"لماذا يأتي إلينا مهاجرون من دول قذرة"؟ كان هذا تساؤل من الرئيس اﻷمريكي دونالد ترامب عن الهجرة من أفريقيا وبعض دول أمريكا اللاتينية إلى أمريكا، شرعَ بعده في بناء الجدار العازل على الحدود مع المكسيك، وفي جهة أخرى من العالم الغربي قال بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا، إن باراك أوباما، الرئيس اﻷمريكي السابق، حاقد على بريطانيا بسبب أصوله الكينية.
هذا الخطاب اليميني العنصري لا يختلف كثيرًا عن نظرة المستشرقة البريطانية ماري إليزا روجرز للعرب؛ التي عبّرت عنها بوضوح بين ثنيات كتابها Domestic Life In Palestine، الذي ذكرت فيه تفاصيل رحلتها، برفقة شقيقها توماس روجرز، إلى فلسطين إبان توليه منصب نائب القنصل البريطاني في حيفا.
تقول روجرز في وصفها للخَدَم الذين كانوا يقضون حاجياتها؛ "عندما اضطررنا ﻷرسال من يشتري لنا الطعام من السوق، وجب علينا وضع النقود في كوب مليء بالماء لمنع انتشار العدوى، والطريف أننا كنا نتمتع بصحة أفضل بكثير من مظهر أي من السعاة القذرين وشبه العراة، الذين قاموا على خدمتنا".
اليمين يحكم
ترامب وجونسون ليسا المَثَلين الوحيدين لليمين المتطرف، الصاعد بقوة، في الغرب، فرئيس حزب الشعب القومي البريطاني نيك جريفين وصف القرآن بأنه "ليس كتابًا دينيًا، إنه كتاب يعلم كيفية الانتصار على الأمم الأخرى، وأنه يتعارض مع الثقافات الأخرى، ولا يتوافق مع الديمقراطية، وكذلك لا يتوافق مع حرية المرأة وفق النمط الغربي"، وأضاف جريفين أنه "لا توافق بين الإسلام والعالم الغربي".
بينما طالب حزب الاستقلال اليميني البريطاني، ذو النفوذ المتنامي الآن في بريطانيا، إلى تطبيق ما أسماه "سياسة عدم التسامح" تجاه المهاجرين والمسلمين. وتعلن حركة حزب الشاي في أمريكا (TPM) تأييدها منقطع النظير لإسرائيل، ومعارضتها التقارب مع العالم الإسلامي، واستبدال ذلك بعلاقات مع أحزاب يمينية متطرفة تشترك في نفس الأهداف كمعاداة الإسلام والمهاجرين في بريطانيا وفرنسا وهولندا وبولندا، لوقف ما أسمته "أسلمة العالم الغربي المسيحي".
وشهدت هولندا تصاعدًا للمد اليميني، مع ظهور حزب "الحرية من أجل هولندا"الذي أسسه خيرت فيلدرز في 2006، وهو سياسي وبرلماني يميني متطرف، معروف بعدائه الشديد للإسلام وكراهية اللاجئين، وسبق له وصف اﻹسلام بأنه دين فاشي في فيلمه فتنة، وطالب بحظر القرآن وشبَّهه بكتاب أدولف هتلر "كفاحي".
وتمكّن حزب منتدى الديمقراطية الشعبوي من احتلال المركز الثاني في مجلس الشيوخ الهولندي، وهو الحزب الذي يرأسه الأكاديمي تييري بوديه صاحب التصريحات المثيرة للجدل ضد المرأة، والمواقف المتشددة من الحدود السياسية بين الدول، والوجود داخل الاتحاد الأوروبي.
الاستبدال الكبير
ومؤخرًا في إسبانيا، حقق اليمين المتطرف انتصارًا تاريخيًا، بعد أن حصد حزب فوكس اليميني المتطرف 24 مقعدًا في البرلمان. وشكلت هذه النتيجة عودة قوية لليمين القومي الأسباني المُتشدد بعد غياب دام لأكثر من 40 عامًا عن المشهد السياسي، منذ وفاة الديكتاتور العسكري فرانسيسكو فرانكو في 1975.
