كتب محمد نعيم مقالًا ممتعًا في المنصة عن صعود المهرجانات، حاول فيه الإجابة عن السؤال الذي أثاره تخطي أغنية منها 70 مليون مشاهدة على موقع يوتيوب وحده.
جاب نعيم بنا على طريقته الحكائية الجذابة بين عوالم متنوعة للغناء الشعبي، وشرح أبعادا مهمة لأزمة البرجوازية ومؤسسة الدولة الثقافية معه عبر تاريخ ليس بالقصير. وتركنا أمام وجهة نظر تعزو حالة الاستياء من صعود المهرجانات، لا إلى المحتوى وإنما إلى انحيازات برجوازية سابقة، لا تخفيها موجة من استغراق بعض أبناء هذه الطبقة في المهرجانات، إذ أن "الأمر لا علاقة له بالمحتوى على الإطلاق، بل بتعقيدات يطول شرحها تتعلق بشفرات طبقية واجتماعية مركبَّة، ... وقبل هذا ختم النسر وصك الرسمية ورضا أولي اﻷمر من جهاز دولة وطبقة داعمة"، فكرة لا أظن أني أختلف معه فيها، لكنه بنى عليها ما أجدني مختلفًا معه اختلافًا جذريًا، وهو طرح أكثر حسمًا مفاده أننا "إلى الآن لا نمتلك، إن جاز ذلك، معيارًا نظريًا أو تقنيًا يقاس عبره مستوى رفعة الفن المحلي ورقيه، إلا بمدلول جاذبيته لأي فئة اجتماعية وتكرار عرضه فقط".
ليس عن اﻷخلاق
وقبل الجدل مع صديقي نعيم، لابد أن أذكر أمرين؛ أولهما أنني لست ممن يستريحون للدعاوى الأخلاقية حين يلجأ إليها البعض في مناقشة حول فن ما. وخبرة سنين في هذه النقاشات، جعلتني أؤمن أن صبغ النقاشات حول الفن بصبغة أخلاقية هي دومًا حيلة، غايتها أن تحاصر الفن. وعلى المنوال نفسه، لا أجد الطاقة للنقاش حول معيارية القيمة الفنية، فهو حديث ينحرف دومًا صوب نفس الغاية التي يريدها أدعياء حماية الأخلاق؛ غاية محاصرة الإبداع. الأمر الثاني أني لا أنفي صفة الفن عن أي عمل يراه صاحبه فنًا، طالما كان الإمتاع هدفه ووظيفته. هذا هو بالضبط تعريفي المبسط للفن. باختصار، مساحة الجدل التي أطرحها في تعقيبي على مقال نعيم غير معنية بالأخلاق ولا بالمستوى المعياري للفن.
وعن الموضوع، كنت قد كتبت أكثر من منشور على صفحتي بفيسبوك، حملت فيها على المهرجانات، ووصمتها بأنها مدونة عنف مغناة، وأنها مثقلة برجعيتها وتورطها التام في إعادة إنتاج أحط التصورات في مجتمعنا، على نحو يكرس التخلف الاجتماعي ويزيف الوعي بحقيقة وضعية التخلف. تلك بالضبط هي مشكلتي مع المهرجانات، التي قفز عليها نعيم، بأن استغرق في اشتباك (لا أخالفه فيه) يفضح المؤسسة الرسمية للفنون، وكهنتها؛ من نقيب الموسيقيين هاني شاكر، الذي لا يود وحسب حصار الفن بقيود البيروقراطية النقابية، بل ويحلم بفرض حدود بوليسية له؛ إلى المؤلف الموسيقي حلمي بكر، الذي يسعى منذ سنين، وعلى نحو هزلي، لأن يُنّصِب نفسه حارسًا أخلاقيًا، وحاملًا لمساطر معيارية، وصكوك يمنحها لما يعتبره راقيًا ويمنعها عمن يراه منحطًا.
وعي معطوب
قفز مقال نعيم على ملمحي الاغواء بالعنف وإشاعة التخلف الاجتماعي، وهما وصمتان واضحتان في أغاني المهرجانات التي يقول إنه يتابعها. المهرجانات، فيما أراه، لون فني تأسس على وعي معطوب، ويوهم بأنه اتجاه فني متمرد، في حين أن حقيقته الناصعة هي كونه لون مُغرق لآخر نغمة فيه في عفن المحافظة الاجتماعية ورجعيتها. لست بحاجة لأمثلة عن تصور منتجي المهرجانات الذائعة الصيت عن النساء، وكيف يروجون لأحط الصور الذكورية عن وضعية المرأة؛ فهي نظرة قديمة ممعنة في ترديها لم تخلفها المهرجانات بل تعيد إنتاجها وحسب. نظرة لا ترى المرأة إلا من زاوية الجسد المشتهى، أو من صورتها الذكورية كمكمن للخيانة والغدر. حتى إنهم في تصويرهم لمعاني الحب والغرام في هذه الأغاني، يعجزون دائمًا عن الخروج عن هذين الحدَّين البائسين.
