ينشر هذا المقال باتفاق خاص مع موقع بوسطجي.
عبّرت راقصة في لبنان عن تضامنها مع المنتفضين بأداء رقصة شرقية وسط الحشود المجتمعة أمام جامع محمد الأمين، في بيروت قبل أن تُنزلها عنوة متظاهرة أخرى عن السيارة التي كانت ترقص فوقها نظرًا لما اعتبرته الأخيرة تشويهًا لصورة الثورة اللبنانية.
كما اتضح لاحقًا بفضل التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي؛ فإن شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني تشاطر هذه الأخيرة رؤيتها شاكرين إياها منع الراقصة من إتمام مشاركتها الفنية في الثورة، بعكس ما لاقته مشاركة الفنان مارسيل خليفة بصوته على سبيل المثال من ترحيب.
رأى البعض أن الراقصة "مندسة" من قبل السياسيين اللذين انتفض الثوار ضدهم، حيث أفادت معلومات بأنها متعاقدة مع قناة "أو تي في" التلفزيونية، والتي تعود ملكيتها لأحد أو لبعض رموز السلطة الحاكمة، الذين يرفض المتظاهرون بقاءهم في المشهد السياسي، بينما رأى البعض الآخر أن الرقص الشرقي مشهد لا يليق بأن يكون أمام مسجد، في حين رأى آخرون أن الرقص الشرقي لا يليق بمشهد الثورة.
قد تكون هناك أسباب أخرى لدى البعض للاعتراض على مشهد "الراقصة الثائرة"، لكن فلنكتفِ بهذه النقاط الأبرز ونتناولها واحدة تلو الأخرى:
- هل يليق الرقص الشرقي بثورة أم أن "الأغاني الثورية" وحدها من بين الفنون يحق لها أن تحتكر الثورات أم أن الرقص الشرقي وحده ما يجب استثناءه من بين الفنون الثورية؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات تعتمد إلى حد بعيد على "ما نثور عليه".
لقد أعربت الثورة اللبنانية بشكل خاص عن رفضها لـ "المعايير الأخلاقية البالية" عبر إصرار المتظاهرين على استخدام ما يوصف بأنه "ألفاظ نابية" تسلحوا بها أمام من كتفوا حرياتهم لعقود بخطابات لا أخلاقية تتحجج بالأخلاق والعادات والتقاليد وأحكام الديانات والاحترام المتبادل وغيرها من آليات تقييد الشعوب التقليدية.
وهذا يعني رفض المتظاهرين للمنظومة التي طالما صنفت المهن بين "شريفة" و"مبتذلة"، والتي طالما احترمت الوزراء واحتقرت عمال النظافة على سبيل المثال لا الحصر، كما يفرض ذلك رفض تصنيف الفنون أيضًا بين "راقية" و"هابطة" ليحل محل ذلك، ربما مستقبلًا، تصنيف جديد للفنون على أساس المهنية والمصداقية، وليس على أساس مضمون "الرسالة الفنية" لأن ما قد يراه البعض شأنًا عظيمًا يراه البعض الآخر أمرًا تافهًا والعكس بالعكس.
لم تكن الراقصة وحدها صاحبة المشهد الفني المرفوض خلال الثورة اللبنانية، فلقد وردت اعتراضات على إشراك أغاني جوليا بطرس "الثورية" في المشهد الثوري حتى وإن كانت تسجيلات لأغانٍ قديمة تتغنى بالأوطان والثورات، وهنا قد تتعدد الأسباب بين كون جوليا بطرس زوجة أحد رموز السياسة اللبنانية، ما يعني أن المحسوبية والشللية التي ينتفض الثوار ضدها، هي ذاتها سبب رفض الجمهور لشخص دون آخر، أو أن يكون السبب هو انكشاف أمر نفاق من زايدوا على الشعب بالأشعار والأغاني المنادية بالعدالة، مخبئين في صدورهم ما يتعارض مع ما يقدمون من فن للجمهور.
إن كان السبب هو المحسوبية وارتباط المغنية بالسياسي، فهذا يضعنا أمام معضلة تناقض ممارسات الثورة مع شعاراتها ومضمونها، وإن كان السبب هو رفض الخطابات الثورية البالية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بذات المنظومة "الأخلاقية" التي باتت مرفوضة اليوم، فذلك يعني ضرورة إعادة النظر في كل موروثنا مما يعرف بـ "الأغاني الثورية" التي تَسلَّق أصحابها غالبا على قضايا تدغدغ مشاعر الجمهور لجذبه إلى شباك التذاكر ليس إلا.
حدود المساجد
لعل النقطة الأبرز في مشهد "راقصة الثورة" هو أنه جاء أمام مسجد، وذلك يضعنا أمام تساؤلات تتطلب إجابة فورية:
- ألم تكن الرقصة خارج المسجد؟
- هل لآداب المساجد امتداد جغرافي خارج جدران باحاتها؟
- إذا كان الأمر كذلك فما هي المسافة الفاصلة التي يجب الابتعاد بها عن المساجد لأداء رقصة شرقية؟
كلها في الحقيقة صيغ مختلفة لتساؤل واحد عن المساحة المحيطة التي يفرض المسجد سلطته عليها، وذلك بالمعنيين الجغرافي والسياسي؟
أليس رفض حكومات المحاصصة مرتبط ارتباطًا وثيقًا برفض الطائفية المرتبطة بدورها مباشرة بتعميم سلطة الدين جغرافيًا وسياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا؟
لن أخوض في محاولات الإجابة على هذه التساؤلات وليسأل كل منا نفسه عنها إن أراد وليُجب نفسه بمصداقية وعلى أسس منطقية.
من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.
أما البند الأخير في لائحة الاتهامات الموجهة إلى الراقصة فقد يكون صحيحًا وقد لا يكون، والمصيبة كبرى في كلتا الحالتين.
إن الدليل الوحيد المتوفر حتى الآن، على كون الراقصة مندسة من قبل السياسيين الفاسدين لإفساد صورة الثورة هو تعاقدها مع قناة أو تي في التي تعود ملكيتها لهؤلاء السياسيين.. فهل كان يجب عليها أن تتعاقد مع قناة اقرأ؟
أوليست أحد الأسباب الرئيسية للثورة هي امتلاك هؤلاء السياسيين للبلاد والعباد وكل ما فيها من مؤسسات؟
ألا يدفع حتى أصحاب المتاجر والأعمال الصغيرة والمتوسطة الضرائب بناء على عقود بمسميات أخرى كالدستور والقانون؟
ألا يتعاقد كثير من الموظفين مع شركات تعود ملكيتها لهؤلاء السياسيين وأقاربهم، إن وجدوا عملًا أصلًا؟
ألا يمكن النظر للثورة في حد ذاتها على أنها مطالبة بإسقاط العهد وفسخ "العقد" بين الشعب والحكومة؟
أما إن صح أن تكون الراقصة "مندسة" لتشويه صورة الثورة، فذلك يحمل اعترافًا ضمنيًا بأن الرقص الشرقي وسط حشود ثائرة أمام مسجد هو حدث مشين، وكأن لسان حالنا يقول "نحترم المغني ونحتقر الراقصة ولا حدود معلومة لمساجدنا".. ويا ثورة ما دخلك شر.