بَدَا الأمر خوفًا طفوليًا طبيعيًا، ولكن ما حدث طيلة سنواتي الماضية، وحتى يومي هذا؛ أكد لي أنه لم يكن موقفًا عابرًا. فعلى ما يبدو أنا مريضة أعاني من مرض غير مألوف وهو "فوبيا الظلام".
بالعودة إلى الوراء أتذكر جيدًا صراخي الهيستيري حين ينقطع التيار الكهربائي عن المنزل، لم يكن يُهدّئ شيء من روعي سوى ضوء كشاف كهربائي، أو شمعة أظل أراقبها وأتوسل إليها ألّا تنصهر دون أن يعود الضوء يملأ البيت، حينها فقط، ترتخي كل عضلات جسدي المشدودة المنفعلة وأعود لطبعي الهادئ.
في المرحلة الابتدائية كانِت غرفة نومنا أنا وأختي الكبيرة واحدة، ننام بجوار بعضنا البعض، نظل طوال اليوم في هدوء حتى يأتي الليل وتبدأ المشكلة الكبيرة، فهي لا تنام إلا في ظلام دامس، وأنا طبعًا لا يمكنني الخلود إلى النوم بدون ونيسي: ضوء اللمبة الأبيض. تخبرها أمي هامسة أنها ستُطفئ النور فور خلودي إلى النوم، وتطلب من أختي أن تتحمل إزعاج هذا الضوء لدقائق فقط حتى تنام أختها الصغيرة – أنا - ، تفشل الخطة دومًا فبمجرد أن يُطفأ النور أهُبّ مفزوعة صارخة حتى وإن كنت كما يُقال "في سابع نومة".
لم تتحمل أختي هذا الوضع، فاضطر أبي أن ينقلني – بمفردي – إلى غرفة أخرى وضع فيها لمبة كبيرة، وهي نفسها اللمبة التي تعمل بالنهار، وفي هذه الغرفة، وعلى هذا الضوء أنام جيدًا و بمنتهى الراحة. المشكلة كانت في الانقطاع المفاجئ للتيار الكهربائي في أي وقت. أذكر جيدًا أني كنت أصرخ بشدة لدرجة أن الجيران كانوا يستيقظون على صوتي، أظل أردد مقولات طفولية مثل أن هناك وحش سيقتلني، أو أن أحدهم يجري خلفي يريد أن يلتهمني، تتسارع دقات قلبي وأشعر باختناق كبير، يجري صوبي أبي وأمي وأخواتي محاولين إسكاتي ولكن دون جدوى. فلا شيء يُسكتني إلا النور.
فكر أبي في حلول كثيرة لهذه المشكلة وكان "الكشاف" الكهربائي حلًا معقولًا بالنسبة له، ولكني كنت آخذ الدورة نفسها، أفزع وأصرخ أولًا ثم أذهب للكشاف لأضيئه. وفي حال تعطّل أو نسيت أن أشحنه مثلًا، فلا حل. وإن كانت كمية الضوء غير كافية، أذهب في اتجاه النوافذ للبحث عن "نور ربنا"، فأنظر إلى السماء بحثًا عن نجمة مُضيئة.
لا أنسى هدية عيد ميلادي العشرين وكانت "كشّاف " كهربائي بيضاوي يعمل بالضغط عليه، "خبطة" واحدة ويُضىء، "خبطة" آخرى وينطفئ. كلما كبرت أكثر كلما تعجبت من مخاوفي هذه التي تبدو غير منطقية.
جميعنا نخاف من شيء ما
وأنت ألا ينتابك شعور بالاستغراب حين تقف بكامل جسدك مرتعدًا أمام حشرة صغيرة جدًا، تبدو أنت بالنسبة لها كائنًا عملاقا. هل تتذكر كم مرة رأيت فيها صديقك يتصبب عرقًا بعد اضطراره الوقوف أعلى مكان مرتفع. وهؤلاء الذين يشعرون بالرعب إن وُجدوا في أماكن ضيقة، ألا يثيرون دهشتك.
حين أجريت استطلاعًا سريعًا عن أبرز حالات "الفوبيا" لدى عدد من الأشخاص في أعمار متفاوتة ووظائف مختلفة، جاءت الردود مُفاجِئة، فمنهم من أكد رُعبه من الطيور بمختلف أنواعها لأنه يخاف جدًا من الريش، وآخر يرتعد من النمل، فبمجرد رؤيته نملة يشعر وكأن جيش من النمل سوف ينتشر في أنحاء جسده. وأكثر من شخص يرتعشون من رؤية الدماء سواء في الواقع أو عبر الشاشات، ويقول شخص إنه في كل مرة يحاول مقاومة خوفه من "الأسانسير" يزداد شعوره بأن ضيق مساحته سيزداد حتى يطبق على روحه. وتؤكد سيدة أنها صرخت بشكل هستيري حين ذهبت في رحلة جبلية لتكتشف يومها معاناتها من رُهاب الصخور الضخمة، وكثيرون يشمئزون ويرتعدون من الحشرات.
