عام 1945 وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية، تأسس مايسمى بالنظام العالمي بعد أن تمكنت دول الحلفاء، أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين، من هزيمة دول المحور ألمانيا واليابان، لتعلن انتهاء أعنف وأشرس حرب شهدتها البشرية، والتي راح ضحيتها أكثر من 50 مليونًا. وقتها ألقي القبض على بعض قادة دول المحور المهزومة وتمت محاكمتهم فى أول نماذج المحاكمات الجنائية الدولية في محاكمات نورنبيرج، وطوكيو، وسعيّ الحلفاء إلى تأسيس النظام العالمي المتمثل في انشاء هيئة الأمم المتحدة لضمان عدم تكرار تلك الحروب والنزاعات ووضع أسس نظام عالمي جديد، واحتفظوا لأنفسهم بالمقاعد الخمسة الدائمة في مجلس الأمن، الجهاز الأقوى في هيئة الأمم المتحدة، والتي تمنحهم حق الفيتو على أي قرار يصدر من مجلس الأمن بشأن أي نزاع دولي، وفقًا لنص المادة 23 من الفصل الخامس من ميثاق الأمم المتحدة.
وكجزء من الإجراءات العقابية والوقائية التي فرضتها الدول المنتصرة على الدول المهزومة في الحرب؛ حرمت ألمانيا واليابان من المشاركة في صياغة النظام العالمي الجديد بفعل الاستبعاد الذي فرضته دول الحلفاء. وظلّت قواعد النظام العالمي الذي ترتبت على نتائج الحرب، وكذا قواعد القانون الدولي التي أفرزها هذا النظام الجديد تعمل بغرض ومقاصد وضع أسس جديدة تحكم العلاقات الدولية، وإيجاد سبل جديدة لحل النزاعات وقمع محاولات الخروج على تلك القواعد إذا لزم الأمر بموجب الصلاحيات التي مُنحت لمجلس الأمن وفقًا للفصل السابع من الميثاق.
وفي ظل هذا الاستبعاد؛ انشغلت دولتا المحور ألمانيا واليابان بعمل المراجعات الفكرية والسياسية التي تسببت وأدّت إلى انهيارها كليًا، لضمان عدم تكرارها بما في ذلك إحداث قطيعة مع ماضيها السياسي الاستبدادي الذي جرها إلى هذا الدمار، ثم انطلقت بعد ذلك في عمليات إعادة البناء والتطوير على الأسس والمبادىء التي استقرت عليها شعوبها بعد المراجعة والقطيعة مع ماضيها الأليم، وتمّكنت من مواجهة وتجاوز معظم العراقيل التي وضعت أمامها من أجل النهوض، إلى أن أصبحت ألمانيا واليابان الآن من أهم دول العالم في المجالات التكنولوجية والعلمية والثقافية والسياسية.
ومع ظهور جائحة كورونا التي ضربت العالم بأسره وما تزال؛ تعاني معظم الدول تقريبًا وبأشكال متفاوتة من آثار تلك الجائحة التي تهدد البشرية دون تمييز، وحتى هذه اللحظة يقف العالم وعلى رأسه الدول الخمس الكبار الدائمة بمجلس الأمن: أمريكا وإنجلترا وفرنسا وروسيا والصين، عاجزين أمام عنف تلك الجائحة محاولين تفادي أثرها أو على الأقل الحد من نسبة الخسائر البشرية والاقتصادية الناجمة عنها على الصعيد المحلي فقط، وهي السمة الغالبة على أداء الدول الخمس الكبرى في تعاملها مع الوباء وأثره.
في المقابل؛ نلاحظ الدور الرئيسي الذي تلعبه كل من ألمانيا واليابان، المحور سابقًا، في تعاملها مع هذا الوباء، وانتقالها السريع من التصدي للوباء على المستوى المحلى إلى محاولة لعب دور عالمي وإقليمي في محاربة ومكافحة الوباء على الصعيد العالمي.
