تتبدل الشعارات والهتافات في ميدان التحرير، بالعاصمة المصرية القاهرة، منذ الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011 وحتى الثلاثين من يونيو/حزيران 2013؛ لكن تبقى صورة واحدة حاضرة في كل مناسبة؛ صورة جمال عبد الناصر، ثاني رؤساء مصر منذ تحولها للنظام الجمهوري.
"سياسات عبد الناصر تستهدف القضاء على الإقطاع وإعادة توزيع الثروات ودعم الفقراء وإتاحة الفرص للترقي الاجتماعي، مع بناء قاعدة صناعية صلبة، وفي عهده برز دور مصر السياسي والثقافي عربيًا وإقليميًا" هكذا كان يُقدّم "ناصر" نفسه في خطاباته وهكذا قدمه أيضًا مؤيدوه وأنصاره.
ورغم الإخفاقات العسكرية، والمصاعب الاقتصادية التي عانى منها الشعب بعد هزيمة 1967، ظل المشروع الناصري متواجدًا على الساحة السياسية بعد وفاة عبد الناصر، وحمل لواءه أحزاب وتنظيمات عانى بعض أصحابها من "قمع الحريات" الذي طال الكثير من المعارضين وقتها.
ومع الذكرى السنوية لثورة 23 يوليو/تموز يتجدد الحديث عن حَمَلة إرث عبد الناصر أو "الناصريين" كما يطلق عليهم والمساحة التي يشغلها هذا التيار في المشهد السياسي بمصر.
ويتصدر التيار الناصري أربعة أحزاب، تقول إنها تتبنى مبادئ مشروع عبد الناصر؛ الذي يهدف بالأساس إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والاستقلال السياسي لمصر عن القوى الكبرى، وهي أحزاب الكرامة والعربي الناصري والوفاق الوطني والمؤتمر الشعبي الناصري (تحت التأسيس)، بالإضافة إلى التيار الشعبي، وهو تجمع سياسي يضم عددًا من الأحزاب تحت رايته، يقوده المعارض الناصري الشهير حمدين صباحي.
هذه القوى، وبحسب الدكتور عبد الخبير عطا، أستاذ العلوم السياسة بجامعة أسيوط، لا يتناسب وزنها مع مشروع وشعبية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بل إن بعضهم قد "خان الناصرية" على حد وصفه.
يضيف أستاذ العلوم السياسية المنتمي للتيار الناصري، أن أغلب الأحزاب الناصرية لا تمتلك برنامجًا سياسيًا واقتصاديًا واضح المعالم يتفق مع المشروع الناصري، الأمر الذي أنتج أحزابًا خطابها السياسي غير متماسك، إضافة إلى "تغليب المصالح الشخصية" داخل الأحزاب.
يقول عطا لـ"المنصة": "برامجهم الحزبية ليست ثابتة وواضحة، لذلك لا توجد معارضة حقيقية للسياسات الرأسمالية التي تطبقها الحكومات المصرية، يلتف حولها المؤيدون للمشروع الناصري من عامة الشعب".
منتج ثقافي
عمرو عادلي، الباحث السياسي، يرى أن ظهور الناصريين جاء كردة فعل بعد تخلي الرئيس (محمد أنور) السادات عن سياسات ناصر وليس نتاجًا لأيدولوجية متماسكة.
يقول عادلي لـ"المنصة" إن الناصرية "ردة فعل من المثقفين الذين نشأوا وآمنوا بالتجربة الناصرية ثم وجدوا الدولة تحيد (في عهد السادات) عن طريق عبد الناصر" ويضيف: "أغلب منتجات هذا التيار منتجات ثقافية، وقدراته التنظيمية محدودة لأنه نشأ في سياق سلطوي" موضحًا: "على سبيل المثال من سمح بإنشاء الحزب الناصري هو القضاء الإداري وليست لجنة الأحزاب".
