كان ذلك مفزعا جدا بالنسبة لي. لم تعد الشوارع في هولندا كما ألفتها، ولم يعد الهولنديون كما عرفتهم في السنوات السبع التي قضيتها في بلادهم. كما أنني أيضا لم أعد أنا، بعد أن غيّر حضور فيروس كورونا كل شيء في حياتنا. ولكن هذا التغير لم يكن مصدر الفزع، بل تجلياته في سلوكياتنا جميعا.
في الممر المؤدي إلى الكاشير في السوبر الماركت، حاولت امرأة أن تطبق تعليمات هيئة الصحة العامة بأن تحافظ على مسافة مع الآخرين، لكن هذا استفز أحدهم فقال بعصبية غير معهودة عند الهولنديين "لماذا تبتعدين هكذا؟ لست مصابًا بكورونا، لست مصدرًا للعدوى، لست مريضًا، ولست كلبًا لأعضك". وأنا أستطيع أن أفهم هذا، فالهولنديون غير معتادين على فكرة التباعد الاجتماعي التي فرضها عليهم الفيروس، كما أنهم غير معتادين على فكرة الوصاية الحكومية عليهم، إذ تحظى الحريات الفردية بقداسة اجتماعية غير قابلة للمساس بها. ولكن الخوف، الذي لا يعرف أحد مَن غرس بذوره، سينمو بأسرع من توقعات الجميع: الخوف سيقود كل شيء، لأنه سيخيف الخائف وما، أو مَن، يخاف منه.
ذات مرة، أبطأت خطواتي قبل تقاطع شارعين إذ رأيت ظلًا قادمًا من الشارع الآخر، قبل أن يتحول الظل إلى رجل يلتفت خلفه ويقول "انتبهوا.. هناك بشر قادمون". التصقت بالحائط، إلى أن عبر، وعبر خلفه ثلاثة أطفال. كان خائفًا، وكانوا خائفين، فصرتُ خائفًا، ليس فقط من العدوى بفيروس كورونا، ولكن من تلك الجملة التي قالها الأب لأبنائه، ومن المستقبل الذي تحمله معانيها للإنسانية كلها. مضى زمن القول بأن الآخر هو الجحيم، فهذه رفاهية وجودية "سارترية" تعيسة، لأن الآخر، منذ الآن، هو العدو، ولأن الآخر، منذ الآن، هو أنا، فكل "آخر" هو "أنا"، وبالتالي كل "أنا" هو عدو بدرجة ما، بعد كورونا.
أردت أن أتخيل حجم الكابوس الذي يعيشه ذلك الأب، حتى صار ينبه أطفاله إلى أن هناك بشرا يقتربون، فتذكرت الفوبيا التي عانيتها من الكلاب منذ طفولتي.
الإنسان ككلب غير شرس لكنه مخيف
لم أكن أفهم سر خوفي من الكلاب، لكنني عانيت من فوبيا حقيقية كانت تتغير معها كيمياء جسمي بمجرد رؤية كلب مهما كان بعيدًا عني. وكان وجود كلب في شارع ما كفيلًا بتغيير طريقي، حتى لو كان عليّ أن أمشي عدة كيلومترات إضافية لكي أصل إلى وجهتي. وأغرب ما في خوفي من الكلاب أنني لا أتذكر أنني تعرضت لهجوم من كلب ما، خصوصا أن أغلب الكلاب في الصعيد، حيث قضيت طفولتي كلها تكون مربوطة بسلاسل قوية نظرا لشراستها. وكثيرًا ما تعرضت لسخرية الأصدقاء بسبب خوفي المبالغ فيه من الكلاب، وهو خوف غير منطقي في حقيقته، ولكن ليس للفوبيا منطق على أي حال، كما أن الشفاء منها ليس له منطق كذلك.
استغرق شفائي من فوبيا الكلاب عمرًا طويلًا. قضيت وقتا أبحث في ذاكرتي عن اللحظة الأولى التي خفت فيها من كلب، فلم أجد إلا ذكرى وفاة سعيدة. كانت سعيدة طفلة تكبرني بعدة سنوات، جاءت من قرية قريبة لتساعد أمي في أعمال البيت. وقتها كنت طفلا وحيدا، وكانت سعيدة هي الطفلة التي تشاركني ألعاب طفولتي وتؤنس وحدتي. في أحد الأيام، ذهبت سعيدة إلى البيت الكبير، بيت العائلة، ولم تعد. لسوء حظها، ولسوء حظي كذلك، كان كلب البيت غير مربوط جيدا، فعضها، وماتت في المستشفى. هكذا انغرست في نفسي الفوبيا من الكلاب، فهل يمكن أن تنشأ لدى البشر فوبيا مشابهة من الفيروسات؟
عندما قال الأب لأطفاله: "انتبهوا، هناك بشر قادمون"، انتبهت إلى حلولي، بوصفي بشرًا، محل الكلب الذي كنت أخافه، ربما لأفهم حجم الإساءة التي كان يشعر بها الكلب في كل مرة كنت أخاف فيها منه. كنت أتفنن في تفادي الكلاب كما يتفنن هذا الأب في تفادي البشر، حماية لأطفاله من العدوى بفيروس كورونا، أو هكذا يتخيل كلانا: الأب الذي هو "أنا" في صورة ما، و"أنا" الذي هو عدوه ليس بشخصي ولكن بكينونتي كإنسان. تفهمت مخاوف الأب بالطبع، فأنا نفسي حاولت الابتعاد بمسافة كافية عندما شعرت بأنه قادم في الاتجاه المعاكس على الرصيف نفسه، لكنني ما زلت أتساءل داخل نفسي عن الإحساس الذي من المحتمل أن يترسخ داخل هؤلاء الأطفال حول الجنس البشري بشكل عام. هل سنشفى يوما من هذا الخوف، أم ستولد أجيال تعاني من فوبيا البشر؟