أما أسوأ ما في المهرجانات، وأراه ملمحًا ملازمًا لأكثر أغانيها شيوعًا، فهو حضور العنف الذي يبدو لديهم بادئة للوجود الاجتماعي؛ وهو مبني على تصور منفلت من أي تعاقد مجتمعي ناظم. لقد تورطت الغالبية العظمي من أغاني المهرجانات في الدعوة المباشرة لتبني العنف، وألحت، بعبارات تتكرَّر على نحو مدهش، على صنف من العنف غير مُسوَغ، لا بثأر ولا بمظلمة (على عادة العنف المفهوم في سياق الثقافة المصرية، والذي وجد من يغني له دومًا). تحض هذه المهرجانات على عنف عبثي وعدمي، غايته وحسب أن يُبقى الغضب كامنًا في قلب المجتمعات الفقيرة والمهمَّشة.
لا يحمّل أهل المهرجانات المسؤولية عن مشكلات المجتمع المهمش والفقير إلى السلطة على الإطلاق، ولا يشيرون من أي طرف إلى معاناتهم التي سببها التمييز الاجتماعي والافقار على أيدي السلطة، بل يظل عندهم السبب هو الأقربين (غدر الصحاب، جيران السوء، العيال اللي من منطقة تانية، شلة فلان وعصابة علان، وهكذا)، وفي مقابل هذا العدو القريب المتصور، لا حل سوى حشد طاقة العنف والبلطجة والتهديد بالاستعداد لكلفة الدم، ومعها الإسهاب في مدح رجولة وفتونة بلطجية ومجرمين، هم وحدهم السند.
هكذا ببساطة تقدِّم الغالبية الأعظم من المهرجانات خطابًا يخدم الاستبداد، عن طريق السكوت التام عن نواتج الاستبداد، وعبر التهويم على حقيقة الظلم الاجتماعي ببكائيات الغدر وملاحم العنف. الأدهى أنه على المستوى الفردي، تنحصر مخيلة من يكتبون المهرجانات، فيما يخص حلول إنهاء الظلم والخروج من قيد الفقر في أن يعثر الفرد على مصادفة الإثراء بلا حيثية، وخبطة الحظ. وإن غاب الحظ، وعادة ما يخذل منتظريه، لا يبقى عندهم إلا السلاح، رفيقًا وفيًا، يمثل امتلاكه مبتدأ الخلاص، وتتحقق الميزة الإنسانية بجرأة استخدامه.
لا يهمني صراحة، وأنا أحمل على المهرجانات هذين الملمحين الخطيرين، جدالات من يحملون على مطربيها فجاجة اللغة، أو بؤس الصياغة، ولا حتى أساليب النطق التي لا تعجب البعض. ما نعرفه عن المحكيات أنها تتنوع، وأن لكل فئة صوتها. وقناعتي أن سعي البعض باسم الثقافة إلى احتكار اللغة والصوت هو تفكير بائس، يعكس رغبة سلطوية. كذلك لا يهم في رأيي أن نعلِّق النقاش في مساحة الذائقة؛ فتذوق الفنون يبقى مراوحة بين مدى واسع من الانحيازات والرؤى الجمالية، وتظل الأحكام فيه نسبية بعموم.
صخب متكرر
لكن ثمة ملاحظة لا يجب إغفالها على البناء الفني للمهرجانات؛ فعلى الرغم من الإنتاج الضخم الذي يستحيل حصره، يدرك متابعها كيف انحسر سريعًا ذلك الإدهاش على مستوى اللحن والإيقاع والأسلوب الغنائي الذي حققته المهرجانات في البداية، وكيف استحال حالها سريعًا إلى مجرد صخب متكرر، حتى إن بعضهم اتهم مهرجانيين بالسرقة. قد لا يهم أن نشير إلى سرقة الألحان، فهي للأسف ظاهرة متفشية، وحدِّث ولا حرج عن السرقة الموسيقية في الألوان الموسيقية الراهنة، فجدل كهذا يحيلنا إلى دائرة خبيثة ملخصها أن سارق قد سرق من سارق. وموقع يوتيوب حافل بالإشارة إلى "نحت" أشهر المهرجانات ألحانها بما يصل لحدود فضائحية، لم تخفها حِيل تغيير التيمبو (سرعة النغمات) وتحابيش الإيقاع والمؤثرات الإلكترونية. وما يهم أن أشير إليه هنا هو أن هذه السرقات لا تنم فقط عن محدودية المستوى الإبداعي، وإنما تضع أصحاب الادعاء بأنها موسيقى مدهشة وأصيلة في مأزق واضح.