فى حين احتلت ألمانيا المرتبة الأولى في مجال مكافحة انتشار وباء كورونا ومساعدة القارة الأوربية على الحد من انتشاره عبر استخدام خطط استراتيجية وتقنيات تكنولوجية ولوجيستية وصفت بأنها الأنجح حتى الآن، وتسارع اليابان لإنتاج دواء لهذا الوباء يساعد المصابين الحالين والمحتملين على التعامل المؤقت مع هذا الوباء حول العالم ووصل فعلًا لمرحلة التجارب السريرية في بعض دول العالم الثالث الآن، ولعل هذا التطور فى الأداء والانتقال السريع من مرحلة المواجهة على الصعيد المحلي، إلى مواجهة الوباء على الصعيد العالمي ينبيء عن إدراك صحيح للحظة تاريخية قد تغير من دور ومكانة الدولتين على الصعيد الدولي وترشحهما للعب دور يتناسب مع قدراتهما الفعلية كأكثر الدول تأثيرًا في إدارة الأزمات الدولية الآن.
أعتقد أن هذا التسابق الجاري حاليًا بين ألمانيا واليابان من جهة، والولايات المتحدة والصين من جهة أخرى على مَن يتمكن من إنتاج دواء لموجهة الوباء وحسم معركته أشبه بحالة السباق التي شهدتها الأشهر الأخيرة من عام 1945 بين ألمانيا من جهة والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، والذي تمثّل في السباق على من منهم سوف يتمكن من إنتاج أول قنبلة نووية لحسم الحرب العالمية الثانية، والذي حُسم حينها لصالح الولايات المتحدة، والذي مكّنها من إنهاء الحرب بعد استسلام اليابان، وترتب على ذلك أن اعتلت الولايات المتحدة موقعها في قمة النظام العالمي الجديد. لذلك كان من الطبيعي أن تستهجن ألمانيا محاولات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب شراء نتائج البحوث الألمانية بشأن الدواء بأي ثمن في مارس/ آذار الماضي، في تصرف ينم عن محدودية إدراك الرئيس الأمريكى للحظة التاريخية التي يمر بها العالم والتي قد تؤسس لقواعد نظام عالمي جديد بعد الجائحة.
الفرضية هنا؛ ماذا لو نجحت ألمانيا واليابان أو واحدة منهما في سعيهما لإنتاج أول دواء ينقذ العالم من هذا الوباء وآثاره المدمرة؟ وهل يساهم ذلك في تشكيل نظام عالمي جديد؟
أعتقد أن تلك الفرضية هي الأقرب للتحقق لعدة أسباب، أهمها توافر الدافعية الشديدة والقائمة على إمكانيات مادية وعلمية وتكنولوجية حقيقية وليست وهمية أو مختلقة لكل من ألمانيا واليابان في المشاركة العالمية الإيجابية لمحو إرث الماضي الأليم للدولتين، بالإضافة إلى مشروعية سعيهما لتغيير مصيرهما المفروض عليهما طوال ما يقرب من 75 عامًا من الإقصاء العمدي من المشاركة العالمية في المنظمة الدولية في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر حرمانهما من العضوية الدائمة بمجلس الأمن الدولي.
في هذا السياق أرى أن تحقق تلك الفرضية كليًا أو جزئيًا سوف يفرض على المجتمع الدولي ضرورة مراجعة الأسس التي قام عليها النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية والذي احتفظت فيه دول الحلفاء بتشكيل مجلس الأمن والاحتفاظ بالمقاعد الخمس الدائمة بها، وفي اعتقادي أن جائحة كورونا قد تمثّل الظرف الموضوعي الذي يستوجب ضرورة إعادة النظر في أسس تشكيل توازنات القوى العالمية، ليس على أساس القيادة للمنتصر بل للكفؤ سواء كان منتصرًا أم مهزومًا. فإذا كانت دول الحلفاء سابقًا قد أنقذت البشرية من ويلات انتصار دول المحور، فإن اليابان والمانيا قد يتسببا في إنقاذ البشرية عام2020 من جائحة كورونا، وهو الأمر الذي سيتطلب معه إعادة النظر والإسراع في تغيير قواعد المنظمة الأممية، وعلى رأسها مطلب تعديل تشكيل مجلس الأمن بزيادة عدد مقاعد الدول دائمة العضوية وما سوف يتطلبه ذلك من تعديل الميثاق الصادر عام 1948.
إن جائحة كورونا واتساع نطاق انتشارها وطريقة التعامل معها وحجم الخسائر البشرية والاقتصادية التي خلّفتها حتى الآن كشفت مدى هشاشة النظام العالمي البالغ من العمر 75 عامًا، ولم تطرأ عليه أية تعديلات جوهرية، قادرة على التعامل مع المتغيرات الدولية الكبيرة التى شهدها العالم منذ عام 1945 وحتى الآن.