بعد أربع سنوات على إعلان الحكومة الفرنسية المشاركة في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، بدأ عسكريين فرنسيين في التملل من طريقة الحكومة في إدارة المعركة.
هذا الأمر أغضب القيادة العليا في الجيش الفرنسي وأعلنت نيتها معاقبة الكولونيل، فرانسوا ريجيه ليكرييه، بسبب مقال أخير كتبه تحت عنوان"معركة هجين: نصر تكتيكي و خسارة استرتيجية؟"، والذي نشر في العدد الأخير من مجلة الدفاع الوطني، الصادرة عن هيئة دراسات الدفاع الوطني، لكنه حذف من الموقع الإلكتروني للمجلة قبل أن تعيد مواقع ومدونات فرنسية نشر نسخ منه.
كان الكولونيل ليكرييه قد أتم مهمته القصيرة لمدة ستة أشهر كقائد للقوة تاسك فورس واجرام ضمن قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الدولة الاسلامية في العراق وسوريا. وبحسب صحيفة اللوموند كان من المفترض عودته خلال أيام لفرنسا لتسلم مهام جديدة قبل أن يثير مقاله "غضب المؤسسة العسكرية وصولاً لمكتب وزيرة الدفاع".
معركة طويلة.. بلا معنى
يحلل الكولونيل في مقاله عملية "هجين" التي بدأت في سبتمبر 2018 حتى يناير 2019، بقيادة قوات الحلفاء ومساعدة القوات الديمقراطية السورية QSD (تحالف ميلشيات سورية عربية وكردية على رأسها وحدة الدفاع الشعبي YPG) ضد تنظيم داعش وكان من المفترض إعلان انتهاءها قريبا.
ينقسم المقال لقسمين رئيسيين يقوم فيهما الكولونيل قائد قوة المدفعية في العملية بالتعريف بالمواصفات الميدانية والاستراتيجية لمعركة هَجين التي وصفها أنها "تكثيف لكل أنواع القتال" فيذكر أعداد العدو وجاهزيته المحدودة كما يذكر مواضع تمركز القوات المتحالفة كالقوات العراقية، أو المحايدة كالجيش السوري، ويصف الوضع بأنه "يعود للحرب العالمية الأولى حيث يعدّ كل تقدم انتصار والخسارات البشرية هائلة للطرفين" يقصد داعش من ناحية والقوات الديموقراطية السورية من ناحية أخرى.
يبدأ الكولونيل ليكرييه مقاله دون مواربة برصد حجم التخريب والتدمير الذي طال المنشآت والبنى التحتية للمساجد والمستشفيات والجسور والشوارع قبل أن يستنتج استنتاجًا صادمًا "لقد خلفنا وراءنا بذور لولادة عدو جديد مقبل".
هجين هي بلدة صغيرة تابعة لمحافظة دير الزور السورية، قريبة من الحدود مع العراق، على الضفة اليسرى لنهر الفرات، في منتصف المسافة بين الميادين والبوكمال.
وتعد هجين آخر معقل لقوات تنظيم الدولة الاسلامية وساحة لاشتباكات عنيفة بحسب المصادر الكردية، وفي ديسمبر الماضي نشرت وكالة سانا السورية عن الأهالي تسبب طيران التحالف الدولي بارتكاب مجزرة استشهد فيها 17 مدنيًا، وقد دمر مشفى المدينة بالكامل.
التحالف لا يرغب في إنهاء القتال
هنا ينتقد ليكرييه سياسات الدول الحليفة التي جعلت من معركة كهذه، كان من الممكن حسمها في أسابيع قليلة، أن تطول وتسبب كل ذلك الأذى، فبحسبه "لا رغبة سياسية للدول الغربية لإرسال 1000 من مقاتليها المتمرسين لتستقر الأوضاع خلال عدة أسابيع وتجنب المدنيين شهورًا من الحرب"، ويستشهد ليكرييه بفيلم Eye in the Sky (إنتاج 2016)K حيث تكشف دول التحالف عن التقنيات العالية غير المحدودة وتستعملها بكثرة.
بعدها يطرح ليكرييه تساؤلات حول مدى فائدة ذلك سواء في تدمير العدو الذي بحسبه ليس بالقدر الذي تحاول إظهاره الرسومات البيانية المعتمدة على الإحصاءات، أو التأثير على حالته المعنوية؛ والتي بحسب ليكرييه لم يتم هزيمتها بل على العكس؛ كان العدو يرد بضراوة قبل أن يحوّل تكتيكه بسرعة ويعتمد أساليب أخرى "وحين بدا أنه لا يمكن تجنب الخسارة، قام العدو بالانسحاب لملاذات آمنة ليتابع المواجهة ويتمرد بعد حين، تاركًا وراءه حفنة من المقاتلين الأجانب".
