"رب السموات والأرض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سَميا"
سنجد الحق سبحانه وتعالى يعطينا سرًا من أسراره على امتداد تنزيله الحكيم، فالمصحف الذي بين أيدينا بدأ بـ "بسم الله الرحمن الرحيم".
نأخذ تلك الآية على سبيل التبرك، نبدأ بها وضوءنا وصلاتنا، يومنا وطعامنا. ولكن هل فهمنا على الأقل جزءها الأول؟
يعيد الحق سبحانه مرة أخرى نفس الشيء في سورة مريم (19) التي هي أول سورة في النصف الثاني من المصحف جزء 16 حزب 31 "رب السموات والأرض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سَميا" (مريم: 65).
هنا الأمور أكثر وضوحًا، فالحق يسأل نبيه ونحن من بعده، هل تعلم اسمًا لرب السموات والأرض؟
وفي الجزء 27 والحزب 54 نجد الأمر يتكرر مرتين في سورة واحدة وهي سورة الواقعة (56) "فسبح باسم ربك العظيم" (الواقعة: 74)، و"فسبح باسم ربك العظيم" (الواقعة: 96)، ثم سورة الحاقة (69) في الجزء 29 والحزب 57 "فسبح باسم ربك العظيم" (الحاقة: 52)، ثم مرتين في أخر جزء الـ 30 الحزب 60، مرة في سورة الأعلى (87) "سبح اسم ربك الأعلى" (الأعلى: 1)، وانتهاءً في سورة العلق (96) في أول آية منها، والتي هي أول آية أنزلت على النبي "اقرأ باسم ربك الذي خلق".
سبع مرات يذكرنا الله ويضرب لنا الأمثال، ليعلمنا حكمة إلهية بسيطة وواضحة جدًا؛ فعلى الرغم من أن الحق سبحانه، أعطى لنفسه صفات كثيرة، منها الرحمة والمغفرة والقوة والابداع الخ، لكنه لم يعطنا أبسط الأشياء؛ اسمه.
نحن لا نعلم اسمًا للخالق، ولم يطلع نبيه ولا نحن من بعده على اسمه. تلك الفكرة البسيطة والمباشرة، ولكن لماذا؟
تصوري الشخصي هو أنه يعلمنا درسًا في منتهى البساطة والعمق، أن الأمور لا تؤخذ أبدًا بظاهرها، ولكي لا نعبد الاسم وننسى الجوهر، الذي استفاض الحق في شرحه لنا، تارة بالرحمن (وهنا الرحمن لا تؤخذ من الرحمة، لكن من الازدواجية، لكن لذلك مقام ومقال آخرين)، وتارة بالرحيم وأخرى بالقهار والجبار الخ.
أعطى لنا سبحانه صفات لجوهره ولم يذكر لنا اسمًا له، رغم أن أول ما يفعله الإنسان عندما يعرّف الأشياء هو منحها الأسماء، ولكن الله لم يعرِّف اسمه لنا بل منحنا صفات جوهره.
عودة للكورونا.
سلمت في المقال السابق بفرضية غضب الله، وأرجعت ذلك الغضب إلى قسوتنا على بعضنا البعض، وتجبرنا وجورنا على الأرض وكائناتها، وأننا لا ينبغي أن نأخذ بظاهر الآيات بل بجوهرها ومعناها.
فالله ضرب لنا مثلًا على ذلك بأبسط الأشياء بالنسبة لنا؛ الاسم، فنحن نعبد إلهًا لا نعرف له سَميا، نعبد جوهره.
وعلى ذلك، ينبغي أن نقيس آياته، وظواهره ومخلوقاته؛ أرضًا كانت أو سماءً, أحياءً أو جمادات، حتى الأمراض والأوبئة لابد أن نبحث في جوهرها وجوهر مسبباتها.
هناك بحث يختص به العلماء والأطباء والمنوط بهم ايجاد الحلول والعلاج، وهناك بحث يختص به أمثالنا من العامة، الذين يحتاجون للمعرفة؛ لماذا حدث هذا؟
والبحثان يدوران حول الجوهر.
أسلفت في المقال السابق، بناء على فهمي لآيات التضرع ومشاهداتي لما يحدث في العالم، أن القيمة المفقودة في هذا العالم هي الرحمة واللين.
وأن الدرس الذي ينبغي علينا تعلمه هنا، أن نرحم أنفسنا وبعضنا البعض ونتعامل بقدر من اللين. لكن كيف يحدث ذلك؟
أرى، وقد أكون مخطئًا، أن الرحمة مفقودة في هذا العالم، لأن البشر، كأفراد، لا يرحمون أنفسهم بل يظلمونها.
الرحمة قيمة موجودة في كل البشر، لكن أغلبهم، وخاصة الذكور منهم، وبسبب ظروف نشأتهم أو بيئتهم، قمعوها بداخلهم، إلى أن تناسوا وجودها.
قبل أن نمارس الرحمة، هناك قيم أخرى قرنها الحق تعالى بالرحمة، مثل المغفرة، وهي أكثر الصفات اقترانًا بالرحمة في المصحف "غفور رحيم"، ثم تأتي بعدها صفات أخرى كالتواب والرؤوف والعفو والودود.
هذه القيم المقترنة بالرحمة، يعلمنا الله بها كيف تكون الرحمة.
كي نرحم لا بد أن نغفر لمن أساء لنا، ونغفر لأنفسنا ما فعلناه بها من إساءة، ونطلب مغفرة من أسأنا إليهم. المغفرة كقيمة لابد أن تكون صوب أعيننا دائما لنتذوق الرحمة ونفهمها.
كيف نرحم دون أن نغفر؟ وكيف نرحم أنفسنا ونحن لا نغفر أخطاءنا ونتقبلها بل نكبتها، سواء بالتناسي أو التجاهل؟
تعلمنا أن الخطأ رذيلة لا يمكن الاعتراف بها أو قبولها، نفعل كل الأشياء كي لا نعترف بها، رغم إننا بشر أساس وجودنا هو الخطأ، فمنه نتعلم، وبتعلمنا هذا نتقدم.
إن لم نخطأ لن نتعلم، لكن لابد من أن نعترف ونغفر، يمكن أن نتسامح في لحظة ما، لكن لابد أن ندرب أنفسنا على الغفران.
فإن غفرنا رحمنا، وإن رحمنا يمكن أن تتغير المعادلة قليلا، بشرط أن نتذكر، لا أن تكون تلك المغفرة والرحمة مشروطتان بالنجاة، فالنجاة ليس مشروطة بالجائحة التي تضربنا الآن بقسوة وعنف، بل النجاة هي هدف هذه الحياة، أن ننجو من ابتلائها واختباراتها وفتنتها، أن ننجو بإنسانيتنا من شرورها التي تهز أرجاء الكوكب ليل نهار.
بالغفران والرحمة، غفران ماضينا وحاضرنا, المغفرة لكل من أساء وسيسيء إلينا، ونرحم الجميع. فهذه الحياة هي طريق، نتعلم فيه قيمًا إلهية وضعها الله فينا وأرشدنا إليها.