أحمد الفيشاوي- انستاجرام
فاروق الفيشاوي يُجسد إحدى شخصيات مسرحية الملك لير

فاروق الفيشاوي: الزيبق والمغامر والثائر

منشور الخميس 25 يوليو 2019

في منتصف السبعينات كان الشاب الذي أنهى دارسته للغتين التركية والفارسية يبدأ مشواره الفني بخطوات بسيطة متأنية لكن ثابتة. وفي خريف 2018، وقف الفنان على خشبة المسرح، مُمسكًا بدرع التكريم بينما يُعلن بمنتهى البساطة والهدوء التي تعكس قوة وحُبًا للحياة، إصابته بمرض السرطان.

بين اللحظتين، تلك البعيدة المليئة بأمل الشاب في مستقبل فني ناجح، وهذه القريبة المليئة بأمل الرجل في الانتصار على المرض، حقق الشاب حلمه وعرف الجمهور فاروق الفيشاوي، كفنان غني ومتنوع لم يعجز عن تأدية مختلف الأدوار في حوالي 300 عمل فني، خلال رحلة استمرت لأكثر من 40 عامًا، وانتهت برحيله في الساعات اﻷولى من اليوم الخميس عن 70 عامًا.

الحالم

لوالدين من محافظة المنوفية، ولد محمد فاروق فهيم الفيشاوي في محافظة المنيا عام 1949 حسبما قال بنفسه في لقاء تليفزيوني وليس عام 1952 كما تتناقل وسائل إعلام متعددة، وعاش فيها فترة من حياته قبل أن ينتقل للقاهرة، حيث عاش ودرس بكلية الآداب جامعة عين شمس.

ومن عين شمس بدأ الفن يُنادي فاروق، من خلال مُشاركته في مسرحيات مع فريق الجامعة من إخراج محترفين أمثال سعد أردش وكرم مطاوع وسيد راضي. وكان فاروق على درجة من الحظ جعلته يلتقي بالممثل الكبير عبد الرحيم الزرقاني، وعلى درجة من الموهبة جعلت الأخير يُبدي إعجابه الشديد به لدرجة القول بأنه "مش هينفع في حاجة غير التمثيل"، وفق ما ذكره في لقاء ببرنامج "صاحبة السعادة".

في عام 1979، وحين كان للتليفزيون أثرًا وانتشارًا كبيرًا بقنوات محدودة بعيدًا عن ازدحام فضائيات اليوم، عرف الجمهور المصري "ماجد"، فاروق الفيشاوي، الابن قاسي الطباع على "بابا عبده" أو عبد المنعم مدبولي بطل مسلسل "أبنائي الأعزاء شكرًا"، والذي رشحه للدور وأيد رأيه صلاح السعدني.

الانتشار للفيشاوي كان من هذا الدور، لكن البداية الدرامية كانت بـ"حصاد العُمر"، المُسلسل الذي كاد يخسره دوره في "أبنائي اﻷعزاء شكرًا"، بسبب خوف مُخرج العمل محمد فاضل من أن يُكرر الفيشاوي الشخصية نفسها لتقارب الشخصية في العملين، لكن وبعد عرض الدور على 9 ممثلين تخوّفوا منه، كان "ماجد" من نصيب الفيشاوي الذي لم تمض ساعات على تسلّمه السكريبت حتى كان في الاستوديو بملابس الشخصية وصفاتها.

وربما كان أداء الفيشاوي المميز لشخصية ماجد هو ما جعل فاضل يختاره في مسلسله الشهير "صيام صيام". وربما كان كذلك سببًا في انتشار اسمه.

أما البداية الفعلية فكانت قبل ذلك بسنوات، حين كان الفيشاوي لم يزل يدرس الفنون المسرحية، وتم اختياره للمشاركة في فيلم "الحساب يا مدموازيل" 1976، وحصل عنه على أجر كبير بمقاييس ذلك الوقت، 50 جنيهًا.

على مستوى شاب مُبتدي، يمكن اعتبار الفيشاوي محظوظًا، فهو من كانت بداياته أمام محمود المليجي في "حصاد العمر" ومدبولي في "أبنائي اﻷعزاء شكرًا"، وكذلك فريد شوقي الذي اقتنع بالشاب جدًا، منذ عملا سويًا في مسلسل "قضية عم أحمد" 1985، لتتوالي بعدها أعماله أمام "الملك" ومنها "فتوة الجبل" و"السطوح"،  و"الخونة".

الحظ قد يكون دافعًا في البداية، أما الاستمرارية فلا يضمنها إلا الاجتهاد الذي لم ينكره أحد قط على فاروق، وكذلك الموهبة التي بلغت معه حد اتخاذ شركة "قها" للصناعات الغذائية قرارًا بتعيينه فيها، فقط من أجل أن تخوض به مسابقات التمثيل، وقت أن كان للشركات فرق فنية.

الزيبق

"الحاوي" اسم مسلسل للفيشاوي، لكنه يُصلح أيضًا كوصف له، فهو الفنان الذي لم تحبسه وسامته في فخ أدوار "الرومانسي الجنتلمان" والتي لعبها في أعمال مختلفة على مدار مراحله العمرية، وكان منها مسلسل "غوايش" وفيلم "ألوان السما السبعة".

لكنه أدى أيضًا أدوار اختلفت بين الشر كما كان في دوره كمسؤول بجهة سيادية في "كشف المستور" أو تاجر مخدرات في "الباطنية"، وبين الصرامة التي لا تمحي عن صاحبها الإنسانية كما كان في فيلم "المشبوه" والذي لعبه بعد إقناع المخرج سمير سيف له، إذ كان متخوفًا من دوره كضابط حاد الطبّاع يُعادي نجمًا ذي جماهيرية مثل عادل إمام، لكنه خاض التجربة لتكون الثانية له أمام "الزعيم" بعد فيلمهما "غاوي مشاكل"، لتتوالى أعمالهما المشتركة وأبرزها "حنفي الأُبهة".

