عبر أغلفة روايات نجيب محفوظ بطبعة دار "الشروق" تعرّفت إلى حلمي التوني، فنان أغلفتها، وحين تمرّست في التعامل مع الانترنت بحثت أكثر عن أعماله، ألوانه وخطوطه وتكويناته البصرية، وبورتريهاته الشهيرة، وتوقفت كثيرًا عند بورتريه "محمد رفعت" الأخضر، الذي يظهر فيه رجلاً معمماً يرتدي جبة أزهرية ويغمض عينيه في خشوع، فيما يسند خده الأيسر إلى كفه اليسرى، في وضع الإطراب الشهير.
بظلال جمعت ما بين الأسود والأخضر. حينها كانت جل علاقتي بهذا الشيخ الأخضر مقتصرة على أذانه المسجل الوحيد والذي اعتادت القناة الأولى المصرية رفعه عند صلاة المغرب، غالبًا في رمضان، أو من قرآن المغرب الذي كانت تذيعه ، أحيانًا، إذاعة البرنامج العام لمدة نصف الساعة قبل رفع الأذان.
كان صوته يذوب في صخب إعداد مائدة الإفطار، ولحظات انتظار رفع الأذان المتأخر لدقيقتين في المسجد المجاور بالمحلة الكبرى، لكن وسط ذلك الصخب، كانت الشهادة الثانية في الأذان جذابة ندية دومًا، ربما لأنها كانت تعني انتهاء الأذان القاهري ورفع الأذان في المحلة الكبرى معلنا حلول الإفطار، أو ربما لأن الأذان المجاور بالمسجد الصغير كان تطوعيًا، يرفعه أول من يصل للمسجد أو يمسك الميكروفون مهما كان صوته جافًا أو رديئًا، إذا ما قورن بمهابة أذان محمد رفعت الأجش.
أسطورة.. صوت السماء
تقول الأسطورة إن صوت محمد رفعت قادم من السماء، بل إن البعض يلقبه بـ"قيثارة السماء". كانت أسطورة لم أستطع تصديقها لفترة طويلة من مراهقتي. في تلك الفترة من بدايات الألفية، كان الراديو لا يصمت في المنزل، واعتادت "البرنامج العام" على إذاعة تلاوات بصوت محمد رفعت، مع الكثير من الثناء على صوته وحلاوته، تلك الحلاوة الشهيرة التي لم أجدها في أي من تلاواته، الحلاوة التي اعتاد الجميع التغني بها والترحم عليها، كنت أجد صوته خشنًا أجش، إذا ما استمعت لأي من تسجيلاته في بدايتها، مجرد رجل بحنجرة خشنة يقرأ القرآن كما يقرأ الجرائد، دون تفاريد أو ألعاب مقامية كالتي يملكها عبد الباسط عبد الصمد أو مصطفى إسماعيل بصوتيهما النديّين، ولم أجد تفسيرًا للاستعانة به في افتتاح الإذاعة المصرية أول ما بدأت بثها، غير أنه كان الأوفر حظًا بين أقرانه.
اصبر على ما لم تحط به خبرًا
لم أستغرق وقتاً طويلًا لإدراك أن الشيخ رفعت لم يكن محظوظًا قط، إذ فقد بصره في الثانية من عمره، وفقد والده في التاسعة من عمره، وأصيب في حنجرته -مركز قوته- قبل وفاته بنحو 5 سنوات، لكن حياته وتلاوته ارتبطت بالصبر؛ صبره على البلاء وصبر مستمعيه على تلاواته التي تميزت بتنوع مقامي وإيقاع متصاعد.
يحتاج المستمع لقدر من الصبر ليستمتع بصوت رفعت الذي يبدأ هادئًا خفيضًا كمن يقرأ بيانًا تقريريًا، ثم يتخذ صوته وضعًا متصاعدًا باكيًا، يبدأ في التلوّن وينتقل بين المقامات بسلاسة، يمكن ملاحظة أسلوبه المعتاد في تلاوته لسورة الفتح مثلًا، وبخاصة في تسجيلها لافتتاح الإذاعة المصرية في 31 مايو 1934، حين بدأ أول بث إذاعي مصري، بصوت الفنان أحمد سالم معلنا أن "هنا القاهرة" قبل أن يبدأ القارئ الشيخ محمد رفعت، بآية "إنا فتحنا لك فتحاً مبينا" من سورة "الفتح"، تلاها بأسلوبه المعتاد، البادئ رصينًا هادئًا ليتصاعد آية بعد أخرى، ويصل لمرحلة التفاريد والتنوعات المقامية في آية "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا" يتلوها بسكينة وهدوء لا مثيل لهما.
https://www.youtube.com/embed/lIwD6Bl_bNkالوقائع الغريبة لحياة محمد رفعت
ولد محمد رفعت في شهر مايو، قبل نحو شهرين من دك القوات الإنجليزية لمدينة الإسكندرية 1882، وبعد عامين فقد بصره ليلحقه والده مأمور قسم السيدة زينب، بكتاب بكتاش، ويبدأ حفظ القرآن الكريم، وهو بعمر 5 أعوام.
سيفقد والده وهو في التاسعة من عمره، وبعدها بعام سيُتم حفظ القرآن الكريم ويحصل على إجازة القراءة بقراءاته السبعة وهو بعمر الخامسة عشر، ويبدأ كسب قوت يومه من تلاوة القرآن بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب، وبعدها بنحو 3 سيصبح المسؤول ذائع الصيت عن التلاوة بمسجد "فاضل باشا"، يقصده المستمعون فقراء وأعيان لسماع تلاواته.
كريشيندو التلاوة القرآنية
تميزت تلاواته بإيقاعها المتصاعد، تلاوة أخاذة ومخادعة، تستدرج مستمعيها بخفة، وبتغيرات مربكة، تشبه الانتقال بين النسيم الهادئ والإعصار الهادر داخل تلاوة واحدة، هكذا كانت السمة العامة لتلاواته؛ كريشيندو سلس في مقامات القرآن، يمكنك تتبعه في أي من تلاواته المسجلة عبر يوتيوب.
ساعات طوال بلا تسجيل
رغم أن الإذاعة المصرية تعاقدت معه على التلاوة الحية المباشرة لمدة ساعة ونصف يوميًا لمدة 6 أيام في الأسبوع، إلا أن غالبية التلاوات المسجلة والمتاحة حاليا ليست من تسجيل الإذاعة، إذ كانت الإذاعة تعتمد على تسجيلاته الحية المباشرة التي لم تسع لحفظها على أسطوانات مسجلة، وإنما سجلها المعجبون.
كان على رأسهم زكريا باشا مهران الذي قدم نحو 40 ساعة سجلها بنفسه عبر جهازي جراموفون كان يتابعهما يوميًا منذ التاسعة وحتى الحادية عشر والربع كل مساء لتسجيل تلاوات الشيخ الضرير، الذي قضى 22 عامًا يتلو القرآن بالإذاعة قبل أن يصاب بسرطان الحنجرة ويتوقف عن إحياء ليالي الإذاعة، مكتفيًا بقراءة القرآن لجمهور مسجد فاضل باشا.
بعد إصابة حنجرته أعلن عن اكتتاب عام لجمع التبرعات بغرض علاج محمد رفعت، إلا أنه رفض مبلغ التبرعات راضيًا بما قسم له ومستمرًا بقراءة القرآن لجمهور محدود بالسيدة زينب منذ 1940 وحتى 1948 قبيل وفاته بعامين قضاهما بين المستشفى والمنزل، يقرأ القرآن بصوت واهن حتى رحل عام 1950