لدي رغبة مُلِحة في الحديث عن الخفاش الآن. فأنا ربما مثلك ومثل كثيرين أمقت الخفاش جدًا وأخافه منذ الصغر، منذ حذرتني أمي بجدية يومًا أنه سيلتصق بوجهي ولن يُفارقه أبدًا سوى بدقاتِ الطبول. ولذا كنت حين ألعب الكرة في الملعب الترابي خلف الكنيسة، أهرب جاريًا مع رفاقِ الصبا حين يظهر سرب الخفافيش من بين أشجار حدائق العنب المهجورة هناك.
أتذكر الآن ضحكاتِ علي، صديقي العراقي، ونحن في بيروت مدينة الخفافيش حين كنا نسير سكارى وفجأة يصيح علي في الشارع الخاوي ليخيفني عن قصد.
"خفافيش يا مارك، خفافيش يا مارك".
ثم يجري وأجري معه.. ثم يضحك فأسبّه ويرن صدى السُباب عاليًا وترن موجاته حولنا فيضحك علي بصوتٍ أعلى.
بيولوجيا محرَّفة
لا أعرف، رُبما لذلك لم أُحب باتمان أبدًا؟ لم يكن بطلي أبدًا. رُبما لذلك أحب كثيرون الجوكر لأنهم منذ البداية لم يتعلقوا يومًا بباتمان لأنه كان في نظرهم أضعف من أسطورية الخفاش في النهاية.
لكن علاقتي بدراكولا مُختلفة منذ شاهدت لأول مرة أحد أفلامه في صباي علي شريط فيديو وكان أبي يُحب الفيلم جدًا ويُصمم على إطفاء نور الصالة لنشعر أننا في قاعة السينما، فهذا الكائن الأسطوري والدرامي والفيلمي بكل طاقات الرعب أقرب كثيرًا لتخيلي عن الشخصية الخفاشية التي تأسست بداخلي منذ الطفولة. لم أتعجب حين علمت لاحقًا أن شخصية دراكولا الفيلمية كانت ركيزة رئيسية التأسيس لمفهوم سينما الرعب في العالم.
جلس أبي يومها على الأرض ببيجامته الصيفية ذات اللون السماوي، ورفع ياقتها مثل بطل الفيلم فضحكنا، وجلسنا حوله فيما يُشبه الجلسة الترفيهية بعد الفيلم، ما أتذكره أنه حكى فيما حكى أن أحد أنواع الخفافيش بالفعل يمص الدماء وسماه العلماء الفامبير بات، شعرت وقتها كأن هذا الخفاش الفامبير يُعلن تحقق الأسطورة في عالم الطبيعة، ونبتت بداخلي فكرة أن الميثولوجيا هي بالأساس بيولوجيا مُحرفة أو أنها تَشكُل رعبنا البيولوجي المكبوت.
كنت أختلف مع إخوتي في لعبة الأتوبيس كومبليه، حول ما إن كان الخفاش يُوضع في صف الطيور أم الحيوانات، فإن كان يطير بكلِ بساطة، فلماذا ليس بطائر؟ ومن منا لم يُعاني طفلًا من سخافة أساتذته عند تكرارهم نكتة أو فزورة عن بيضة الخفاش؟ لم أرتبك حين عرفت أن الخُفاش حيوان طائر أو ثديي طائر، حين أخبرني أبي أن الخفافيش تُمثل خُمس ثدييات العالم. أليست تُعتبر نسبة مربكة نوعًا ما؟
مع داوكنز في الطرقات
أعترف اليوم أن الخفاش مرتبط بلحظة تحول جذرية وأصيلة لنفسي حين قرأت فصلًا كاملًا عنه في كتاب الجديد في الانتخاب الطبيعي لداوكنز، الذي كان من مطبوعات مكتبة الأسرة في بداية الألفية، واشتريت الكتاب مع صديقي محمد صالح بعشرة جنيهات من دار المعارف في محطة الرمل، وكان ثاني كتاب نقرأه للمناقشة بعد وهم الإله. لم أكن متحمسًا لداوكنز بعد الكتاب الأول لكنه سحرني يومها، واستطاع داوكنز ببراعة في الكتاب وفي هذا الفصل بالذات أن يضرب مركزية و تميّز الإنسان في مقتل وبانسياب.
