اختتمت القمة العربية الثلاثين التي استضافتها في مارس/ آذار الماضي تونس العاصمة، بتأكيد القادة العرب المشاركين فيها على "رفض أي إجراء يمسّ السيادة السورية على الجولان المحتل"، بينما غاب الرئيس السوري بشار الأسد بسبب مقاطعة الجامعة العربية لنظامه. وإلى جانب التأكيد على محورية القضية الفلسطينية ظهرت مطالبات بإيجاد حل سياسي للأزمة اليمنية.
من ناحيته، أكد الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز على رفض بلاده لاعتراف الولايات المتحدة بسيادة اسرائيل على هضبة الجولان بينما طالب الرئيس عبد الفتاح السيسي بحل سلمي شامل "يحصل بموجبه الشعب الفلسطيني على حقوقه في دولة مستقلة و تعود الجولان إلى سوريا".. فهل يمكن القول بأن هناك جديد؟
الجولان.. محل الجدل الدائم
لم يكن الجولان أبدًا بعيدًا عن المشهد السوري، وإن تم استعماله بأكثر من طريقة من ناحية النظام من جهة، وأيضا على مستوى كيف يراه السوريين أنفسهم. فتصرف ترامب واعترافه بسيادة اسرائيل على مرتفعات الجولان أعاد النقاش مجددًا حول وضع الأراضي المحتلة، وجدّد الاتهامات بين الأطراف السورية إذ بينما يتهم مؤيدي النظام السوري الثوار بإضعاف الدولة السورية تهزأ المعارضة بادعاءات النظام السوري بمقاومته، ذلك أن الجبهة السورية كانت دائمًا من أهدأ النقاط الحدودية المُتنازع عليها، ولم يقم النظام، بمرحليتيه بين الاسد الأب والابن، بأي تحرك تجاه كل التجاوزات الإسرئيلية، أو بأدنى رد بل سعى لاستغلال الوضع القائم ليستعمله ورقةً لتشريع وجوده دون العمل على إيجاد حل ما.
على مستوى آخر تبدو هوية الجولان نفسها محل نقاش، يخرج تعليق على صفحة سورية معارضة .."الجولان فلسطينة و لم تصبح سورية سوى بحسب السايكس بيكو" فتبدأ النقاشات وتحتد حول حقيقة التمسك السوري بالجولان، وأنه يشبه تمسك لبنان بمزارع شبعا، وليس سوى محاولة يائسة من النظام لتشريع مواقفه الداعمة للمخطط الايراني في المنطقة. فهل الجولان فلسطينية؟ ولو أن النظام السوري يستعملها كورقة لتغطية خيباته بحجة المقاومة و الممانعة هل يعني ذلك أن نصمت عن احتلال اسرائيل لها؟.
تاريخ المرتفعات القريب
بحسب دراسة صادرة عن مركز إدراك للدراسات والاستشارات 2017 فإنه عندما سيطر العثمانيون على بلاد الشام وماحولها عام 1516، اعتمدوا التقسيمات الإدارية القديمة التي كانت قائمة في العهد المملوكي حيث كانت نيابات.. الشام، حلب، طرابلس، حماة، صفد، والكرك.
لكن سرعان ما تغير التقسيم ليصبح ولايات: حلب مع تسع ألوية، دمشق شملت عشرة ألوية، وطرابلس خمسة ألوية، وكانت التقسيمات تتغير بحسب محاولات العثمانيين السيطرة على التمردات. فمثلا للسيطرة على تمرد للدروز قام السلطان مراد الثالث بإحداث إيالة صيدا عام 1660. فكانت ولاية الشام تضم إيلات بدورها تضم سناجق، وكانت هضبة الجولان تعود لسنجق حوران، المحدد شمالاً بسنجق دمشق، وغرباً بسنجق بيروت وعكا ونابلس، وجنوبا بسنجق معان.
جغرافيا الهضبة
أما من الناحية الجغرافية فتقع هضبة الجولان في جنوب غرب سوريا و هي هضبة تمتد على 1800 كم مربع، تربتها ممتزجة بالصخور البازلتية. يحدّها شمالاً جبل الحرمون، وغرباً بحيرة طبرية، ومنحدرات تفصلها عن هضبة الحولة، ويحدّها جنوبا اليرموك بينما تمتدّ السهول بشكل غير منقطع في حدودها الشرقية مع حوران.
يعتمد اقتصادها على الانتاج الزراعي فهي مشهورة بتفاحها، ومياه ينابيعها، وبخمرها المعروف عالمياً، وبزيت زيتونها، وبمراعيها التي تقدم 40% من اللحوم المستهلكة في اسرئيل.
قبل حرب الستة أيام 1967 كان تعداد سكانها يفوق المئة ألف موزعين في قرى عديدة، ويتنوعون بين السنّة والشركس والدروز كما كان هناك فلسطينيون نازحون من حرب النكبة 1948.