وبحسب الملف الصحفي حول عملية رياح الشَمال، chammal وهو الاسم الحركي للمشاركة الفرنسية في العمل العسكري للحلف، والصادر عن وزارة الدفاع الفرنسية في ديسمبر 2018، فقد قامت قوات المدفعية الفرنسية بتسجيل 2300 عملية قصف منذ بدء مهتمها في 2016.
ورغم رفض وزيرة الدفاع الإعلان عن عدد القوات الفرنسية الفعلي في 2017، إلا أن الملف الصحفي المذكور قدر عددهم بـ 1100 جندي؛ منهم قوات جوية بعتاد 10 طيارات رافال في قواعد جوية في الأردن والامارات المتحدة، ومدربين وقوات مدفعية ب 3 مدافع في العراق، كما تتواجد قوات خاصة في سورية، وفرقاطة بحرية في المتوسط.
يجد بعض الجنرالات الفرنسيين أن عدم مشاركة قطاعات أخرى في الجيش ليست بذي فائدة وهو ما عبّر عنه ليكرييه بسؤاله الموجه للحكومة الفرنسية "لماذا تتعهد برعاية جيش إن لم تكن تنتوي دخوله في أي اشتباك؟" في إشارة لتفادي دول الحلفاء تعريض أفرادها لمخاطر وبالتالي إلتزامها بشرح ذلك أمام الرأي العام.
هذا الخوف الذي أدى لاعتمادها على ميلشيات محلية متنازلة بذلك عن حرية التحرك و التحكم باستراتيجية المعركة.
القرار فقط للأمريكيين
في نصف المقال الثاني يتحدث ليكريه عن محدودية الحرب بالوكالة وينتقد المقاربة التي تستعملها الدول الغربية في حروبها بالشرق الأوسط إذ تعنى بالتفوق التقني والاعتماد المفرط على القصف الجوي رغم قلّة مردوده الاستراتيجي و إلا "فكيف يمكن لـ 2000 مقاتل مجهزين بعتاد خفيف بالاحتفاظ بنقطة تمركز ضد قوات التحالف لمدة خمسة أشهر؟ لا تقتصر المعركة على تدمير أهداف كما يحدث في المسابقات".
إذ يعتقد أن اتباع القوات الفرنسية للنهج الأمريكي دون اعتراض هو ما أعطى المعركة هذا الشكل"بين قرار دونالد ترامب بالانسحاب من شمال شرق سوريا وحسن نية القوات الديمقراطية السورية، لم يجد (التحالف) حلًا أفضل من تكثيف القصف لإنهاء (العملية) في أقرب وقت ممكن".
فبعد إعلان دونالد ترامب المفاجئ عن انسحاب القوات الأميركية من سوريا اضطرت فرنسا للتأكيد على التزامها العسكري في سوريا إذ قالت وزيرة الشؤون الأوربية في الحكومة الفرنسية ناتالي لوازو "حاليًا نحن باقون في سوريا.. والحرب على الإرهاب لم تنته (في إشارة لهجوم ستراسبورج) لقد حدثت تطورات مهمة، لقد تقدمنا في سوريا ضمن التحالف لكن هذه المعركة مستمرة وسنستمر في قيادتها".
في النهاية خلص الكولونيل صاحب كتاب "إذا أردت السلام فاجهز للحرب" إلى صورة قاتمة للمشاركة الغربية في الأراضي السورية.. "لقد أعطينا للسكان صورة كريهة عن التحرير الغربي. نحن لم نكسب الحرب بأي شكل من الأشكال"، وهو ما يتناقض مع موقف وزارة الدفاع الفرنسية التي تعلن في ملفها الصحفي حول عملية الشمال أن "تحرير الموصل هو رمز لاستراتيجية ناجحة" إذ ساهمت 300 طلعة قصف جوي و1200 عملية قصف مدفعي بدعم القوات العراقية البرية، وتم تدمير 2300 هدف في سوريا و العراق، منذ بداية العملية شمال.
ليس رأيًا وحيدًا
كانت العاصفة قد بدأت على أراء الكولونيل بعد إشادة الخبير العسكري والجنرال السابق ميشيل جويا، بالمقال الذي وصفه بالممتاز، في مدونته المهتمة بالشأن العسكري الفرنسي، مؤيدًا نظرة ليكرييه حول إدارة العملية في سوريا والعراق ودور الجيش الفرنسي فيها، ورغم سحب المقال من الموقع الإلكتروني للمجلة إلا أن مواقع ومدونات فرنسية أعادت نشر نسخ منه.
