فيسبوك
غلاف رواية النسوة اللاتي

"النسوة اللاتي" يسكُنَّ أدب المدينة المهزومة: فضاء روائي يمتلئ بضجيج الأسئلة

منشور الأربعاء 19 فبراير 2020

في آخر رواياته النسوة اللاتي، يتجول الروائي وجدي الكومي داخل عوالم فانتازية يتلاحم فيها الخيال مع الواقع، من أجل أن يطرح سؤالًا أساسيًا عن الارتباط بين غياب الحب وحلول الخراب، في مساحة إبداعية يوظّف فيها ثيمات متعددة عن الحب والشيخوخة والاستبداد والموت. 

يوزع الكومي فصول روايته بين شخصياتها، فيتناوبون على السرد ليكشفوا لنا ضمن عالم خيالي، تداعي الإنسان تحت وقع القهر وغياب الحب وانسحاق الفرد والجماعة، ففي البلدة المتخيلة؛ والتي اختار لها اسم "المحيط"، يطارد الفناء أبطال العمل، بعدما ضربهم وباء تسبب في جفاف المشاعر والخصوبة معًا.

يقول الكومي إن روايته تنتمى إلى أدب الديستوبيا، حيث يطل الخراب المستقبلي بأكثر من وجه، وينطلق أبطال العمل مذعورين بحثًا عن حل بسبب نفاد الخصوبة، ولا تجد النساء بديلًا عن الانتفاض اعتراضًا على المنظومة التي جففت الحب من حولهم.

تحفل الرواية بأبطال تحتدم الصراعات بينهم، وتتمثل أصواتهم في جون، ممثل الأمم المتحدة المكلف بمعاينة حال البلدة الغريبة التي لا يعرف أهلها الأطفال، كحالة غرائبية استرعت انتباه المنظمة الأممية، وامرأة حلت عليها لعنة بعدما تعرضت للاغتصاب في ميدان عام، ورجل أمن ينقل خبراته في التعذيب لزملاءه، وسياسي يعاصر أنظمة متعددة، وأخيرا الغريب الذي يحمل الخصوبة منفردًا في بلاد تتنفس مناخًا فاسدًا.

يوضح الكومي للمنصة أن الرواية "استغرقت مني فترة طويلة، مرت بمراحل عدة، بداية من الكتابة مرورا بجمع المعلومات وصولا لإعادة نسج وكتابة شابها إرهاق ممتع. ورغم أنها العمل الروائي الخامس لي، إلا أنني اعتبرها محطة جديدة في الكتابة، أتمنى أن يدخلها القارئ ليخوض رحلة لا يرغب أن تنتهي".

في الرواية المستقبلية التي تكمن أزمتها في غياب المستقبل، يتكشف للقارئ مع توالي الأحداث أن الزمان والمكان المتخيلان ما هما إلا سياق ليس غريبًا عنهم، ما يُضاعفُ من حدة القلق في عمل لا يعرف الهدوء من بدايته وسرعان ما يثير في النفس ضجيج الأسئلة وسوداوية الاحتمالات.

 

الروائي وجدي الكومي - صورة من صفحته الشخصية على فيسبوك

أدب "المدينة المهزومة"

"الديسوتبيا احتلت مساحة كبيرة من تفكيري، شغلتني، وسكنت الرواية" بحسب الكومي الذي يؤكد كثيرًا على انتماء عمله الأخير إلى أدب المدينة المهزومة التي لا تملك مستقبلًا واضحًا، وهو اللون الذي قال الكومي إنه لطالما سعى إلى التجريب فيه، واختبار قدراته في الكتابة داخله.

ويستفيض "وقع اختياري على هذا اللون في الكتابة بهدف التجربة، لاتنضب عندي الرغبة في التجريب والتجديد المستمرين، في كل مرة أحرص على غزو مساحات أوسع من الإبداع والخيال، يستهويني توظيف الفانتازيا في الواقع الاجتماعي تحديدًا".

ويتابع "أمتلك أكثر من تجربة تقيدت بالكتابة الاجتماعية، التي تعالج قضايا آنية مرتبطة بالمجتمع ومكوناته الرئيسية، مثل شديد البرودة ليلا أولى رواياتي، والموت يشربها سادة ثاني الأعمال، وخنادق العذروات وايقاع، العملين الثالث والرابع، حتى وصلت إلى إحساس بالتشبع من هذا اللون في الكتابة".