وكان حزب فوكس هامشيًا قبل ستة أشهر فقط من تاريخ الانتخابات، لكنه سبق حضوره على الساحة السياسسية للدولة عبر إحداثه زلزالًا سياسيًا، بحصوله على حوالى 11% من الأصوات في انتخابات إقليم الأندلس، أحد أكبر أقاليم البلاد.
وعزز هذا الحضور السياسي لليمين المتطرف انفجار أزمة اللاجئين والمهاجرين المُتدفقين على الشواطئ الأوروبية، حيث انتشرت نظرية مؤامراتية تحت عنوان الاستبدال الكبير، وهي سيناريو مُتخيّل عن عملية إحلال واسعة لسكان أوروبا الأصليين، واستبدالهم بسكان مُهاجرين بأغلبية مسلمة قادمة من أفريقيا والمغرب العربي.
دوران للخلف
هذه التصريحات والمواقف السياسية الاستعلائية المعادية للشرق وأفريقيا حتى أمريكا اللاتينية، وإن بدت شاذة في القرن الحادي والعشرين، لكنها تعيد للأذهان ما كتبته ماري روجرز في منصف القرن التاسع عشر.
الكتاب الذي ترجمه إلى العربية جمال أبو غيدا بعنوان "الحياة في بيوت فلسطين" يضم مُشاهدات ماري روجرز عن فلسطين، إلى جانب وصف دقيق مع تعليقات على أوضاع المعيشة اليومية، والتداخل بين الجنسيات والديانات والمذاهب المُختلفة خصوصًا من أوروبا وأسيا داخل فلسطين، والأوضاع الطبقية وأحوال النساء والعادات والتقاليد، هذا كله في ضوء ذهنية غربية متدينة مشبّعة بالخرافات، وعنصرية أحيانًا.
كل هذا يجعل الكتاب تجربة تأريخ شخصية نتعرف من خلاله على جذور المخيال الديني والمنظور الاجتماعي لدى الإنجليين القدامى في القرن التاسع عشر، الذي لا يختلف عن مِخيال أهل اليمين المتطرف في الغرب اليوم.
أسطورة نقاء الدم
في القرن التاسع عشر، كانت روجرز تنظر لسكان الأراضي الفلسطينية من منظور استشراقي احتقاري في الكثير من مواضع الكتاب بوصفهم شرقيين، وأن الحضور الغربي في هذه الأرض مهم للعمل على تحديثها ووضعها على مسار الحضارة.
هذا الفكر مطابق تمامًا لفكر ترامب عن قذارة الآخر القادم من بلاد لا تحمل الدم الأوروبي، وكان ظاهرًا عند روجرز بداية من تجربتها داخل الحجر الصحي في ميناء حيفا أو الطرقات أو وصف المنازل وحتى الأطفال الرُضّع فكانت تستخدم مصطلحات وصفية مثل "قذر، حافي، طفل رضيع كالمومياء، زنوج يقبلوا يدي، يأكلون بأيديهم بسرعة...".
وحصرًا استخدمت وصف القذارة والهمجية المبطنة في رسم مشهد تناول الطعام للمسلمين فقط، ولم تصف كيف يأكل الرهبان الفرنسيسكان المتواجدين في نفس الغرفة وفي نفس اللحظة يأكلون أيضًا لكن تحدثت عن ثقافتهم اللغوية حيث "يتحدثون عدة لغات". ورغم اختلاف العصور، صرّحت رئيسة حزب الجبهة الوطنية بفرنسا مارين لوبن في 2015 أن المسلمين لا يمكنهم أن يكونوا بنفس مرتبة الكاثوليك.
وشهدت بولندا أواخر عام 2018 تظاهرة ضخمة تؤكد على تفكير مارين لوبن العصري ومن قبلها ماري روجرز في القرن التاسع عشر من خلال شعارات مثل "أوروبا البيضاء" و"الدم النقي".
