كل من التقى جمال عبد الناصر وصف عينيه كأنها عينا صقر وحكى الأساطير عن نظراته التي اهتزت لها قامات؛ لتكتمل صورة الزعيم الذي صورته الصحف على شكل مارد ضخم يواجه الاستعمار القديم والجديد، بطل خارق يطير وعلى كتفيه أحلام الأمة العربية، قلبه لا يهاب المغامرات ولا يخشى المعارك.
صورة مرسومة لزعيم لا يعرف الخوف طريقًا إلى قلبه، بعناد مكتسب يتناسب مع هيئته ولون بشرته وطباعه. كل احتمالات الخوف تسقط من حسابات الناس عندما تستذكر سيرته أو ترفع صورته في أي محفل أو تظاهرة رغم مرور نحو خمسين سنة على وفاته.
فهل كان الزعيم فعلًا، لا يعرف الخوف؟
في مكان بعيد داخله أخفى عبد الناصر مخاوفه الحقيقية من الإطاحة به من فوق كرسيه. أخافه تضخم دور عبد الحكيم عامر داخل الجيش، مثلما أفزعته كذلك تحركات الطلبة خاصة في نهاية الستينيات غداة الهزيمة إلى حد التفكير في قصفهم بالطائرات. مدفوعًا بالخوف ارتكب الرجل الكثير من الخطايا التي ما زال خصومه يمسكونها عليه إلى اليوم.
ما يدعو للسخرية حقًا أن عبد الناصر هو من صنع أهم مصدر لقلقه؛ عندما صنع منه، بترقية عسكرية واحدة تخطى بها أربعة رتب، مركز القوى الأثقل في البلاد، ومكنّه من سيطر على الجيش المصري سيطرة العمدة على قرية في الصعيد، وحاز الولاء بالعطايا والميزات الاستثنائية لضباطه حتى استفاق الجميع على زلزال الخامس من يونيو.
النهاية الدرامية لصداقة ناصر وعبد الحكيم عامر بالوفاة الغامضة للأخير، تكشف بعضًا من كواليس الصراع الخفي بين الصديقين ومخاوف ناصر المستمرة من انقلاب صديقه عليه. بدأت هذه المخاوف في التسلل إلى قلب عبد الناصر بعد واقعة مجلس الرئاسة عام 1962، بعد خيبة الانفصال عن سوريا الذي جاء بالتزامن مع الأداء هزيل للقوات المصرية المحاربة في اليمن وكلها أمور تدلل على ضعف إمكانات صديق العمر لقيادة الجيش.
جاء إعلان مجلس الرئاسة ضمن حزمة القرارات الاشتراكية والولاية الجديدة للرئيس لخلق واقع جديد لنظام الحكم في مصر، لكن في باطن تلك التغييرات كان عبد الناصر يستهدف خلخلة سلطة رفاقه من زملاء الثورة وعلى رأسهم عبد الحكيم عامر الذي تلقى عرضًا من ناصر أن يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية في المجلس الجديد مقابل أن يترك قيادة الجيش لقائد محترف يختاره المجلس.
لم يدرك عبد الناصر أن عرضه لعامر كان بداية الشقاق وطي السكاكين خلف الظهور، لأن الأخير أظهر تمسكا كبيرا بقيادة الجيش وكأنها حقًا مكتسبًا، أو نصيبه في تركة البلد من حركة الجيش في 1952.
يكشف عبد الناصر في اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي في 3 أغسطس/ آب 1967 رد فعل عبد الحكيم فيقول"سنة 62 لما كنا عايزين نعمل مجلس رئاسة، واتفقنا أنه يسيب الجيش ونعين قائد محترف، وبعد ما تم الاتفاق قدم استقالة وهرب مني 3 أيام لغاية ما جبته".
