خلال العقود الأربعة الماضية، بات مألوفًا انضمام مدنيين إلى تنظيمات إسلامية مسلحة بسبب العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مصر، ولكن أن يتحول عسكري تأسست عقيدته القتالية على الدفاع عن الدولة، من الدفاع عنها إلى محاربة المجتمع والنظام، واستهداف زملائه السابقين، فهذا ما يثير المئات من علامات الاستفهام.
وتجددت التساؤلات ثانية مع إلقاء قوات من الجيش الليبي القبض على هشام عشماوي، الرائد السابق في الجيش المصري، والذي كان على رأس قائمة المطلوبين أمنيًا في مصر، ما أعاد إلى الأذهان قائمة من أبرز الضباط والمجندين الذين انضموا إلى جماعات إسلامية مسلحة وتورطوا في عمليات إرهابية.
ويفسر خبراء عسكريون ومختصون بعلم النفس والعلوم السياسية حالات انخراط عسكريين في تنظيمات دينية مسلحة إلى عدة أسباب، بعضها مرتبط بعوامل شخصية داخلية، وأخرى تتعلق بتقديم مغريات مالية وجنسية، بالإضافة إلى أن الجيش المصري ليس جيشًا علمانيًا يفصل التوجهات الدينية عن العمل العسكري.
الضابط السابق الذي لم يبلغ الأربعين من عمره بعد، يواجه اتهامات بالتورط في العديد من العمليات، أبرزها محاولة اغتيال وزير الداخلية الأسبق اللواء محمد إبراهيم في سبتمبر/ أيلول 2013، وهجوم الفرارة الذي راح ضحيته 21 ضابطًا ومجندًا في يوليو/ تموز 2014، واغتيال النائب العام المستشار هشام بركات في يونيو/ حزيران 2015.
على مدار العقود الأربعة الأخيرة في مواجهة الأصوليين، كانت هناك العديد من الأسماء التي نفذت عمليات إرهابية، واغتيالات سياسية، وأيضا محاولات للانقلاب بغرض إنشاء "الدولة الإسلامية"، كان أبطالها ضباطًا وجنودًا في الجيش والشرطة، منذ عهد الرئيس الأسبق أنور السادات وحتى الآن.
تنظيم الفنية العسكرية
بعد توليه رئاسة مصر وتخلصه ممن أسماهم "مراكز القوى"، منح الرئيس الأسبق أنور السادات للإسلاميين حرية الحركة والتنظيم، رغبة منه في مواجهة القوى اليسارية التي طالما عارضت سياساته. ولكنه لم يعلم أن هذا التوجه سيشكل عليه خطرًا كبيرًا على المستويين السياسي والأمني، كان بدايته محاولة القيام بانقلاب يحمل الطابع الإسلامي من داخل إحدى الكليات العسكرية، في أواسط السبعينيات.
صالح سرية قيادي فلسطيني من مؤسسي جبهة التحرير الفلسطينية، قبل أن يجنح فكريًا للإسلام السياسي، وبالتحديد الجهادي منه، ليكون الأساس لتشكيل ما عرف فيما بعد بـ "تنظيم الفنية العسكرية"، بهدف القيام بانقلاب عسكري لإقامة الدولة الإسلامية، يبدأ من داخل الكلية الفنية العسكرية بالقاهرة.
تلخصت خطة الانقلاب في السيطرة على الكلية العسكرية وعلى مستودع الأسلحة الخاص بها، ثم التوجه لمقر الاتحاد الاشتراكي في 18 أبريل/ نيسان 1974، حيث كان مقررًا أن يحضر الرئيس السادات الاجتماع المشترك للجنة المركزية ومجلس الشعب، والسيطرة عليه واعتقال الرئيس وإجباره على التخلي عن السلطة، بحسب اعترافات "سرية" أمام المحكمة كما أوردها مختار نوح في كتابه "موسوعة العنف في الحركات الإسلامية المسلحة".
