الموت في وجدان الشعب المصري قديم قدم الحضارة الممتدة على جانبي النيل، وهي الحضارة التي صنعت من قصة موت أوزوريس ثم اختياره كبيرًا لآلهة يوم الحساب، أسطورتها الأهم. واليوم، المصري يشتري المقبرة مع أول طفرة اقتصادية يحققها في حياته، ويتفنن في تزيينها ويسميها "بيت الآخرة".
تحمل الشخصية المصرية طبقات عميقة من الحزن، ولعل "الموت الأسود" الذي كان يهاجم القرى والمدن فيحصد الأرواح حصدًا ويخلف من ورائه الحسرة في قلوب من نجوا، واحدًا من أسباب تراكم هذه الطبقات.
الموت والحزن في قلوب المصريين أنتجا فن "العديد"، وهو قصائد شعرية تبدعها المرأة في الدلتا والصعيد والصحارى والسواحل، تدور موضوعاتها حول خصال الميت الحسنة وكأنها تخليد للموتى وتعزية لأهلهم الأحياء.
هنا، نحاول أن نقرأ أثر صفحات "الموت الأسود" في تاريخ ووجدان المصريين.
كتب نجيب محفوظ ملحمته الكبرى الحرافيش مستلهمًا ذلك الوباء الذي هاجم حارة قاهرية فأباد أهلها، ولم يترك سوى ناجٍ واحد أسموه عاشور الناجي، من سلالته ولدت الرواية وتحولت إلى عمل كبير في سجل الأدب العربي. وفي فيلم دعاء الكروان المأخوذ عن رواية طه حسين التي حملت الاسم نفسه، تسأل فاتن حمامة عبد الحليم خطاب "وين هنادي يا خال" ليصفعها الخال البدوي العنيف بغضب وهو يرد "قلت لك هنادي راحت في الوبا"، أي ماتت بفعل الطاعون أو الكوليرا.
العائق الذي يأخذ على الرائق
لكن المؤرخين الذين عاشوا في أزمنة الموت الأسود أو الحمى الصفراء أو الطاعون، ذكروا لنا أن الطاعون هاجم مصر عام 1347 وظل فيها حتى 1349، فقتل حوالي مئتي ألف إنسان. كانت بداية ظهوره على طريق القوافل الذي يربط بين القاهرة وبلبيس بمحافظة الشرقية.
وذكر المؤرخون أن الطاعون في تلك الفترة قتل الفلاحين والمماليك، أما من نجا منهم فهرب بعيدًا عن القاهرة. قتل الطاعون أيضا رهبان الأديرة حتى فرغت، وبارت الأرض الزراعية وعاش المصريون قسوة المجاعة، وتوقفت بعض الحرف والصناعات لموت الحرفيين العاملين فيها. فسر الفلاحون انتشار الوباء بأنه من غضب الجن على الناس ورغبتهم في إيذاء المؤمنين.
يصف المؤرخ تقي الدين المقريزي وقائع تفشي الطاعون وآثارها على المصريين فيقول "وأضحت القاهرة خالية مقفرة، لا يوجد فى شوارعها مار، بحيث يمر الإنسان من باب زويلة إلى باب النصر فلا يرى من يزاحمه، لكثرة الموتى والاشتغال بهم. وعلت الأتربة الطرقات، وامتلأت الأماكن بالصياح، فلا تجد بيتًا إلا وفيه صيحة، ولا تمر بشارع إلا وفيه عدة أموات، وصارت النعوش لكثرتها تصطدم والأموات تختلط، وأحصيت الجنائز بالقاهرة في شهري شعبان ورمضان وبلغت عدتها ألف وأربعمائة نعش، فحملت الأموات على الأقفاص، وألواح الخشب، وصار يحمل الاثنان في نعش واحد".
لم تتوقف هجمات الطاعون هنا، فقد عاد الوباء مجددًا عام 1524 أي بعد سبع سنوات من سقوط مصر في قبضة الاحتلال العثماني، ليقتل آلافًا من الناس، فأمرت السلطات العثمانية أهالي القاهرة بضرورة قتل الكلاب وتعليقها على واجهات الدكاكين والحوانيت. ولم يذكر المؤرخون العلاقة بين الطاعون وجثث الكلاب المعلقة لكن المصريين امتنعوا عن تنفيذ هذا الأمر، لأن الكلب مهم في حياة الفلاح والبدوي وساكن المدينة، فهو يحرس قطعان الأغنام وحيوانات الحقل والبيوت والدكاكين. تفرغ المصريون لإخفاء كلابهم عن عيون العسكر العثماني.