رد فعل عبد الحكيم الغاضب واختفائه الغامض بعد عرض ناصر أثار قلق الأخير وجعل الخوف يتسلل إلى قلبه للمرة الأولى. لكن رد فعل الرئيس كان مفاجئًا ومعبرًا عن خوف حقيقي من قوة عامر داخل القوات المسلحة، فوافق على طلب عامر بمنحه صلاحيات تعيين وتغيير الرتب العليا داخل القوات المسلحة التي كانت من اختصاص رئيس الجمهورية ، وأصبح عامر هو المتحكم الوحيد في القوات المسلحة دون أي تدخل من الرئيس.
كشف جمال عبد الناصر بنفسه كواليس أزمة ديسمبر/ كانون الأول 1962 وأسباب خوفه وتنازله أمام عامر في اجتماع 3 أغسطس "أنا بقول علنا أنا في الجيش من سنة 62 كنت بأحاول ألم وما أعملش صدام قد يودي البلد في داهية، في سنة 62 قبلت استقالة عبد الحكيم عامر وما كنتش عارف الموضوع. كان فيه ناس عايزة تعمل حاجات وقعدت لميت عبد الحكيم عامر وبعدت نفسي عن الجيش، وقبلت بأوضاع لأسباب تعرفوها ويعلمها الله وقلت لنفسي نلم نفسنا. وكان هدفي أطمئن عبد الحكيم من الناس اللي كانوا بيخوفوه مني".
الدكتور خالد فهمي أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية يفسر الشكل الذي انتهت به أزمة 1962 في مقال له على موقعه عن مجلس الرئاسة، بأن عبد الناصر كان يخشي انقلابًا عسكريًا، لذلك قبل بالتنازل لعبد الحكيم عامر عن سلطة تعيين الرتب العليا في القوات المسلحة.
كتاب العشاء الأخير للمشير، لعبد الصمد محمد عبد الصمد النائب في مجلس الأمة فترة الخمسينات والستينيات، وصديق عامر المقرب وابن بلدته في المنيا، يكشف في أحد فصوله عن رغبة عبد الناصر الدائمة في بث روح المنافسة والشقاق بين عبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادي كونهما من أقوى رجال الثورة.
يقول عبد الصمد إن عبد الناصر كان يركز على التلاعب بالبغدادي وعامر وقت شغلهما منصب نائب الرئيس في بدايات الستينيات، بمسألة من يشغل مكان الرئيس في رحلاته الخارجية، فكان يصطحب البغدادي في بعض الرحلات الخارجية وعامر في بعضها الآخر. ونجحت تلك الطريقة في أشعال النفوس بين النائبين.
ويروي عبد الصمد أيضًا، تعمّد عامر إثارة حفيظة عبد الناصر بشكل دائم من بعد أزمة ديسمبر 62، حتى بأتفه التفاصيل، كأن يعين المشير أخاه رئيسًا لنادي الزمالك في نفس الوقت الذي يرأس فيه هو اتحاد الكرة، وهو ما كان يتوقع عامر إنه يغيظ الرئيس أهلاوي الهوى.
تظاهرات نوفمبر
في التاسع والعاشر من يونيو 1967 خرجت تظاهرات شعبية إلى الشوارع ترفض تنحي عبد الناصر بعد الهزيمة. هذا الحراك الشعبي هو ما أعاد عبد الناصر إلى منصبه الذي تخلى عنه طواعية، بل ومكّنه من التخلص من خوفه الأكبر خلال السنوات الماضية؛ أي عبد الحكيم عامر.
ولكن رغم فضل هذا الحراك على عبد الناصر كما وصفه في بيان 30 مارس عام 1968، إلا ان الرئيس فضّل أن يرفض أي حراك آخر ضده حتى ولو كان هذا الحراك فئويًا لا يهدف إلى إسقاط النظام؛ وهو ما ظهر جليًا في تظاهرات الطلبة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1968 التي اندلعت في عدة محافظات وخاصة الإسكندرية، احتجاجًا على تقليص قانون التعليم الجديد لميزات كانت ممنوحة للطلاب سابقًا، وسرد القيادي الطلابي أحمد عبد الله الذي عاصر تلك الفترة تفاصيلها بدقة في أحد فصول كتابه " الطلبة والسياسة في مصر".