إلحاح الخيال

لولا طموح جامح كان لدى الكومي لصناعة عمل من عينة النسوة اللاتي لما خرج بروايته الجديدة عن إطار الأدب الاجتماعي المعاصر، كما يشرح مضيفًا "أشعل هذا الطموح شغفًا نحو الاعتماد على الخيال، وهو ما سبقته إرهاصات في توظيف الخيال في مجموعتي القصصية شارع السماء، ولكن اكتملت الرغبة في وضع الخيال ضمن قالب روائي ضخم وكبير فكانت النسوة اللاتي، مصبوغة بالفانتازيا".

ويحكي الكومي عن "خطوط فاصلة" بين الفانتازيا والواقعية السحرية لما يسود بينهما من خلط، فالأولى خيال عبثي بدرجة كبيرة، يخلو من المعقولية ويطرح ظواهر عصية على التفسير، أما الواقعية السحرية فإنها تناقش قضايا اجتماعية عن طريق الخيال، وتندرج تحت التعريف الأخير رواية 100 عام من العزلة التي استعرض فيها الروائي الكولومبي جابريل جارسيا ماركيز قضايا كولومبيا عن طريق مدينة خيالية تسمي ماكوندو.

يشير الكومي هنا إلى ملاحظات ماركيز عندما قرأ رواية المسخ للروائي التشيكي فرانز كافكا، والتي تروي قصة تحول شخص لحشرة، وأنه حينما وقعت عين ماركيز على مفتتح الرواية الذي جاء فيه "استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلى حشرة هائلة الحجم"، اندفع قائلًا "إذا كان هو استطاع أن يجعله حشرة أنا ممكن أخليه يطير".

وبالمثل، وكما اشتهى ماركيز تطوير فكرة كافكا، بنى الكومي على فكرة الروائي البرتغالي جوزيه ساراماجو في روايته انقطاعات الموت "حيث يغيب الموت في روايته، وتغيب الحياة عن روايتي، وخطرت لي فكرة أن التناسل لن يكون متاحًا بعد الآن، وأن بلدًا ما لن يعود يعمل بتلك الآلية للتكاثر والإنجاب، وسيكون ذلك لأسباب غير منطقية أو مفهومة".

ويضيف "قرأت في العام 2014 بإحدى الصحف أنه حدث للمرة الأولى تناقص في أعداد المواليد داخل مصر، فكان للفكرة وقع غريب في نفسي، واسترعت انتباهي حول الأمر واحتمالاته المستقبلية، فتبلورت في ذهني فرضية ستكون قوام الرواية فيما بعد، عن بلدة يتوقف أهلها عن الإنجاب لسبب قهري خارج عن نطاق الإرادة".

رواية النسوة اللاتي - صورة من صفحة الكومي على فيسبوك

ويواصل الكومي أنه استلهم من ساراماجو وجورج أورويل وكافكا "وجوههم ظلت أمامي ونصب عيني أثناء الكتابة، لازمني على وجه الخصوص جورج أورويل باعتباره قائد مدرسة كبيرة في الديستوبيا، يليه كافكا، ثم ساراماجو، وهذا الترتيب لا أضعه في الاعتبار بسبب الأفضلية لأحدهم على آخر، ولكن من حيث جرعة الديستوبيا الأدبية التي يشكلونها في أعمالهم من وجهة نظري".

تشتد دوامة الموت والفناء، وليس سوى الحب قادر على وضع حد للصراع العبثي الدائر، فمن قلب اعتصام نسائي يصرخ بالاحتجاج قبل ينتهي بمذبحة تتبعها حرب أهلية طاحنة، هناك من يحمل بين ضلوعه الحل، رجل استثنائي وحيد يحتفظ بخصوبته، ولكنه للمفارقة محل تهميش ويعمل في الأرشيف، ولا يعبأ بالبشر من حوله ويبادلهم الاحتقار، ولا يكتثر إلا بالسلاحف التي يعتني بها جيدًا.

سؤال جوهري

"كيف جففتم الحب"؟ سؤال ينفجر من بين ثنايا الرواية ويشكل درة تاج الأسئلة الحائرة فيها، يقول عنه الكومي "أسلط أكبر قدر من الضوء على أن كل شيء في العالم من حولنا أصبح ماديًا بشكل فج، وأصبح الحب خارج الكثير من المعادلات التي تحرك الإنسان، ورغباته، والمعطيات التي يفرضها عليه السياق المجتمعي من حوله والتي تخلو من العاطفة".