يأتي هذا المقال في وقت تتصاعد فيه حدة التضارب في المعلومات حول الدور الفرنسي الحقيقي على الأرض. إذ أنه وفي بداية التدخل أعلن أولاند حرصه على عدم وجود قوات أرضية، والاكتفاء بالتدريب والدعم الجوي وهو الموقف الرسمي الحالي في وقت تزداد فيه الشائعات حول وجود أهم على الاراضي السورية كان أخرها ما عرضته قناة فرانس 24 عن صورة في دير الزور السورية نشرتها القوات الأمريكية في سبتمبر/ أيلول الماضي على حسابها الرسمي على تويتر قبل أن يتم حذفها ويظهر في عمق الصورة مصفحة أرافيز فرنسية.
أسباب للمنع
في رده على دوافع حذف مقال لوكرييه نشر رئيس تحرير مجلة الدفاع الوطني، الجنرال بيليسترانديه، رسالة يفنّد فيها أسباب الحذف بالقول أن كاتب المقال عارض اختيارات سلطات الدول المشارِكة في التحالف حول مسار العمليات ضد داعش. لذا فإن المجلة التي تعمل على تسليط الضوء حول مواضيع في الدفاع الوطني بتقديم مقالات لكتاب ذوي آراء مختلفة، وجدت أنها لا تود فعل ذلك حول عمليات لا تزال دائرة دون الحصول على موافقة من السلطات المسؤولة حول هذه العمليات. وأن الموافقة على نشر المقال لم تحترم هذه السياسة الداخلية وبالتالي قامت المجلة بسحبه من التداول.
فهل يخفي هذا المقال امتعاض الجيش الفرنسي من تحديد حركته بسبب الإرادة السياسية؟ هل عبّر القائد السابق لفوج المدفعية 68 في أفريقيا عن رغبة الجيش الفرنسي بتدخل أكبر كتلك التي يقودها الجيش الفرنسي في أفريقيا، مثل عملية سيرفال التي قامت بها القوات الفرنسية في مالي 2013 حيث، وفي بضعة أيام، قامت بدفع جماعة أنصار الدين وحركة التوحيد خارج المدن المسيطر عليها.
فرنسا.. تاريخ التدخلات
بدأت فرنسا تدخلها العسكري في العراق إثر المؤتمر الدولي للسلام و الأمن في العراق 15 سبتمبر/ أيلول 2014 في باريس، والذي ترأسه كلا من رئيس الجمهوريتين الفرنسية والعراقية وقتها، فرانسوا أولاند وفؤاد معصوم، وشاركت فيه معظم الدول العربية أهمها السعودية، الإمارات ومصر وقوى إقليمية وغربية كتركيا وروسيا ودولًا من الاتحاد الأوربي.
اعتمدت فرنسا في تدخلها على القرار 2170 لمجلس الأمن الدولي لتشريع دعمها للقوات العراقية وإعلان عملية الشَمال التي بموجبها تنفذ القوات الجوية الفرنسية ضربات لمخازن و نقاط تمركز قوات الدولة الاسلامية دون تدخل بري.
بعد الهجمات الارهابية في باريس نوفمبر 2015 ،(هجوم مسرح باتاكلان و تفجيرات سان دوني) والتي تبناها تنظيم الدولة الاسلامية وراح ضحيتها 150 شخصًا؛ توسعت العمليات لتشمل سوريا وتصبح فرنسا أول دولة تدخل الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على تنظيم الدولة الإسلامية.
وتعد فرنسا التي يقطنها حوالي 7 مليون مسلم منهم حوالي 18 ألف على قائمة المتطرفين، هدفًا مهمًا للتنظيمات المتطرفة الاسلامية إذ سبق وعاشت فترة من العمليات الارهابية في تسعينيات القرن الماضي أيام الحرب الأهلية في الجزائر من الجماعة الاسلامية المسلحة أهمها هجمات عام 1995، ثم انحسرت الهجمات لتعود مجددًا مع بدء الحرب الأهلية السورية وموقف فرنسا المناوئ لبقاء الأسد.
ومن غير المستغرب أن تضع داعش فرنسا على رأس أهدافها كسابقتها منظمة القاعدة في المغرب إذ يقدر عدد الفرنسيين المشاركين في قوات الدولة الاسلامية حاليًا بـ 500 فرنسي. وهو رقم مهم ويدل على عمق الأزمة الفرنسية مع المتشددين الإسلاميين.
وبحسب الخبير العسكري ميشال جويا فإن مقال الجنرال فرانسوا ريجيه ليكريه يطرح أسئلة موضوعية وحقيقية حول طريقة تعامل فرنسا مع داعش و مدى صحة "مشاركتها بكل الوسائل" ومدى اختلاف ذلك مع استراتيجتها في التعامل في أفريقيا التي سبق لكل من جويا و لوجرييه قيادة مهام قتالية فيها.