أخيرًا، هل هذه المهرجانات "معبّرة" عن الفئات الشعبية؟ قبل الإجابة، أود أن أشير، مع نعيم، إلى دأب برجوازي يدّعي على الفئات الشعبية تصورات وأفكار، على طريقة السينما الساذجة، التي تلبس أهل المناطق الشعبية قوالب مختلقة، لا جهلًا بالمناطق الشعبية، بل هذا جزء من لعبة فرض المزاج الطبقي للطبقات الأعلى المهيمنة، لا تمل حيلة "الشخص الشعبي" المتخيَّل والمتوهَّم. هذا ينقلنا لتوكيد أول بأن المهرجانات ليست "اللون الشعبي"، إنما هي مجرد "لون شعبي"؛ لون يخص شريحة من أهل الهوامش، تعكس الكلمات باختصار أن العنف قضيتهم، وتبرز حقيقة غضبهم المرتد لذواتهم وذويهم. لعبة انكفائية تبقي العداوة داخل حيزهم، أو كما يقول المثل "حيلهم بينهم".
خلط كبير
من الصعب الادعاء بأن المهرجان يعبر عن ناس الأحياء الشعبية والفقيرة والقرى وأطراف المدن، إلا في حدود هذه الفئة وتواجدها، فهل أهل المناطق الشعبية هم أناس قضيتهم العنف وعداواتهم ومظلمتهم خلقت بأيديهم ومن بينهم؟ فتش هنا عن رغبة سلطوية تتماهى مع التخلف الاجتماعي، والإلحاح على تلبيس الوعي الشعبي بالمهرجانات مبدؤه فيما طرحه نعيم، أي قياس المهرجان وتعبيره الشعبي وفق"مدلول جاذبيته لأي فئة اجتماعية وتكرار عرضه فقط".
يخلط نعيم والكثيرون بين تحقق شهرة واسعة لعمل فني، وبين أنه معبر بعمق عن وجدان وثقافة وتصورات فئة من الناس. الإقبال مؤشر محدود جدًا للوجدان، ويكفي أن نثبت ذلك بتذكير نعيم والأصدقاء المتحمسين للمهرجانات بأغنية "لولاكي"، التي حققت في زمن الكاسيت، قبل عصر اليوتيوب، مبيعات مليونية مهولة، وقيل وقتها إنها اللون الشعبي الجديد المفاجأة، الذي كما أتذكر قال فيه أحدهم إنه دمج الوجدان الشعبي القاهري بالوجدان البدوي الساحلي.
أذكر أن نظريات ثقافية لوذعية قد تفجرت لتفسير انتشار لولاكي؛ وبحمد الله، كل هذا انزوى مع الأغنية التي خبت، وعم السكوت حين أدرك الجميع أنها لم تكن إلا موضة. يحضر هنا السؤال عن مدلول الرقم، فإذا كانت بنت الجيران (التي حققت 120 مليونًا من المشاهدات للفيديو على يوتيوب، والاستماع لشريطها المسجل على ساوندكلاود)، هي تمثيل للوجدان الشعبي، فهل في المقابل سنرى أغنية "إنت معلم ومنك نتعلم" للمغربي سعد لمجرد التي حققت 600 مليون مشاهدة، نصفهم تقريبا من مصر، تعبيرًا بالمثل عن وجدان البرجوازية المصرية؟ يبقى السؤال مشروعًا وأطرحه أمام من يحاججون بأن الاشتهار هو معيار التمثيل، وأنه كالتصويت في الانتخابات، تعبير حاسم عن وجدان "أغلبية تمثيلية" وعن طابعها الفكري.
أخيرًا، لا أتفق مطلقًا مع من يظنون الحل في منع المهرجانات؛ فتلك دعوة أخطر من عَفَن محتوى وتوجهات المهرجانات. وتظل المشكلة في فهمنا لكيفية تسرب مثل هذا اللون عن حدود عالمه، وكيف يستبد بالبعض السعي الحثيث وغير المفهوم لجعل عالم العصبجية مساويًا للوجدان الشعبي كله؟ أما المعضلة، فقابعة في ناحية الفن وصناعته، فلماذا خبت الألوان القادرة على أن تستوعب الوجدان. لا أقول لماذا غاب البديل، بل أسأل لماذا غُيَّب الأصل؟ تظل المهرجانات في ظني مجرد عَرَضٍ لمرض أكبر، أصاب بعمق الجسد الثقافي لمجتمعنا، ومسؤولية في عنق المثقفين وفي القلب منهم الفنانين.
ليست المشكلة الآن في تردي النظام المهيمن على الفن الرسمي؛ فلا مجلس النقابة ولا شلة ملحني الدولة ولا المتعاركين على سبوبة الأفراح والحفلات يساوون جماعة الفنانين، ناهيك أن يكوّنوا التجسيد للفن. أهمس بذلك في أذن الأصدقاء راجيًا؛ لا تضحوا بنا في نقدكم المستحق لهذا النظام المتردي، بأن تبيعوننا نهيبة لعصابة المهرجانات. أنتم أفقه وأفكه من ذلك بكل تأكيد.