الخوف موجود والسبب مجهول
الغالبية لا يعرفون، أو ربما لا يتذكرون، سببًا لمخاوفهم. وعلى الرغم من أن الأفراد يدركون أن رُهابهم غير عقلاني؛ إلا أنهم لا يستطيعون السيطرة على رد فعل الخوف.. تمامًا مثلي، فأنا ظللت أتسائل طوال سنوات عمري الثلاثين، لماذا أنا فقط التي ترتعد من الظلام؟ وما الذي يُخيفني وحدي دون الملايين الذين يُصاحبون العتمة ويحبونها؟
رددت بيني وبين مسامعي "متخافيش، الضلمة مفيهاش حاجة تخوّف، هيحصلك إيه يعني، إنتي كبرتي خلاص بقى وعيب تحطي نفسك في مواقف محرجة"، وبينما أردد هذه الحروف المحفزة انقطعت الكهرباء وخرجت مني صرخة غير محسوبة.
محاولات العلاج الذاتي
خفَّت حدة مخاوفي مع تقدمي في العمر، لكنها لم تنته. عشت فترة طويلة من عمري محط سخرية بسبب هذا الخوف المرضي، وتحول رُعبي إلى مادة خام للـ"هزار السخيف"، كما أن بُكائي كان يثير ضحكات العديدين؛ "تبكي بسبب ظلام".
لكل هذا قررت أن أدّرب نفسي على ألّا أخاف، أقلل إضاءة المصباح من ضوء لافت إلى ضوء خافت، فنجحت في أن أنام في هذه الإضاءة القليلة دون خوف، وفي حال انقطع التيار الكهربائي، أُمهل نفسي ثوان معدودة لتصل يدي إلى "موبايلي" فأُضيء به، كما أني جربت كثيرًا الوقوف أمام "زرار النور" وأطفئه بنفسي، ثم أقف أمامه في ظلام دامس، ولكني أجد أنفاسي ثقيلة وصدري يضيق فأُضيئه سريعًا.
أتخيل دائمًا أن في الظلام شبح كبير ينظر لي بأعين حمراء، هذا الخيال لم ينقضِ بانقضاء طفولتي، وحتى الآن أراه واقفًا أمامي، ولكني تعلمت أن أنظر له وأخبره أني لست خائفة منه. ربما انتهت فوبيا الظلام مني، ولكن كُره الظلام وحب الأنوار لم ينته حتى الآن، ولا أزال أنام في إضاءة خافتة وأصحو من "عِزّ نومي" إن انقطع التيار الكهربائي، ولكني أفعل هذا بلا صراخ أو بكاء.
ما الفرق بين الخوف والفوبيا؟
الخوف هو واحد من أكثر المشاعر الإنسانية الأساسية تواترًا. وهو مبرمج في الجهاز العصبي ويعمل مثل الغريزة. منذ أن كُنا أطفالًا، نحن مجهزون بغرائز البقاء اللازمة للرد بخوف عندما نشعر بالخطر أو عدم الأمان. فالخوف يساعد على حمايتنا، ويجعلنا يقظين للخطر ويهيّئنا للتعامل معه. لذا فالشعور بالخوف أمر طبيعي للغاية ومفيد في بعض المواقف. ولكن في حالة تطوره إلى خوف غير عقلاني وغير مبرر؛ يتحول إلى "فوبيا".
فالفوبيا، هي الخوف غير العقلاني والمفرط من شيء ما؛ من حالة أو مكان أو كائن حي. وتعتبر نوعًا من رهاب القلق والخوف المتطرف. فمُصابو الفوبيا يتعاملون مع حياتهم كما لو أنهم يشكّلونها لإبعاد أي أمر يعتبرونه خطرًا، والواقع أن التهديد الذي يتصورونه أكبر بكثير من التهديد الحقيقي.
ولا يزال فهم الطب لكيفية حدوث الفوبيا لدى المصابين بها محدودًا. لكن هناك أشواط كبيرة قُطعت في هذا الأمر.
وأخيرًا، علينا أن نعي أن الخوف أمر طبيعي تمامًا. وقد ساعد الخوف، البشر، على البقاء في كثير من الحالات. إلا أن الخوف المرضي "الفوبيا" قد يعوق الإنسان عن حياته، فمثلا؛ من الطبيعي أن تشعر بالقلق إذا نظرت إلى الأسفل من فوق ناطحة سحاب. ولكن أن ترفض وظيفة الأحلام لأنها تقع فوق أعلى ناطحة سحاب؛ هذا يعني أن الفوبيا صارت تسيّطر على حياتك وتمنعك عنها وعن تحقيق أهدافك وأحلامك.