لكن الأمر كان أعقد بكثير مما تصوره "سرية"، وفشل التنظيم في السيطرة على الكلية الفنية العسكرية، ولكن هذه المحاولة خلفت 17 قتيلًا و65 جريحًا، وألقت السلطات القبض عليه وعلى أفراد تنظيمه.
اتهم في القضية 92 شخصًا تراوحت أعمارهم ما بين 19 و37 عامًا، كان من بينهم 16 طالبًا بالكلية الفنية العسكرية، ونقيبين مهندسين بالقوات المسلحة، وجندي بالقوات البحرية، فيما كان أغلب المتهمين من طلاب جامعة الإسكندرية.
ضابط بالجيش يقتل السادات
ولد خالد أحمد شوقي الإسلامبولي في نوفمبر/ تشرين الثاني 1957 في مدينة ملوي بمحافظة المنيا صعيد مصر، والتحق بالكلية الحربية ليتخرج منها في عام 1978 بتقدير امتياز، واختير في سلاح المدفعية، تحديدا في اللواء 333 بمعسكر هايكستيب، والذي أصبح قائد سرية به برتبة ملازم أول.
كان لمحمد الإسلامبولي عضو الجماعة الإسلامية، تأثيرًا كبيرًا على تحول أفكار شقيقه، حتى أن الأخير استدعي إلى المخابرات الحربية في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1980، أي قبل اغتيال السادات بسنة، بسبب نشاطه الديني وارتياده بعض المساجد التي كان أعضاء بالجماعة الإسلامية يترددون عليها.
عرض الكاتب الصحفي عادل حمودة في كتاب "اغتيال رئيس" نص التحقيق مع الإسلامبولي في المخابرات الحربية، حيث سئل عن معرفته بعبد الله السماوي أحد قيادات جماعة التكفير والهجرة، وكذلك ارتياده على مسجد أنصار السنة المحمدية، والذي كان يلتقي فيه بأعضاء الجماعات الإسلامية، واكتفى المحقق بنصيحته بألا يتردد على هذا المسجد، وأن يتفرع لمستقبله العسكري.
حتى هذه النقطة لم يفكر الإسلامبولي في سلوك نهج العنف، واقتصر الأمر على إيمانه بأيديولوجية الجماعات الإسلامية، حتى جاءت اعتقالات سبتمبر 1981 الشهيرة، التي أمر فيها السادات باعتقال جميع المعارضين لاتفاقية السلام مع إسرائيل، وكان من بينهم شقيقه محمد.
يقول المحامي منتصر الزيات، عضو الجماعة الإسلامية آنذاك، في وثائقي "فراعنة مصر المعاصرون" لقناة بي بي سي، إنه بعد اختيار الإسلامبولي للمشاركة في العرض العسكري للاحتفال بالذكرى الثامنة لنصر أكتوبر، ذهب إلى محمد عبد السلام فرج، أحد منظّري الفكر الجهادي، ليخبره بعزمه على قتل السادات، وأنه يحتاج إلى من يساعده على القيام بهذه المهمة ممن لديهم خبرة عسكرية.
كان هؤلاء المنفذون هم عبد الحميد عبد العال ضابط بالدفاع الجوي، وعطا طايل حميدة، ملازم أول مهندس احتياط، وحسين عباس محمد، رقيب متطوع من قوة الدفاع الشعبي.
في تحقيقات النيابة العسكرية بعد اغتيال السادات ذكر الإسلامبولي ثلاثة أسباب دفعته للقيام بذلك؛ الأول أن القوانين التي يجرى بها الحكم في البلاد لا تتفق مع تعاليم الإسلام، والثاني أن السادات عقد صلحًا مع من أسماهم بـ"اليهود"، والثالث هو "اعتقال علماء المسلمين واضطهادهم وإهانتهم"، في إشارة لاعتقالات سبتمبر.
حكم على المنفذين الأربعة لعملية اغتيال السادات بالإضافة لمحمد عبد السلام فرج، الذي ساعد "الإسلامبولي" على تنفيذ خطة الاغتيال، عسكريًا في 6 مارس/ آذار 1982 بالإعدام رميًا بالرصاص، وأعدم الملازم أول خالد الإسلامبولي في 15 أبريل من العام نفسه.