ويرى عادلي أن الناصرية كتجربة "تعبر عن مجموعة من السياسات الخاصة بمكافحة الإمبريالية، وإيجاد نظام اجتماعي أكثر عدالة" لكنه لا يعترف بها كتيار، ويفسر: "لأنها لا تمتلك تنظيمًا قويًا أو بنية تنظيرية منضبطة"، وهذا، في رأيه، يجعل "الناصرية (كفكرة) أكبر من الناصريين".
ويتابع: "الأحزاب الناصرية تحاول خلق برامج سياسية من هذا الميراث؛ الذي يميل إليه كثير من المصريين" ويشير إسماعيل إلى أن بعض الناصريين كانت لهم بالفعل قدرة على التأثير في الجماهير مثل "عبد الحليم قنديل وعبدالله السناوي" وكل منهما كان له دور بارز في معارضة جماعة الإخوان المسلمين".
ويقول إن التجربة الناصرية مازالت تتجسد معالمها في عدة مظاهر مثل مراقبة المجال العام بشكل "بوليسي" على حد وصفه، إضافة إلى "البيروقراطية المسيطرة على الدولة" وهي المعالم التي "ألحقت الضرر بالناصريين أنفسهم وبتنظيماتهم".
مبادئ فضفاضة
شريف يونس، أستاذ التاريخ بجامعة حلوان، يقول إنه يصعب الحكم على ما قدمته هذه الأحزاب للتجربة الناصرية لأن "الناصرية نفسها ليست لها معالم محددة" على حد قوله.
يونس، الذي ألّف كتابين عن تجربة عبد الناصر هما "الزحف المقدّس.. مظاهرات التنحي وتشكل عبادة ناصر" و"نداء الشعب؛ تاريخ نقدي للإيديولوجيا الناصرية" يرى أنه ليس هناك شكلًا محددًا للتجربة الناصرية يمكن القياس عليه "هناك فراغ كبير يسمى الناصرية يتحدث الجميع عنه، لكنهم لا يتفقون على ماهيته".
ويشير يونس إلي أن "المبادئ الفضفاضة التي تعبر عنها الناصرية تفسر اختلاف المنتمين لنفس الفكرة في مواقفهم السياسية، كدعم بعضهم للرئيس عبد الفتاح السيسي لأنه (من وجهة نظرهم) امتداد لناصر، في الوقت الذي يعارضه جناح الآخر لأنه يرى سياسات النظام الحالي لاتتفق مع مبادئ دولة ناصر".
تقول فريدة الشوباشي، وهي من أبرز الأصوات الناصرية في الإعلام، ومن المؤيدين لسياسات الرئيس الحالي عبد الفتّاح السيسي إن المعضلة الحقيقية التي تواجه الأحزاب الناصرية هي عدم وجود شخصية سياسية لها كاريزما وزعامة عبد الناصر للترويج للمشروع الناصري.
ترى الشوباشي أن مشروع عبد الناصر مغروس، على حد قولها، في وجدان الشعب المصري، وتدلل على هذا بصور الرئيس الراحل التي كانت حاضرة في مختلف المناسبات والمظاهرات في الأعوام الأخيرة.
وتضيفُ: "في 25 يناير و30 يونيو كان ناصر الرئيس الوحيد الذي تحضر صورته في مختلف الميادين، عشتُ مواقف كثيرة تدلل على مدى حب واحترام الشعب المصري له ولمشروعه، أبرزها في 9 يونيو 1967، يوم إعلانه التنحي في أعقاب النكسة".
وتنتقد الشوباشي ممارسات بعض رموز التيار الناصري "التي لا تتفق مع مبادئ الناصرية"، وتقول: "دعمت مرشحين قدموا أنفسهم لنا باعتبارهم امتدادًا لعبد الناصر لكنهم قاموا بالاتفاق مع الإخوان وتحالفوا معهم سياسيًا".