وانزاحت الغمة حتى جاء عام 1729 ومعه وباء سماه المصريون "العايق اللي بيأخد على الرايق"، والعائق هو قاطع الطريق الذي يقبض الأرواح، وعلى الرائق أي دون سابق إنذار.
ترك الوباء البلاد وعاد ليهاجمها مجددًا عام 1791 ويقتل الآلاف كالعادة. هذا الوباء سماه المصريون "طاعون إسماعيل"، ومقصود به إسماعيل الحاكم أو"شيخ البلد" لأنه مات به ومات معه كثير من المماليك وعلماء الأزهر.
وانحسر الطاعون ثم عاد مجددًا أثناء وجود الحملة الفرنسية في مصر، ووصف الجبرتي ماقام به أطباء الحملة بقوله "فلما ظهر الوباء انزعج الفرنساوية من ذلك وجردوا مجالسهم من الفرش، وكنسوها وغسلوها، وشرعوا في عمل كرنتيلات وأمروا بحرق الثياب التي على أجساد الموتى". وتوقفت صناعة النسيج في أسيوط وهي من البلاد المهمة في هذه الصناعة وكان إنتاجها يصدر إلى خارج البلاد، لكن الطاعون قتل العاملين فيها فتوقف الإنتاج بصورة نهائية.
يصف الجبرتي مشاهد الحياة في القاهرة وهي تكافح الموت إذ يقول "وازدحمت الناس على الحوانيت في طلب المغسلين والحمالين، وكان يقف فى انتظار المغسل والمغسلة حشد من الناس، ويتضاربون على ذلك، ولم يبق للناس شغل غير الموت وأسبابه، فلا تجد إلا مريضا أو معزيا، أو راجعا من صلاة جنازة أو مشغولا بتجهيز ميت".
محمد على والمواجهات الأولى
عندما هاجم الوباء مصر عام 1834، وجد أن الأمور تغيرت بعض الشيء، فقد أصبحت هناك مدرسة للطب أنشأها محمد علي وإجراءات للعزل أقرها ذلك المقدوني الذي تولى حكم البلاد عام 1805.
لما ظهرت أولى الإصابات في الإسكندرية، أمر محمد علي بفرض حجر صحي على السفن التركية، وعمل مناطق عزل وحجر أخرى على أطراف المدينة، وحبست قوات الجيش والشرطة المرضى في نقاط الحجر الصحي، وصدر قرار بقتل كل رب أسرة أو كبير عائلة يتستر على مصاب بالطاعون من أقاربه، فوقعت مواجهات مسلحة بين الأهالي وجنود الجيش والشرطة الذين قتلوا عددًا من أرباب الأسر وكبار العائلات ممن اعترضوا على نقل أقاربهم إلى مناطق العزل الطبي، وحفر عدد من الأهالي مقابر داخل بيوتهم ودفنوا فيها أقاربهم الذين قتلهم الطاعون، دون أن يبلغوا الحكومة.
ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي يخيم فيها شبح الموت الأسود على المصريين في عصر محمد علي المديد، فقد عاد مجددًا بعد ثلاث سنوات في 1837 ليقتل مئتي ألف مواطن 75 ألفًا منهم في القاهرة وحدها. وعاد مرة ثالثة عام 1841، حيث انطلق من الوجه البحري أولًا قبل أن يتفشى في عموم البلاد.
الكوليرا من زمزم
فرّق المصريون بين الطاعون والكوليرا والتي سماها الفلاحون "الشوطة" أو "الكريرة". تعرفوا على هذا المرض في عام 1831، وظلت هجماته متوالية في أعوام 1834 و1848 و1850 و1855 و1865 و1883 و1895، حتى المرة الأخيرة عام 1902 عندما ظهر في قرية موشا بمديرية أسيوط، وشارك في مكافحته طالب الطب نجيب محفوظ، الذي سيصبح لاحقًا رائد طب النساء في مصر، ويشرف على ولادة نجيب محفوظ الذي نعرف، والذي سُمي تيمنًا بمن جاء به إلى هذه الدنيا.
