خطر يناقض كل ما نسمعه عن قوانين منع التجمعات والصلوات والسرادقات والعزاءات والاحتفالات.
المظهر ذاته حدث عندما وقع حادث إرهابي في سيناء، وعادت جثامين الشهداء إلى بلدان عائلاتهم. تقرر هذه المرة بوعي ووضوح، أن يتم إعفاء الجنازة من قواعد الحظر احتراما للحدث وتقديرا لأبطاله! تجمع الخلق في زحام يليق بالمشهد، وساروا وراء النعوش وصلوا خلفها دون مراعاة لأي من القواعد والقوانين التي تحظر التجمعات في زمن كورونا.
دعونا ننحي مسألة الأهمية القصوى التي يراها البعض للمساواة في تطبيق القانون على الكبير والصغير أو أهمية أن يكون الأكبر مقامًا ونفوذًا ومسؤوليةً قدوة لغيره. سنترك هذا جانبا ونتساءل؛ لماذا يلجأ الناس لسن القواعد والقوانين؟ ما الهدف؟
في حالة وباء الكورونا الهدف هو حماية الناس من الإصابة بالمرض. حمايتهم من الموت. ولكن كيف يستقيم هذا مع ممارسات غير منطقية يتم بمقتضاها "إعفاء" المسؤولين أو المرضي عنهم أو المتنفذين أو حتى أقارب الشهداء وذويهم من القواعد التي سنت لحمايتهم؟ هل يعقل أن نجامل البشر بإعفائهم من الحماية من الموت؟
الإجابة تكمن في التحول التدريجي لوظيفة القانون في مجتمعاتنا، حيث لم يعد هدفه هو المصلحة العامة أو تنظيم سلوك الأفراد، أو تحقيق الحماية لهم. واحد من أهم الأغراض التي اكتسبها القانون في المجتمعات المتخلفة هو انتهاكها. هدف مهم من أهداف ذوي المكانة هو انتهاك القانون لتأكيد الوضع الخاص الذي يتمتعون به في المجتمع وهو ما يتكرر إلى الحد الذي يجهل هذا الانتهاك وظيفة أساسية من وظائفه. كلما كان الانتهاك علنيا وواضحا وفادحا كلما كان في هذا تأكيد لعلو مكانة المنتهك. لا يوجد هنا ما يخجل، ولا داعي للتواري عن العيون. فالأمر ليس خرقا بدواعي الاضطرار أو العجز عن الامتثال، هو خرق مقصود. علنيته جزء لا يتجزأ من غرض انتهاكه.
في مجتمعات كهذه تتحول القدرة على انتهاك القانون إلى مطمح عام لأنها علامة على علو المكانة. خرق القانون يصبح طموحا والجهر به وسيلة للتباهي بالسطوة. شيئا فشيئا تنتشر مظاهر الانتهاك في كل مكان؛ من التغاضي عن إطلاق أصحاب النفوذ النار في الأفراح والاحتفالات، إلى إغماض العين عن سيارات مفيمة بالزجاج الأسود وبلا أرقام أو علامات، تخترق الشوارع في سرعة فائقة، وتمر عبر الكمائن بيسر وسهولة لأن العلامة الوحيدة المتبقية عليها تشي بانتمائها، ويا للسخرية، إلى إحدى جهات إنفاذ القانون.
شيئا فشيئا ينسى الناس الغرض الأساسي من سن القوانين، وتتحول في ذهنهم إلى مفردة من مفردات التضييق والتكدير التي يقتصر الامتثال لها على العاجزين ومعدومي الصلات، ويصبح تجاوز القانون مثلما كان الحال مع جنازات الشهداء، علامة من علامات التكريم للأبطال وأهاليهم. فيتم تسهيل عدواهم وإصابتهم بمرض قد يكون قاتلا، على سبيل المجاملة.