فصلًا كاملًا كنت أقرأه ماشيًا في طرقات المنزل حاملًا الكتاب بين الغرف، وأتمشى مع داوكنز وهو يستفيض ويحكي عن الخفاش وكيفية إرساله للنبضات فوق الصوتية بأطوالٍ وسرعاتٍ مُختلفة حسب الحاجة، والخفاش يصل بمهارته لدرجة إرسال مائتي نبضة في الثانية الواحدة.
وبمعالجة مخية في جهازه السمعي يحدد مكان و تفاصيل العالم مِن حوله، ولهذا يرسل نبضات شديدة القوة ويستقبلها بجهاز أُذنيه الحساس لأقل النبضات ضعفًا و خفوتًا، وببراعة في لحظة إرسال نبضاته الجبّارة تُحرّك عضلاته عظامه ليُغلق أُذنيه حتى لا تتلفا من قوة نبضاته المُرسلة، ثم يفتحها سريعًا ليستقبل مردود الإشارة الخافت، أي أن هذا الكائن يصل أحيانًا لأن يفتح أُذنيه ويُغلقهما مائتي مرة في الثانية.
الدهشة تأتي حين تكتشف أن هذه المنظومة ليست منظومته السمعية كما نفهم بل هي منظومته البصرية، ولكنها تعمل من خلال الصوت، وأن الخفاش يُكون صورة كاملة فعلًا للعالم في مخه، بل إن الخفافيش التي تراها أنت مُتشابهة كُليًا تتعرف على بعضها البعض، صورتها وأدق تفاصيل شكلها، من خلال هذا الجهاز التكنولوجي البيولوجي الدقيق.
اخترع الإنسان حديثًا منظومة شبيهة ولكن بعد الخفاش بآلاف السنين ومُتأخرًا جدًا حين صنع الرادار، وظلت فرق العلماء لفترة من الزمن تتعثر وتفشل في حل مُعضلة فصل الإرسال والاستقبال التي حلها الخفاش ببراعة كما ذكرنا.
والغريب أن ما اكتشفه العالِم دونالد جريفن عن الجهاز البصري للخفاش عام 1940 قُوبِل بالرفض والشك من المُجتمع العلمي، فكيف يقوم هذا الكائن الصغير القبيح بما عجز العسكريون والعلماء عنه لعقودٍ، بل يقوم به بمهارة أعلى بكثير كفعلٍ يومي، بلا توقف.
الخفاش يرافقني
وصفٌ مثل الوصف السابق قد يستخدمه "علماء السبحانية/ سبحان الله"، إن صح التعبير، كمصطفي محمود ليتحدثوا عن عظمة الخالق، وفي حين أن فهم منظومة الخفاش البصرية وتفوقه على الإنسان كان نتاجه هو لقائي العقلي مع اللامعنى وتجلي وعيي بعمى الطبيعة في تطورها بلا طائلٍ أو هدف، فالخفاش الذي كشف لي داوكنز عنه هو مجرد ماكينة مُوجهة، بحيث يقع بعضلات أجنحته على أصغر الحشرات مثلما تقع قذيفة غير موجهة على طائرة، ولكن خبراتنا الروحية أضفت عليه الأسطورية وخبرتنا التكنولوجية أضفت الغائية، وجعلتنا نشعر أن تصميم الخفاش هادف، مثل خبرتنا مع تصميم آلة معقّدة صُنعت لغرض، وهو حدس خاطئ في حالة الماكينة الحية فلا يوجد أي هدف كبير لتصميم الخفاش بهذا الشكل لأنه تصميم للانتخاب الطبيعي غير الواعي، صانع الساعات الأعمى.