الشوباشي ترى أن السيسي هو الوحيد الذي يُعد امتدادًا حقيقيًا لمشروع عبد الناصر، رغم اختلاف سياساته عن سياسات الرئيس الراحل، تقول: "الاختلاف في المظاهر فقط، وليس في جوهر السياسات، السيسي في وضع سياسي واقتصادي واجتماعي مختلف عن وضع عبد الناصر ولهذا ينتهج سياسات مختلفة".
هذا الرأي لا يتفق معه أحمد عبد الحفيظ، القيادي بحزب العربي الناصري، رغم ظهور قيادات بنفس الحزب في عدة مناسبات تدعم السيسي وتُصرّح بسيره على خطى عبد الناصر، لكن عبد الحفيظ يقول إن هذه المواقف شخصية لا تعبر عن الحزب ويضيف: "ليس هناك موقف تنظيمي رسمي من الحزب بهذا الشأن، تمنينا أن يكون كعبد الناصر لكنه يتبني سياسات مختلفة".
وفي السياق نفسه، أشار، الكاتب والسياسي المصري، وائل نوارة في مقال بموقع "ال-مونيتور" في مارس/آذار 2014، إلى اختلافات بين تجربتى ناصر والسيسي أبرزها الموقف الرسمي تجاه إسرائيل من العداء الواضح في عهد عبد الناصر إلى محاولة التقارب في عهد السيسي.
خلافات شخصية
يُرجع عبد الحفيظ، القيادي بحزب العربي، معاناة الأحزاب الناصرية إلى الخلافات الشخصية بين أعضائها، الأمر الذي يؤدي إلى تفرقهم، ويضيف: "الناصريون لم ينجحوا في إقناع الناس بأنهم حملة مشروع عبد الناصر".
ويضيف عبد الحفيظ أسبابًا أخرى لهذا التعثر مثل قلة فرص تداول السلطة وضعف التمويل وضعف الحركة السياسية، ومع ذلك يرى أن أحزابًا كالكرامة والتيار الشعبي والعربي الناصري لها أصوات في الشارع أقوى من أي حزب آخر.
أمين اسكندر، رئيس حزب الكرامة الأسبق وأحد مؤسسيه، يرى أن إيمان التيار الناصري بمشروع ناصر لا يترجم لأفعال تنظيمية، لأسباب لها علاقة بإمكانيات هذه الأحزاب، وقدرتها على المبادرة السياسية والقيام بفعل سياسي.
ويقول اسكندر إن حزبه، هو الحزب الناصري الوحيد الذي له تواجد سياسي في المشهد: "الكرامة كان جزءً من (حركة) كفاية مُعارضًا لحسني مبارك كما تواجدنا في الانتخابات بمرشحين مختلفين، أين باقي الأحزاب (الناصرية) الأخرى؟".
أضاف اسكندر أن وزن بقية الأحزاب الناصرية "الضعيف" كان حائلاً دون وجود تحالف حقيقي بينهم لتمثيل التيار الناصري.
وهو ما رد عليه أحمد عبد الحفيظ القيادي بحزب العربي الناصري، وقال إن عدد مقرات وأعضاء الحزب العربي الناصري أكتر من الكرامة، وأضاف: "كما أن ضعف بقية الأحزاب ليس مبررًا لعدم التفاعل والتحالف معها".
ويقول اسكندر إن حزب الكرامة يعمل على رؤيته الاقتصادية والسياسية والتي يصفها بـ"الواضحة" لأنها تعتمد على آراء خبراء، ويضيف: "عقدنا مؤتمرات وندوات نوضح فيها رؤيتنا السياسية والاقتصادية وطرحنا حلولا للأزمة الاقتصادية".
ويختم اسكندر: "مشروع عبد الناصر استفاد منه الكثيرون، ضعف الأحزاب (الناصرية) وعدم أداء دورها بالشكل الأمثل جعلها عاجزة عن التواصل مع هذه الشرائح".