ويسترسل "نرى من حولنا مئات القصص عن فراق عاشقين لم يحظيا بأي تنازل يلم شملهما، وتمسكا أو من حولهما باشتراطات فرضتها الظروف الاقتصادية الصعبة، وعند مد الخط على استقامته، نتج عنه في الرواية بلد جف منه الحب، ومصطلح تجفيف الحب ينصرف إلى تبادل السوائل الذي اختفي من العلاقات البيولوجية بين البشر" في بلدة المحيط.

يجيب الكومي عن سؤال حول ما إذا كان لأبطال روايته ظل في أرض الواقع، بتأكيده "لا محال من ذلك، فقد أكون أنا نفسي أول شخصية في الواقع كان لها صدى على الورق في الرواية، والأكيد أن أي روائي يلجأ إلى استلهام الشخصيات من حوله، قد لا ينحتها بالكامل ولكن تبقى ملامح شخصيات الرواية تعود لأبطال حقيقيين".

ويدلل على حديثه بالتذكير بأن "نجيب محفوظ عندما كتب اللص والكلاب استلهم شخصية سعيد مهران من شخص حقيقي كان مشغولًا بمتابعته، ومن ثم كتب حكايته".

عبر دروب مختلفة موغلة في الرمزية يطوف بنا الكومي بحثا عن "قصة الحب" التي بإمكانها أن تعيد الحياة إلى البلاد مرة أخري، ليحيل داخل مساحة إبداعية قوامها 265 صفحة إلى تيارات ومواقف ورسائل واقعية لم تخلُ من غرائبية سوداوية.

جدوى الترميز

"يجب أن يتمتع حضور الترميز بانسيابية حتى لو كان طاغيًا. الأهم ألا يكون مفتعلًا ومبتذلًا ودخيلًا على الفضاء الروائي" بالنسبة للكومي، الذي يشرح منظوره لتعمد الروائي إقحام الترميز من عدمه، متابعا "أرى أنه على الأغلب لا يكون (الترميز) مقصودا وإلا لن يكون جيدًا، فأجواء الشفرات والترميز من أجل الترميز فقط كألعاب أسلوبية بهدف الإسقاط الفج على الواقع، هو محض هزلن ففي النهاية جودة الحبكة الفنية تحتم ألا تتوفر هذه القصدية لدى الكاتب".

واستطرد "يجب ألا يكون هناك إقحام لمعايير ومقادير دقيقه مقصودة، مع الوضع في الاعتبار أنه دوما هناك سر ما  لا يفصح عنه أحد، ليس لأنه لا يصلح للخروج إلى العلن، ولكن لأنه من الصعب وصفه، لذا فالأكيد أن هناك إشارات ورسائل مبطنة، دون سبق للإصرار والترصد".

الكومي أشار كذلك إلى ضرورة الوضع في الاعتبار الخطأ الجسيم في التعامل مع القارئ على أنه لا يملك الفطنة أو الذكاء، فالقارئ قد يكون أكثر ذكاءً من الكاتب في فك شفرات النصوص، لكنه لا يود أن يشعر أنه يحل الفوازير، والمفارقة أن هناك تفسيرات عدة لشيء واحد، فقد تقع الرواية في قارئ استغرق في التعاطي مع أعمال الروائي الروسي فيودور دستوفيسكي، وقد تقع في يد آخر يقرأ الكوميكس باستمرار وثالث يهضم قصص الحب، ويكون لنفس الشيء أكثر من مردود ومنظور بالنسبة لكل منهم.

وبالاستفسار منه حول أسباب طغيان فن الرواية، أرجع ذلك لما لها من "سحر أدبي" عند الناشرين، وتحظى بتقدير وجوائز لا تناله باقي الأشكال الأدبية الأخرى، بالكاد هناك جائزة واحدة كبيرة للقصة القصيرة من خلال الجامعة الأمريكية بالكويت أما باقي الحوائز فلها طابع محلي، عكس الرواية، التي تتصدرها جوائز البوكر وجائزة نجيب محفوظ على سبيل المثال.

وبخصوص مشروعه المستقبلي، كشف للمنصة عن أنه ينوي كتابة نوفيلا قصيرة تدور أحداثها في إطار الأسرة، كنص عائلي "لن أشتبك من خلاله مع مشكلات الأسرة، ولكن ربما يركز على جانب واحد متعلق بالأب" على غرار ما كتبه الكاتب السويسري يورج أجاكيل عن أبيه.