رغم محدودية المطالب والوضع المأزوم الذي عاشته مصر في فترة احتلال سيناء، إلا أن الخوف تملك عبد الناصر أيضًا من هذا الحراك الطلابي المحدود. خوف دفعه لأحد أكثر القرارات جنونًا لو كان وقد طريقه إلى التنفيذ بشكل عملي.
يكشف اللواء مصطفى الحناوي قائد سلاح الطيران بالجيش المصري عام 1968 في شهادته التي رواها للكاتب هشام السلاموني وكتبها الأخير في صحيفة روز اليوسف ثم أوردها في كتابه الجيل الذي واجه عبد الناصر والسادات، والكتاب متاح بالكامل ضمن كتب جوجل، يكشف تفاصيل المكالمة التي تلقاها وهو في مكتبه في قيادة القوات الجوية، من الفريق محمد فوزي وزير الدفاع آنذاك، يأمره فيها بضرب تظاهرات الطلاب التي انطلقت على كورنيش الإسكندرية بالطائرات الهيلوكوبتر.
يقول الحناوي إنه استشاط غضبًا عند سماعه طلب وزير الدفاع، وجن جنونه لدرجة أنه أعلن رفضه التعليمات الرئاسية وطلب تحديد مكان السجن الذي يجب أن يتوجه له صباح اليوم التالي. ومع ثورة الحناوي العارمة احتوى الفريق فوزي غضب قائد الطيران وتوصل لاتفاق معه بأن تخرج الطائرات دون أى أسلحة أو ذخيرة لتحلق فوق تجمعات الطلاب فقط كنوع من بث القلق في نفوسهم ودفعهم للرحيل، ووافق الحناوي على مضض مشترطًا إشرافه شخصيًا وبالكامل على إخلاء الطائرات من الذخيرة والأسلحة.
تركت تظاهرات نوفمبر 1968 أثرًا كبيرًا داخل عبد الناصر وزادت خشيته من تنفيذ إصلاحات سياسية ذكرها في خطاب 30 مارس 1968 الشهير، لكنه تراجع عنها بعد أن تملكه إحساس المؤامرة ضده.
حديث النقد الذاتي الذي تبناه عبد الناصر في أغلب أحاديثه السرية وقتها، والتي عرفنا تفاصيلها فيما بعد من المحاضر المنشورة لاجتماعات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ومجلس الوزراء، ارتكزت على تحديث بنية النظام بشكل يلائم المرحلة التي تعيشها مصر بعد الهزيمة بهدف إصلاح الداخل لدرجة وصفه ناصر لنظامه في أحد الاجتماعات بـ"المتعفن".
استمر عبد الناصر على هذا المنوال وحدد أهدافه بتحديث بنية النظام وخاصة الاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الوحيد في الدولة، والذي بني بشكل خاطئ وفق تعبيره في بيان 30 مارس، وأعلن في البيان إجراء انتخابات من القمة إلى القاع داخل الاتحاد تشمل القرى والمصانع والجمعيات الزراعية وصولا إلى اللجنة المركزية، وحدد الرئيس خطوات الإصلاح التالية في وضع دستور دائم للجمهورية ثم انتخابات لمجلس الأمة وختاما بانتخابات لرئاسة الجمهورية.
حمل بيان 30 مارس الكثير من المفاجأت السارة للشعب، التزم الرئيس فيه بأن يضم الدستور مواد صريحة عن حماية الحريات الاجتماعية والسياسية وإقامة الدولة العصرية التي تعتمد على التعددية السياسية كأساس لقيامها وأن عصر التنظيم السياسي الأوحد انتهى.
ولكن كل هذه الالتزامات لم يؤدِّها الرئيس رغم أن عمره امتد بعد هذا البيان لأكثر من سنتين ونصف. ربما تعلق الأمر بخوفه من تباعتها والتي شاهد عينة منها في تظاهرات الطلبة التي أمر بقمعها بأعنف السبل، ما دفعه للتراجع عن كل الوعود الإصلاحية التي أطلقها في بيانه.