يقول عالم النفس البريطاني و أهم رواد العلاج النفسي الجماعي ويلفرد بيون في كتابه التحول، الانتقال من التعلم للنمو عن أهمية الحقيقة في النمو النفسي إنها "كالغذاء لنمو الجسد فالحرمان منها يؤدي لتدهور في الشخصية" 1965.
وعليه فقد اكتسب "قول الحقيقة للأطفال" أهمية لدى علماء نفس الأطفال وروجوا لدوره المؤسس في نفسية و شخصية الطفل بل أصبح قول الحقيقة أحد أسس الثورة التي شهدتها أساليب التربية في القرن الماضي، على أيدي علماء النفس و الاجتماع وكان أحد أهم ما كانت تدعو له الطبيبة النفسية الفرنسية، والمختصة في تربية اﻷطفال فرانسواز دولتو (1908-1988).
رغم ذلك فلا زال الكثير من الآباء حتى اليوم يلجأون للكذب على الأطفال رغم ما أثبتته الدراسات المتكررة حول النتائج السلبية لذلك و أهمها الإضرار بالبناء النفسي والتكامل الاجتماعي للطفل.
في أوج أزمة الموازنة الأميركية عام 2019 وتعطل مؤسسات الدولة، تبرع الرئيس الأميركي دونالد ترامب وزوجته للمشاركة في تقليد سنوي، حيث قاما بالردّ على اتصالات الأطفال حول مسار رحلة بابا نويل، وكعادته أثار ترامب الجدل حين شكك بتصديق طفلة في السابعة من عمرها بوجود سانتا كلوز إذ علّق قائلًا "في السابعة من العمر، هو أمرٌ نادر أليس كذلك؟". فيما بعد قال والدا الطفلة أن ابنتهما لم تفهم جملة الرئيس وأن صحة اعتقادها بوجود سانتا كلوز لم تتأثر.
عن تلك القصة كتب أنتوني فونوي وهو معيد في التيولوجي في جامعة لورين مقالًا تساءل إذا كان من الواجب علينا إخبار الأطفال بالحقائق أم الاستمرار في الكذب عليهم. ورغم أن النقد الذي واجهه ترامب كان بسبب تكديره لرومانسية لحظة هو نفسه تطوع في العمل فيها و التأصيل لها، ألا وهي متابعة رحلة بابا نويل، إلا أن ما يدعو للإستهجان حقًا هو الادعاء المضمن لشخص كالرئيس ترامب "ملك الكذب" كما وصفه فونوي، للاستعانة بالحقائق لتربية الأطفال.
النقاش حول الكذب على الأطفال في شأن بابا نويل تناولته دراسات ومقالات عدّة في علم نفس الأطفال والتربية. ففي مقال بموقع جامعة إكستير في المملكة المتحدة حول هذا الموضوع يقول إن ذلك يؤذي الثقة التي يبنيها الطفل بشكل عفوي مع الكبار ومع أهله من حوله و أنه المحاكمة العقلية التي يبنيها الطفل تتبلور في ما يلي: "ماداموا قادرين على الكذب في شأن شيء خاص و سحري، كوجود بابا نويل، فهل من الممكن الاعتماد عليهم كحُرَّاس للحكمة و الحقيقة؟" كما قالت كاثي ماكاي الباحثة في الصحة العقلية.
فونوي، من جهته، حاول الإجابة عن سؤال "هل نستمر في الكذب على الأطفال" ليس بالاستعانة بدراساتٍ تحليليةٍ حديثة، إنما بالعودة لآراء أحد أكبر المدافعين عن الحقيقة و هو الفيلسوف الأثيني أفلاطون (428-348 ق.م).
أفلاطون وقصص الجدات
لم يعترض أفلاطون على مسألة الكذب على الأطفال وإنما على رواية حقائق صادمة وعنيفة لهم، وهنا كان يقصد اﻷساطير اليونانية التي شكلت معتقدات اﻷثينيين الدينية. وكان استهجان أفلاطون يتمحوّر حول رواية تلك القصص، التي تتقاتل فيها الآلهة و تخون وتقتل وقد تأكل بعضها بعضًا.