شهادة من الجانب الآخر
في مقال لها على موقع هاوكيس "اللسعة" تكشف عيريت جال مخرجة أفلام وثائقية اسرائيلية، عن التضليل المتعمد التي قامت به اسرائيل حول حقيقة سكان مرتفعات الجولان حيث تم تصويرها على أنها أرض خلاء مهجورة بينما الحقيقة كان يسكنها أكثر من مئة ألف نسمة، كما سكتت إسرائيل عن الأساليب التي اتبعها جيشها لتهجير السكان بعد انتهاء حرب 1967 من ترويع وإخافة و إجبار السكان السوريين السنّة على توقيع عقود تنازل، وكيف أنها وعند محاولتها إعداد تقرير ميداني تم رفضه... "الحقائق اختفت، قصتهم غُيبت، موّهت، تلاشت كأنها لم تكن."
المحزن هو أن سكان الدولة العبرية ليسوا وحدهم من يجهلون حقيقة ما حدث في الجولان لأهله، فحتى السوريون والعرب لا يعرفون الحقيقة كاملة فبحسب تقرير يعود لـ 2009 لمأمون كيوان في جريدة الحياة، فالصحافة العربية متورطة بالتأسيس للتفريق المذهبي لأهل الجولان بتسمية من بقى في الأراضي المحتلة ب "دروز الجولان"، والتكاسل عن البحث عن حقيقة ما حدث. بحسب كيوان فأهل الجولان كباقي سوريا منهم عرب من قبائل مختلفة وعشائر فلسطينية نازحة و شركس، وأيضا دروز.
تقول عيريت صاحبة كتاب "من بيروت حتى جنين".. أنها قابلت سكان المنطقة من دروز ونازحين، وحتى مستوطنين، وعثرت على شهادات عما حدث من تهجير منظم السوريين الجولانيين من سنة و شركس وفلسطينيي 48. وبجانب عملية تجريف واسعة للقرى الجولانية. لتبقى فقط أربعة قرى درزية من أصل 275 قرية، بسبب تصّور الصهاينة أن الدروز سيوالون الدولة الاسرائيلية، وهو ما لم يحدث حتى الآن حيث مازال أبناء هذه القرى يرفضون الهوية الاسرائيلية.. "كثيرون منهم اتُهموا بالتخابر، اعتقلو و سجنوا لسنوات طويلة" بحسب عيريت.
يعيش اليوم في الجولان حوالي 20 ألف مستوطن في 33 مستوطنة بينما، وبحسب كيوان، فإنه ومن بين 18500درزي في قرى الجولان المحتلة لم يقبل بالهوية الاسرائيلية سوى 677 وقت كتابة تقريره.
ذكريات شخصية
في سوريا التي نشأتُ فيها كان الجولان متحف لبطولات النظام بقيادة حافظ الأسد ورمزاً لممانعته وصدّه للعدو الرئيسي للأمة العربية من قوى إمبريالية، ورأسمالية غربية، والمتمثلة بربيبتها إسرائيل. لم يكن لنا أن نعلم أو نسمع بأكثر من ذلك. فالتقارير الإخبارية في الاعلام الرسمي والصحف الحكومية تتحدث تارةً عن زيارة وفدٍ أجنبي لأطلال مدينة القنيطرة المدمرة منذ حزيران/يونيو 1974 والتي مانع النظام السوري إعادة بناءها أو تأهليها لتبقى، بحسبه، رمزاً لوحشية اسرائيل.
لكن دون أدنى اهتمام لحال أبناء المدينة النازحين منها والحالمين بالعودة لها. فالقنيطرة والتي تقع مسؤولية تدميرها على الجيش الاسرائيلي وذلك بحسب تقرير خاص من الأمم المتحدة، غير مسموح لأبناءها بترميم بيوتهم للعودة إليها ولا حتى بترميم القبور فلا حديث عن الهوية السورية بل الهوية العربية، ولا حديث عن معاناة النازحين وتركهم لأراضيهم، بل عن صراع القوى العالمي والمؤامرات التي تحاك.
في عالم كهذا يختفي الفرد ينسحق أمام القضايا المصيرية. هذه القضايا التي يعيش أبناءها خارج حسابات الكل وخارج الزمن.
سلام الشجعان.. أي شجعان؟
دولياً لم يختلف تعامل الدولة السورية مع قضية الجولان عن تعاملها في أي قضية أخرى، فالمطالبة بالحقوق مستمرة لكن دون أدنى أثر فعلي على الأرض. وقد يكون مشهد الاحتفال بحرب تشرين في فيلم "شيء ما يحترق" لغسان شميط 1993، هو أفضل اختصار وتقديم لتعامل الدولة السورية مع قضية الجولان وابناءه النازحين.. احتفال خطابي، وزينة وأعلام وطبل يرقص عليه الشباب بحماس أغان تراثية على الحدود الدولية، بينما يحلم بطله ابو رمزي بدياره خلف الاسلاك الشائكة.