واستخدم رئيس الولايات المتحدة ترامب نفس المنهاج، أثناء تعامله مع الأمريكيين من أصول غير أوروبية، حيث يتعمد وصفهم بالغرباء. ويتطابق هذا التفكير مع نقد ماري لحالة التأخر "العامة" للمجتمع الفلسطيني بجميع طوائفه الدينية، واحتقارها لمسلمي ويهوديّ الشرق لكونهم لا يتمتعون بنقاء العرق الأوروبي الخالص.
ضد المرأة
مؤخرًا، شن ترامب حربُا كلامية ضد نساء الكونجرس من أصول عربية وأفريقية، ويبدو أن ترامب والتيار اليميني عمومًا لديهم الكثير من الأفكار المحافظة عن المرأة. وارتكز في هجومه على أن كل مَن لا يرتبط بالحضارة الأوروبية هو غريب عن أمريكا.
وقد كان لزعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبن تقييم قائم على تمجيد المرأة المسيحية المرتبطة بالحضارة الأوروبية، وهذا مطابق لما كان لماري روجرز من تقييم للنساء عبر مقياس التحضر الغربي والديانة بالضرورة، فلا يعني لها حصول النساء على حقوقهن الكثير، ولكن قسمت النساء لمسلمات ومسيحيات وأغدقت بالمدح على الأخيرات، لكون المسلمات حسب تعبيرها "يختلفن تمام الاختلاف من حيث مستوى الرقي والتمدن، حيث يطغى عدم التمدن على أسلوبهن في البذخ والفخامة".
كففن عن التصرف كعرب
ثم عادت ماري روجرز مرة أخرى لاحتقار نساء الشرق كونهن لَسن على صلة بالحضارة الأوروبية مُسجلة؛ "تعيش النساء العربيات كافة هنا، مسيحيات ومسلمات، كالفلاحين من القرى، ويتميزن بالجهل المطبق المسيطر عليهن، كما أنهن يضعن الأوشام والمساحيق على وجوههن بطريقة همجية ومتوحشة، ويضعن على رؤسهن زينة فضية ثقيلة لدرجة لا تصلح فيها سوى لرؤوس الخيول، ولا يحافظن على نظافة بيوتهن أو أجسادهن أو أجساد أطفالهن، لست قادرة على الاحتكاك بهن أو معاشرتهن".
وقد جعلت ماري روجرز من التصرف كـ"عرب" معيارًا للتخلف، حيث عبّرت عن قدرتها على التعامل مع "القليلات اللواتي حظين بفرصة لتعلم اللغات الأوروبية، أو المتزوجات من أوروبيين أو المنحدرات من زيجات مختلطة، "وكففن عن التصرف كعرب".
خلال تزايد أعمال العنف في أوروبا، وحوادث إطلاق النار كان يتحدث شهود العيان أن المتطرفين اليمينيين كانوا يبحثون عن أصحاب البشرة السمراء، وقد كرّست ماري روجرز هذا الفكر، وإن كان أقل عنفًا، عبر حضورها كسيدة بيضاء رجعية، في تعاملها بحزم مع نساء "سودويات البشرة" وصفتهن بالزنوج، حرصها على سحب يدها بصرامةعندما يقبلنَّها، حتى لا تسمح لهن أن يطلبن منها التوسط أو العفو عنهن في أي أمر.
الوداع
رغم كل السلبيات في كتاب ماري روجرز إلا أنه يبقى صندوق دُنيِا وسجل تاريخي دسم جدًا، يُمكنا الاطلاع من خلاله على كثير من الموضوعات الاجتماعية التي كانت حاضرة في تلك الحقبة الزمنية التي سبقت الإنتداب البريطاني على فلسطين، وإدراك حدود التداخل الأوروبي الشرقي، والمخيال الديني الذي يدعم الفكر اليميني المتطرف في العصر الحاضر.