كتب محفوظ الطبيب مذكراته عن الفترة التي قضاها في قرية موشا "كان من بين الحجاج في العام 1902 عمدة بلدة موشا، وقد جلب معه عشر صفائح مملوءة بماء زمزم، وكانت زمزم في تلك السنة قد لحقها ميكروب الكوليرا، ولم يفطن هو أو أطباء الحجر الصحي في منطقة الطور إلى ذلك، فأذنوا له بنقل الصفائح، ولما وصل العمدة إلى قريته، وزع الماء على أهله ومحبيه، فصبوه في آبارهم للتبرك به، ثم ظهرت بينهم الكوليرا تحصدهم حصدا، فأقامت الحكومة حول القرية نطاقا من العسكر يمنعون الدخول إليها أو الخروج منها، وحشدت لمكافحة الوباء خيرة الأطباء، وقدرت لكل منهم خمسة عشر جنيها مرتبًا شهريًا وهو ضعف مرتب الطبيب في الأحوال العادية".
ويتابع "وتواصل الكفاح شهرًا دون أن ينقطع الوباء، بل تسرب إلى البلاد المجاورة، وأخذت أفتش عن الآبار المخبوءة، وكان الأهالي يخفونها بوضع ألواح من الخشب القديم عليها ويفرشون فوق الألواح حصيرًا، ثم يغطون الحصير بالتراب، واكتشفت من هذه الآبار المخبوءة حوالى خمسين".
ورغم السيطرة على الكوليرا في موشا، إلا أن الوباء انتشر منها إلى بقية أنحاء البلاد، وبلغت أعداد من ماتوا في مختلف المدن والقرى حوالى 34 ألف مواطن.
غابت الكوليرا وعادت مجددًا في عام 1947 من قرية القرين التابعة لمركز أبو حماد بمحافظة الشرقية، وكان ذلك في 22 سبتمبر/ أيلول، وهو موسم جني البلح حيث ترتفع الرطوبة. فانتشر الوباء بصورة كبيرة وانتقل إلى الصعيد وكانت الفيوم أكثر المحافظات تضررا، وبلغ إجمالى من قتلهم الوباء حوالى عشرة آلاف شخص.
فن الحزن في الريف المصري
رغم اختلاف الطبيعة والطبائع في دلتا النيل عن أعالي الوادي، فإن الموروث الروحي في بحري لا يختلف عن ذلك الموجود في قبلي، الموت في الريف واحد، ولكن الاختلاف يكمن فى بعض طرق التعبير عن الحزن. ومثلما وحدت الأوبئة المصريين الذين أصابتهم وأنهت حياتهم، فإن آثارها وحدت طبائع من بقوا "يعددون" على الذين ذهبوا.
و"العديد"، ذلك الذي يمكن أن نسميه "فن الحزن"، نوع من "الشعر الشعبي" تبدعه النساء لتخليد الموتى من أبناء وآباء وأمهات، والعديد في الصعيد هو ذاته العديد في الدلتا لو استثنينا اختلاف اللهجات. مثال ذلك هذه "العدودة" التي تروى في المنوفية، ورواها الشاعر محمد عفيفي مطر:
وبذات الطريقة فى البناء تبدع المرأة الصعيدية عدودتها، برؤية ولهجة وظروف بيئية تختلف قليلًا، فتصور القيمة العليا للأب والرجل عموما فى حياتها:
وفي عدودة أخرى تقول:
وفي النهاية نقول إن الطاعون انتهى، ولم تعد هناك كوليرا، والملاريا كفت عن المصريين بعد بناء السد وتوقف الفيضان، ولكن كثيرون ما زالوا يلحقون بـ "هنادي" التي "راحت في الوبا"، فها هو كورونا يسجل حضورًا، ويعيد إلى الأذهان تلك الصور المأساوية عن المقابر الشرهة التي لا تشبع وهي تبتلع المئات والآلاف كل يوم، ليتلقفها الحزن المصري الذي تغذى على ذكريات الفقد عبر أجيال، ولكنه ظل مع ذلك حزنًا قويًا ومختلفًا، وعميقًا.
مراجع
- دكتور صلاح السيد عبد العال، الجهود المحلية والدولية لمكافحة وباء الكوليرا، مجلة كلية اللغة العربية جامعة الأزهر فرع أسيوط.
- دكتور فارس خضر، ميراث الأسى - تصورات الموت في الوعي الشعبي، رسالة ماجستير منشورة ضمن سلسلة الدراسات الشعبية عن هيئة قصور الثقافة.
- نجيب محفوظ، حياة طبيب - مذكرات دكتور نجيب محفوظ، منشورة ضمن مهرجان القراءة للجميع.