عندما قبلت سوريا أخيراً، كما كان يشيع الإعلام الرسمي، الدخول بمحادثات سلام عام 1991 في مدريد، مع الطرف المحتل لأرضها كان البطل أيضاً هو الرئيس القائد الذي بخطاباته المعدة سابقاً وبنبرته الجافة يردد التعبير المكرور "سلام الشجعان".
لكن هذه المرة سرق وزير خارجيته فاروق الشرع الأضواء قليلاً. فبغض النظر عن الأثر الفعلي للمؤتمر كان التلفزيون السوري يعيد كثيرًا بث كلمة الشرع في اليوم الثاني من المفاوضات، حيث ما زال يذكره السوريون واقفاً إلى المنصة رافعًا بيديه منشورًا صغيرًا تتوسطه صورة قائلاً .. "السيد الرئيس، كنت أود أن أركز على السلام الذي جئنا من أجله، ولكن قبل ذلك سأريكم صورة قديمة لشامير عندما كان عمره 32 عاماً... وهذه الصورة وزعت لأنه مطلوب للعدالة. هو نفسه اعترف بأنه كان إرهابيًا. هو نفسه اعترف أنه مارس الإرهاب وساهم في اغتيال وسيط الأمم المتحدة الكونت برنادونت في عام 1948 كما أذكر. هو يقتل وسطاء السلام ويتحدث عن سوريا ولبنان والإرهاب."
وبالفعل لم تكن كلاً من سوريا وإسرائيل هناك للحديث عن سلام، كانت اسرائيل تسعى لتطمين الطرف الفلسطيني من قبول المنطقة العربية بمحادثات سلام. وكانت سوريا تسعى لإعطاء صورة أقل قتامة و أكثر تسامحاً لنظامها خصوصاً مع تطور مرض الرئيس الاسد وتغيير موازين القوى و تفكك الاتحاد السوفيتي.
وفي خضم تركيز النظام السوري على "المعركة" و"الجبهة" و"التجهيز العسكري" و"الانتصار المعنوي" تم التحفظ على قصة النازحين السوريين من الجولان. نصف مليون نسمة بحسب المذكرة الشفهية التي قدمتها سوريا للجمعية العامة للأمم المتحدة. نصف مليون سوري لانعرف من وجوههم وأقدارهم سوى إحصائيات نادرة.
زواج وفراق
في تقرير الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الخامسة والعشرين حول الجولان يعتبر المجلس أن "قرار اسرائيل بفرض قوانينها وولايتها وإدارتها على الجولان السوري المحتل قرار لاغ وباطل وليس له أثر قانوني دولي"
قبل الثورة في سوريا 2011 كان سوريو الجولان يعيشون ظروف غير اعتيادية فبينما ينتظر النازحون بقليل من الأمل حلولاً سياسية تسمح لهم بالعودة لأرضهم، كان سوريو الجولان يستطيعون التحرك بحرية أكبر ودخول الأراضي السورية حيث تقدم الدولة لهم الكثير من التسهيلات، كالانتساب لجميع الكليات دون شروط المجموع، لكنهم سرعان ما كانوا يعودون لأراضيهم وقراهم ولا يستقرون في سوريا تحسباً لغلق الدولة العبرية الحدود في وجوههم واستحالة رؤيتهم مجدداً لبيوتهم وأراضيهم وأهلهم.
كما تمثل حالات الزواج بين ابناء المنطقة و الأقارب أكبر مثالٍ على العوائق التي يعانيها ابناء الجولان سواء النازحين عنه أم المقيمين فيه حيث تضطر العرائس السوريات للتخلي عن عائلاتهن، والجنسية السورية وعبور المنطقة الدولية وحيداتٍ بفساتين الزفاف للالتقاء بشريك العمر في المنطقة المحتلة.
الجولان كمهرب
حالياً وفي واقع ملتبس ونتيجة الظروف اللامعقولة التي يعيشها السوريون تشهد المنطقة نزوحًا معاكسًا، ولو أنه محدود، لمدنيين هاربين من القصف المستمر للقوات الروسية الداعمة للنظام السوري لمناطقهم التي تتمركز فيها قوات الجيش الحر أو كتائب متمردة، ويحاول المدنيون، الذين يعيشون أوضاعاً مأساوية بعد منع الاردن حديثاً دخول نازحين جدد، بدخول المنطقة الدولية بينما تمانع قوات الاحتلال تماماً بدخولهم رغم سماحها لمنظمات اسرائيلية بتقديم المساعدات العاجلة لهم.
في الواقع ورغم استبعاد توصّل الجامعة العربية واجتماع القمة الحالي لأي حل للأزمة التي خلقها تصريح ترامب إلا أن سرعة الرد العربي وإن كان يقتصر على التصريحات والمواقف إنما يعكس مخاوف المنطقة كلها حول مستقبل كل الأراضي المحتلة وحول عملية السلام وحول أسئلة أكثر جوهرية حول هوية الأرض والسكان والمنطقة ككل و مستقبلها .