فاروق "الحاوي" هو أيضًا مَن لم يسمح لقدرته على أداء أدوار الشر بأن تفّوت عليه التنويع في اﻷدوار حتى المُناقضة تمامًا لما عرفه الجمهور بها، إذ ظهر له وجه كوميدي في فيلم "يا تحب يا تقب" حين برع أمام زميليه المنتصر بالله وأحمد آدم وكأنه كوميديان مثلهما بالضبط، وكذلك في مسرحية "البرنسيسة" وهي واحدة من مسرحيات قدمّها الفيشاوي على خشبة المسرح الخاص.

لكن الفنان قدّم أيضًا أعمالاً لمسرح الدولة، ومنها "وداعًا يا بكوات"و "الناس اللي في التالت"، وآخر أعماله "الملك لير" مع يحيى الفخراني.

المٌغامر

كل هذا الرصيد من التنوع هو ما دفع فاروق، في إحدى لقاءاته التليفزيونية لإبداء سعادته بأنه لم يحصر نفسه في شخصيات بعينها، وبأنه لا يمشي على خط مستقيم، بل بـ "يروح وييجي"، ليُصبح أشبه ما يكون  بـ"الزيبق"،  الشخصية التي أداها في مسلسل عن سيرة شعبية، وما يزال ذكره حاضرًا بإشادات.

إذن، أفلت "الزيبق" بنجاح من أي إطار وضع له، وتحرّك بحرية بين مختلف الأدوار، فنوّع في شخصياته بين الشر والكوميديا والرومانسية، وهذا على مستوى التمثيل.

أما على مُستوى الأدوار داخل صناعة السينما، لم يفت فاروق التنوع، فالمعروف أنه الفنان الممثل، لكنه في لحظة ما من عمره الفني قرر خوض تجربة لم يكن لها صدى واسع، لكنها أظهرت ما لديه من حب مغامرة حوّله إلى منتج في فيلم "استغاثة من العالم الآخر" الذي أنفق عليه لمجرد إعجابه بفكرته التي تتحدث عن غرائبيات تخوّف المنتجين من مدى ما ستحققه من نجاح جماهيري، ليكرر الفيشاوي التجربة الإنتاجية بعدها بعام واحد في 1986، بفيلم "مشوار عمر".

.. والثائر

المُتابع لمشوار الفيشاوي، يعتقد أنه الشخص الذي قرر تسخير حياته للفن فقط، وإلاّ لما أنتج هذا القدر من اﻷعمال المتنوعة كمًا وكيفًا. وما يُعزز هذا الرأي هو إعلانه صراحة في إحدى البرامج أنه لن يعتزل الفن أبدًا حتى ولو من باب "التوبة" كما يصفها بعض زملائه المعتزلين.

لكن حياة الفيشاوي لم تكن فنية بحتة، فهناك جوانب أخرى مُهمة في حياته ومن بينها ما يتعلق بالسياسة التي كان للفنان آرائه الواضحة فيها، فهو مَن يرى في 25 يناير "الثورة الأم واﻷولى".

الفيشاوي هو مَن عادى حُكم جماعة الإخوان المسلمين، وفي الوقت نفسه وصف مُحاكمة مبارك ونظامه بـ"غير العادلة"، ليس ﻷنه من أنصار الرئيس اﻷسبق، بل "ﻷنه لم يُتهم بأشياء هو متهم بها أمام جميع الشعب المصري"، وفقًا لتصريحاته في برنامج 100 سؤال.

فاروق الفيشاوي، هو أيضًا مَن كان عضوًا في الحملة الانتخابية الرئاسية لحمدين صباحي، وذلك عن "قناعة تامة" ببرنامجه، لكنه في الوقت نفسه أقر باستحقاق الرئيس عبد الفتاح السيسي لمنصبه ﻷنه "تم انتخابه بحب الشعب"، كما أكد أنه "لم يكن أحد يقدر على تخليص مصر من الإخوان إلا المؤسسة العسكرية".

وعلى الرغم من تأييده للسيسي، إلا أن الفيشاوي قال في تصريحات عام 2015 إنه راضٍ عن أدائه بنسبة 70% فقط، وأن انتخابه له لولاية جديدة "سيتوقف على أدائه فيما يتبقى له من فترته الرئاسية" آنذاك، معتبرًا سفر الفنانين معه بدون هدف "تطبيل".

الثورة عند الفيشاوي لم تتوقف على المفهوم السياسي فقط، فللرجل آراء اجتماعية صرّح بها دون أي خوف من اهتزاز شعبيته، من قبيل معارضته للحجاب والنقاب، إذ يراهما "ليس فقط إهانة للمرأة، بل وللرجل المسلم الذي ينظر للمرأة دائمًا من وجهة نظر واحدة هي الجنس".

آراء الفنان، سواء المجتمعية أو السياسية، بُنيت وفقًا لقناعات راسخة لديه فكان لها تأثير على اختياراته ومسارات حياته، فهو مَن كاد يرفض المشاركة في فيلم "فتاة من إسرائيل" لولا أن قرر تأدية الشخصية من منطلق "تجسيد فكرة الصهيونية"، وهو أيضًا مَن كان رافضًا لتولي الفنانين وظائف ولو متعلّقة بمجالهم، ﻷنها "تقتل فيهم الإبداع"، وهذا اﻷخير هو جلّ ما حرص عليه الفيشاوي منذ أن كان طالبًا يبحث عن فرصة وحتى يوم رحيله.