وبحسب فونوي فالمسألة التي طرحها أفلاطون كانت كالتالي "أليست الآلهة في الحقيقة أفضل من البشر؟ وبالتالي مستثناة من عيوبهم؟ وإذ استعرضنا أمام الأطفال أن الآلهة متعطشة للسلطة والعنف والحسد، فكيف لنا أن نأمل في أن يتصرف مواطنو المستقبل بشكل أفضل من الآلهة التي نقدمها لهم كمثال؟ ألا يتوجب التخلي عن كل هذه القصص السخيفة والتمسك بتعليم العلم والفلسفة؟".
أفلاطون مثله كمثل علماء النفس التحليلي، كان همّه هو الوصول لأسلوب يمكن من خلاله تعليم "المواطنين" بأفضل طريقة ممكنة. لكنه على خلافهم لم يطالب بالتوقف عن الكذب لإن الحقيقة وحدها، بحسبه، لا تكفي فهي أقل إثارة وجاذبية، وبالتالي فقد نفقد اهتمام الأطفال لسماعها.كما أن فهمها يتطلب جهدًا وتبصّرًّا وتفكيرًا، والبحث عنها مكلّف وغير مضمون و يناسبه السكون أكثر من الحركة التي يتميز بها الأطفال "هؤلاء الكائنات التي تكبر و تتحرك دومًا، هم أقل اهتمامًا بالأسباب من القصص والمعتقدات غير المنطقية، فلو أنهم يهتمون مباشرةً بالحقيقة أو المنطق فهل سيحتاجون للتربية؟ فالتربية تتركز أصلًا بخلق كائنات عقلانية من هذه الكائنات الحساسة المتلهفة التي هي الأطفال".
تعمُّد الكذب
التربية والتشجيع على التصرف بتهذيب و بشكل حسن هي السبب الرئيسي لإستعانة الأهل بالكذب في تعاملهم مع الأطفال، بحسب دراسة نشرت في انترناشيونال جورنال أوف سيكولوجي 2013 حيث توصلت الدراسة إلى أن غالبية الأهل يلجأون للكذب بشكل متعمد، 84 % في الولايات المتحدة و 98% في الصين.
ورغم تباين الأكاذيب بين التهديد بعقاب كاذب، مثل ترك الطفل وحيدُا لو استمر في التصرف السيئ، أو في تعزيز التصرف الإيجابي، أو حتى تصديق وجود شخصيات خيالية كجنيّة الأسنان، إلا أن الدراسة تبيّن لنا تساهل الآباء في اللجوء لرواية الأكاذيب في مسائل بسيطة كالحث على تناول الطعام، أو بقاء الطفل هادئًا في مكان عام.
فونوي يقول إننا لو وضعنا في الاعتبار تقييم أفلاطون بأن الاستعانة بقصص غير حقيقية هي طريقة سهلة لإيصال الفكرة المرجوّة للأطفال والاستئثار بخيالهم، فهل هذا يعني الاستعانة بالكذب على الأطفال دون تمييز؟ أم أنه علينا التفريق بين الكذب الجيد والكذب السيئ؟
بحسبه فمن اﻷفضل تحفيز الطفل على الاتجاه للحقيقة، فالمسألة ليست سؤالًا عامًا حول وجود بابا نويل، بل حول تفاصيل تلك الأسطورة؛ التفاصيل التي ستؤثر على خيال الطفل و أهمية الحقيقة بالنسبة له و عن أي بابا نويل نريد لهم أن يعتقدوا؟
هل نحدثهم مثلًا عن بابا نويل يكافئ الأطفال العاقلين فقط أم كل الأطفال دون تمييز؟ هل يعمل وحيدًا أم أنه يدير مصنعًا للألعاب بمساعدة الأقزام؟ هذه الأسئلة، التي لم يتبين بعد قيمتها العلمية، تحمل الكثير من الاختيارات التربوية ذات التوجهات الفردية أو المجتمعية.
ماذا عن اﻵثار السلبية؟
الطفل المتمتع بصحة عقلية وذهنية يتعلم الفصل والتفريق بين الخطأ والصواب، وعندما يكذب أحد والديه أو يقدم له تبريرًا غير حقيقي فالطفل هنا يبدأ بالشك في نفسه أولًا لدرجة أنه يخاف من العالم من حوله، هذا العالم الذي يعرض عليه مسائل مختلفة و غير متوافقة، فالطفل ليس بالسذاجة التي يعتقدها الكبار، وإن كان لم يصل بعد للأحكام الفاصلة، كالفرق بين الموت والحياة و ألوان الجلد وغيرها، لكنه وبحسب الدكتورة كيت روبير يعلم جيدًا حين يكذب أهله أو يخفون عنه الحقيقة، وذلك يجعله يحذِّر منهم دون أن يفصح أو يواجههم.