صار الخفاش من يوم مشيت مع داوكنز في المنزل هو نصيري في الجدال حول نظرية التطور، لسنواتٍ والخفاش يرافقني في الكنيسة وفي الجامعة وفي القهوة وفي البار وعلى ناصية الشارع، لطالما استمتعت بتردد الخلقيون حين أشرح ميكانزيم الخفاش البصري المتقدم على الإنسان الذي لا معني له. نعم الإنسان يرى بالعين ولا يضره أن ترى الحيوانات كلها بأعينها، ولكن جهاز الإنسان السمعي يقف عاجزًا في الظلام ويفشل أن يُعين المخ على تكوين أي صور. كانت تخرج عبارة سبحان الله مُرتبكة و قلقة من تفوق هذا الكائن الصغير الأسود.
لا أقصد هنا الاشتباك حول ما وراء العالم ولا أرفض تسبيح الانسان للإله تحت أي مُسمى، لكني لا أظن أن إيمان الإنسان بالخالق يمنع بالتبعية وعيه بالتطور، أوأنه يكبح بالضرورة شعوره الدفين بعمى الطبيعة، اللذان لا يقلان في القدم عن مشاعره الميتافيزيقية.
مرت السنوات وقلت حماستي للجدل وغاب الخفاش من رفقتي النظرية، ولكن فجأة تسربت منذ فترة أخبار احتمالات أن يكون أكل الخفاش أو حتى التعامل معه قد تسبب في وباء كوفيد 19 وانتشرت بغزارة ميمات الإنترنت الساخرة عن الخفاش، (مصطلح ميم بالصدفة ابتكره وأسس نظريته داوكنز نفسه). ولكني جزَعت ولُمت نفسي جدًا وكان كل ما في ذهني أنني أخطأت بالتأكيد حين سمحت للخفاش بالرحيل من عالمي العقلي.
بعد أيام من البحث الهاجسي، اتصلت بأختي باحثة الميكروبيولوجي طالبًا منها أن تزورني في البيت برغم مخاوفي من كسر عزلتي، وقلت إنني أريد أن نحكي عما وجدته من أبحاث جديدة بدأت بعد تصاعد احتمال أن يكون الخفاش مصدر الفيروس، وهي أبحاث حول الجهاز المناعي للخفاش المتفوق على الجهاز المناعي البشري، فمناعة الخفاش فولاذية مقارنة بمناعة الإنسان الضعيفة، واستطردت أحكي لها، عبر الهاتف، عن طيران الخفاش الدائم الذي يجعله يُنتج مادة الإنترفيرون بكمياتٍ غزيرة جدًا وبسرعةٍ فائقة تجعله يمنع التسرطن ويقتل الفيروسات أو يظل يحملها فتنمو، ولكن يمنعها من أي تأثير سلبي في جسمه. اختصارًا فجسم الخفاش القوي المناعة يعمل كمصنع فيروسات قادرة على التطور وإصابة الإنسان لأنه ضعيف المناعة.
قالت أختي "مالك؟ لا داعي للتفكير في الخفاش الآن، فلتدع العلماء يبحثون يا مارك".
ثم حَكَت أن هناك عالمة فيرولوجيا صينية اسمها تشاي يًطلقون عليها بات وومان، تبحث طوال ست عشرة سنة داخل كهوف الخفافيش وتدرس في دأب ما يقرب من خمسين نوع فيروس داخل جسم الخفاش، وأنت تُريد أن نتباحث عن الخفاش والفيرولوجيا في زيارة عائلية؟
سرحت بعيدًا عن المكالمة وعجبتني جسارة تلك المرأة العالمة ودأبها، وفكرت أنه لو كان باتمان باحثًا في عالم الخفافيش منذ البداية لكان العالم اليوم في وضعٍ آخر، لكن أختي قطعت الأفكار الرومانسية من الاسترسال و حولت انبهاري إلى توجس حين قالت إن تشاي حولها الكثير من التساؤلات اليوم، ويشكك البعض ان يكون إهمال منها قد ساهم فيما حدث، ثم أكملت "أراك تفكر في الخفاش كثيرًا فقط بسبب ما حدث يا مارك". حاولت أن أشرح لها أن علاقتي بالخفاش قديمة وأنها ليست بهذه البساطة التي ذكرتها.