شفيت من فوبيا الكلاب بمصادفة عجيبة يصعب تكرارها. دعاني صديقي مدحت فاخوري إلى بيته، فذهبت. كنت أعرف أن لدى مدحت كلبا، وكان يحبسه في إحدى الغرف كلما زرته، ولم يحدث أن التقينا. في تلك المرة، ذهب مدحت ليعد لي مشروبًا، وبقيت وحدي في غرفة الجلوس إلى أن تجسد الرعب أمامي، تحت قدمي. كان اسمه لافي، من عائلة الجريفون اللطيفة الرقيقة صغيرة الحجم، وكان أبيض، لكن المصاب بالفوبيا، مثلي، لا يرى إلا خوفه. وجدته أمامي فجأة، فانتفضت واقفًا في وسط الغرفة. كان يحاول أن يقفز علي، وكنت أتخيل أنه يهاجمني. وربما فهم لافي أنني خائف، فجلس على الأرض ناظرًا إلى أعلى في اتجاهي، وأخذ يهز ذيله. نظرت في عينيه، وبدأت أكلمه "أعرف أنك كلب لطيف، وغير مؤذ. المشكلة ليست فيك، ولكنها في خوفي. سأحاول أن ألمسك". ولمست رأس لافي فراح يقفز بشكل أعاد لي الرعب. كان فرحًا، وكنت خائفًا، فعدت للجلوس على الكنبة، مع شعور خفي بالزهو، لأنني أخيرًا لمست كلبًا. جلس لافي تحت قدمي، فوق حذائي تحديدًا، وأخذ يهز ذيله، ثم نام. لم يستغرق الأمر سوى تلك الدقائق التي أعد فيها مدحت كوب الشاي، قبل أن يعود ليجدني مع كلبه على هذا الوضع. تبين لاحقا أن لافي، واسمه يعني الضاحك، نجح في فتح الباب، وجاء ليرحب بي ويلعب معي. بعد شهر تقريبا من تلك الحادثة المفصلية في حياتي، اتصل بي مدحت، وقال لي إنه في الطريق إلى بيتي، وإنه سيترك لافي معي لفترة قد تطول بسبب سفره. ووافقت. عندما دخل لافي إلى بيتي، وقفز في حضني. لمسته، ومن تلك اللمسة، وبها، بدأ طريق العلاج.
دارون في كوعي
ما حدث بعد شهور كورونا هو أن الإنسان قرر أن يتخلى طوعا عن واحدة من أهم الحواس التي قضى آلاف السنين لتطويرها، وهي حاسة اللمس. في الكثير من دول أوروبا، هناك زر في الإشارات الضوئية يضغط عليه المشاة عندما يرغبون في عبور الطريق. كان عليّ تدريب نفسي على ضغط هذا الزر بكوعي، واستخدام مرفقي في محاولة تشغيل لإشارات ضوئية أخرى تعمل باللمس، لا بالضغط. جعلني هذا أفكر في الذيل المنقرض لدى الإنسان، وفي إمكانية انقراض الكف إذا ثبت أن فيروس كورونا ينتقل باللمس حقًا، وإذا استمر الفيروس بحيث تتعطل حاسة اللمس لدى الإنسان، أو يقل استخدامها. وفكرت في شكل كوعي أيضًا، وإذا ما كان بالإمكان أن يتطور بحيث يلائم الوظائف الجديدة التي يمكن إسنادها إليه: هل سيصبح الكوع مسطحا بدرجة ما، أم أن عظمته ستبرز بحيث يمكن استخدامها في أداء مهام مختلفة عن مهام الكف؟ الكوع نفسه هو "العضو" الذي اقترحه رئيس الوزراء الهولندي مارك روتة للمصافحة، بدلا من الكف، قبل أن ينسى، في نهاية مؤتمر صحفي، ويمد كفه لمصافحة وزير الصحة العامة. كان من الصعب ألا ينسى، فالمصافحة جزء من ثقافة الإنسانية، منذ أن ابتكرها الإنسان في عصور ما قبل التاريخ. صحيح أن الموقف أضحك الصحفيين، والفيديو نال مشاهدات كثيرة في العالم كله، لكنه كان علامة على صعوبة المشهد الذي وجدت البشرية نفسها فيه. فهل يستطيع الإنسان أن يتخلى عن المصافحة؟
نشأت المصافحة من حاجة الإنسان الأول إلى الإحساس بالأمان، تماما كما حدث لي مع لافي، الكلب الضاحك الذي صار صديقي، وعالجني من فوبيا الكلاب. لم يكن بإمكان الإنسان البدائي أن يصدق كون الشيء الذي يواجهه آمنًا إلا إذا لمسه، وربما نشأت، من هنا، فكرة السلام باليد، التي تحولت إلى رمز للسلام بين البشر. فهل نقص شيء من سلامنا النفسي، أو الاجتماعي، عندما عطّلنا حاسة اللمس؟ ولكن اللمس هو شرط الوجود المتحقق أيضا، فالإنسان يمكنه أن يتشكك فيما يرى أو يسمع أو يشم، وحتى فيما يتذوق، لكن يصعب أن يتشكك فيما يلمس. يتحقق الوجود فعليا باللمس، فهل سينتقص كورونا من وجودنا، الان أو في المستقبل، إذا تعطلت لدينا حاسة اللمس؟
ظني أن إنسان ما بعد كورونا سيكون مختلفًا، ليس نفسيًا واجتماعيًا، بل ربما يختلف فيزيائيا كذلك.