الكذب المقبول
قد يبدو اللجوء للكذب مبررًا في حالات لا يعرف الآباء التعامل معها كالموت، إذ يعتقد الكبار أن الصغار لن يفهموا طبيعة الموت، ولذا وبهدف حمايتهم يلجأون إما للصمت وتفادي الحديث عنه أو تبريره بأقوال مثل "لقد سافر بابا" أو "ماما انتقلت للعيش في السماء" إلا أن الكذب والتبرير غير الحقيقي لا يساعد الطفل، بحسب فاليه فلورانس باحثة في العلوم الاجتماعية التي وجدت أن ذلك يؤدي لـ"أذية البناء النفسي والتكامل الإجتماعي" للطفل
بالعودة ﻷفلاطون وانطباعه عن رواية الأساطير الأثينية لصغار الأطفال وبالنظر للعصر الحالي فماذا بالنسبة للإيديولوجيات و الأديان؟ هل يمكن معاملة المعتقدات الدينية معاملة المسلَّمات؟ وهل هدف مهمّ كتربيتهم تربية قويمة هو أمرُ مبرر لإجبارهم على الأقتناع بها أو القيام بواجبات دينية؟ ماذا لو لم يقتنع الطفل بوجود بابا نويل أو بوجود الملاك الحارس الذي يسجّل أعماله؟
يدعو أفلاطون للاستعانة بالكذب لتربية الأطفال و تحفيزهم على الإتيان بالخير و الابتعاد عن الشر بينما يحذر أطباء علم النفس من الأثار النفسية المترتبة على الكذب على الأطفال وبتأثيرها المحوري في شخصيتهم أما دراسات المسح فتؤكد على لجوء الأهل للكذب باستسهال مبالغ.
هذا بالنسبة للكذب، أو الأمور التي يتعمد الآباء قولها رغم معرفتهم بأنها غير حقيقية، لكن ماذا عن اﻷمور التي يصدقها الأهل، مثل وجود فضائيين، أو حدث عجائبي خارق للطبيعة، أو حتى التصديق بقضية معينة؟ ماذا لو كان الأهل يعتقدون بحقيقة أمرٍ ما، فيما يرى الطفل شيئًا آخر؟ هل يستطيع الطفل ويملك مواجهة أهله؟
تقول سيمون كروف سوس إن الأطفال يتعاملون مع الكبار معاملة المَثَل الأعلى و القدوة، وعليه فالكبار في محل ثقة وتصديق كل ما يقولونه، لكن في حال شعر الطفل بالشك فإنه غالبًا ما لا يواجه الكبار بذلك لأنه من ناحية يشعر بأنه لا يتمتع بالحق في نقض قول الشخص الكبير، ومن ناحية ثانية فإن العلاقة العاطفية التي تربطه بالكبير، والده، والدته أو جدته، تمنعه من التصريح بعدم موافقته وذلك بسبب خَطر فقدان الحب والرعاية.
وعليه فهل تصديق الطفل لوجود بابا نويل ليس سوى لعبة تمثيلية يقبل الطفل بها لقناعته أن ذلك هو الدور المُنتظر منه؟ وأن أهله سيسعدون بتصديقه للحكاية اللطيفة وسيغدقون عليه بالهدايا؟ هل نستمر إذًا في رواية القصص السحرية، وننتظر رد فعل الأطفال عليها ونعترف لهم بكذبها في حال شكهم أم نتوقف تمامًا؟ أم نجاهد و نحاول إيجاد طريقة أفضل، غير الكذب واختراع القصص، لتعليمهم وتربيتهم؟
في هذا تنصح طبيبة الأطفال ليزا بريسمان، الحاصلة على الدكتوراة في علم النفس التنموي، إنه على الرغم من أهمية تحفيز الخيال لدى الطفل، لكن يجدر بالأهل أيضًا حثّهم على التساؤل والبحث عن الحقيقة.