فضحكت عاليًا. ضحكت كما كان يضحك علي في شوارع بيروت وأغلقت المكالمة سريعًا دون أن أشرح لها أكثر.
فورًا أرسلت لها رسالة صوتية وأنا متوتر، لأشرح لها أن الإنسان استهان بعالم الخفاش دون بحث وحرص وفهم كافٍ، لأنه لا زال يعتقد أنه المركز الذي وُجد الكون من أجله.
وفجأة تاه مني الحديث تمامًا، وجدت نفسي واقفًا في غرفتي أحكي عن الحكومات التي لا ترغب في وجود شعوب لديها القدرات الصحية للمقاومة، والشركات العملاقة المقيدة للبحث التي حرمت الإنسان من تحرك العلم لصالحه، وإذا افترضنا أن رأس المال كمصاص دماء كما يقول ماركس (في تعبير ليس بالضرورة منصفًا للأسطورة الخفاشية) فما أعنيه أن رأس المال لا يمتص "العمل الحي" بمفهومه التقليدي، بل يمتد ليتمص الفكر والبحث والأكاديميا بكل فروعها.
التمسك بانعدام المعني
شعرت بزهو وقتي غير مبرَّر بعد إرسال الرسالة سرعان ما خمد، وبدأت أفكر شاردًا كيف أن تلك المُسببات المحتملة قد تكون ممكنة ولكنها لا تعطي أي معنى لما حدث.
فحذفت الرسالة سريعًا وكتبت لها رسالة نصية مفادها "ما أود أن أقوله إن ما حدث كله ويحدث ليس له معنى أو هدف قط، وهو بالضبط مثل انعدام وجود معنى مُحدد لمنظومة الخفاش البصرية أو مثل غياب أي هدف أعلى لقوة الخفاش المناعيَّة، وتفوقه الطبيعي الأعمى على الإنسان. لا أُفضل استخدام تعبير حرب ولكن فلنقل إنها حرب بيولوجية خرجت شرارتها بغير قصد، منزوعة الغايات والأغراض كُليًا من الخفاش الذي هو مصنع الفيروسات غير الواعي الذي ليس له أي قيم أو مؤامرات ذات هدف أو مفاهيم كبرى أو أي نوع من الخطط لمستقبلٍ محدد".
أتذكر هنا تعليق آلان تورين، عالم الاجتماع الفرنسي على ما يحدث في العالم اليوم "أن الناس سيصيرون مجانين بسبب غياب المعنى"، ما أقصده هو عكس طرحه على نحوٍ ما، وهو ليس أيضًا طرح لدعم منهجية داوكنز ككل، ولكن ما أقصده أن الوعي بالخواء هو السند النفسي الآن والتمسك بانعدام المعنى الغائي التي تطرحه فكرة داوكنز كمركز لوعينا بالخفاش، وبالتالي بالعالم وعناصره هو الداعم العقلي الوحيد للإنسان اليوم وهو يقيه من أن يزيح السبب لعالم المعنى.
هذا الوعي إن أتحنا له المساحات يحقق لنا التوازن ويحمينا من السقوط في الاكتئاب أو الذعر المرضي. فأي استسلام للمعاني الكُبرى أو بحث عن مفاهيم تُضفي أي ما ورائي ديني أو فلسفي أو سياسي هو تعجيل بانهيار الذات.