ضباط في خندق "الإرهاب"
كشفت تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا في نوفمبر 2016، محاولة اغتيال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي داخل القاهرة، من قبل خلية مكونة من ستة ضباط وطبيب أسنان، قادها رائد شرطة سابق يدعى محمد السيد الباكوتشي، أحد أفراد الشرطة المفصولين في سياق ما عرف بأزمة الضباط الملتحين.
كذلك كانت محافظة الشرقية، على موعدٍ مع خلية مكونة من 16 شخصًا، تزعمها "حلمي. م" ضابط شرطة سابق فصل من عمله في وزارة الداخلية بعد القبض على شقيقه في واقعة اغتيال السادات. هو اليوم يبلغ من العمر 63 عامًا، وكان على اتصالٍ مع أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، وأجريت أولى محاكمات هذه الخلية في سبتمبر 2015.
في 20 أكتوبر 2017، نفذ مسلحون هجومًا راح ضحيته 16 شرطيًا في الواحات، كان قائد المجموعة التي نفذت الهجوم ضابط صاعقة سابق بالجيش يدعى عماد الدين السيد عبد الحميد، والذي اعتبر الذراع الأيمن لهشام عشماوي، ولقى حتفه خلال قصف جوي استهدف عناصر المجموعة، بحسب ما أعلنت وزارة الداخلية المصرية.
اختراق الجيوش
في تقرير "مؤشر الإرهاب العالمي 2017"، الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام البريطاني، احتلت مصر المركز الحادي عشر ضمن أكثر الدول تضررًا من الإرهاب، بمعدل 7.17 من 10، ورغم انخفاض الضحايا بنسبة 56% مقارنة بعام 2015، إلا أن التقرير رصد مقتل 293 شخصًا في عام 2016 فقط، جراء عمليات إرهابية، ما يعني أن الإرهاب يمثل خطرًا حقيقيًا على الدولة المصرية.
ورصدت الباحثة بالعلوم السياسية سمية متولي، في تحليل بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، ثلاث آليات تعتمد عليها التنظيمات الإرهابية في اختراق المؤسسات العسكرية الغربية، وهي ارسال أفراد للانضمام إلى الجيوش، معتمدة على مرونة شروط الالتحاق ببعضها، واستقطاب الجنود لتنفيذ عمليات محدودة النقاط، والاستفادة من المعلومات التي تكون بحوزتهم، وتجنيد العسكريين المتقاعدين للاستفادة من خبراتهم.
وأضاف التحليل أن استراتيجيات التنظيمات الإرهابية في اختراق الجيوش تعتمد أساسًا على مداخل علم النفس السياسي في استغلال الثغرات التي تُعاني منها احترافية المؤسسات العسكرية، ففي حالة المتقاعدين تضغط التنظيمات الإرهابية على رغبة هذه الفئة في الإحساس بالذات والقيمة، وفي حالة استقطاب الأفراد المسلمين المجندين فإن "عدم اتساق الأهداف الفردية مع المؤسسية أدت إلى خلق حالةٍ من الرفض النفسي والتخبط الفكري لدى هؤلاء المجندين، وهو ما يسهل على التنظيمات الإرهابية استقطابهم".
البعد النفسي
"الخيانة سمة من السمات الشخصية، لا علاقة لها بكون الشخص عسكري أو مدني"، هكذا علق د. فتحي الشرقاوي أستاذ علم النفس السياسي بجامعة عين شمس، على القبض على عشماوي.
ويضيف الشرقاوي أن العسكريين الذين ينخرطون في جماعات إسلامية مسلحة يتعرضون لإغراءات فكرية ومادية، ولكن الأمر يعود في الأساس لطبيعة شخصيتهم، مؤكدًا أنه لو قمنا بتحليل الأبعاد النفسية والتاريخية لشخص مثل عشماوي "سنجد عنصر الخيانة راسخًا في طفولته وشبابه وأثناء عمله بالجيش، ولكن لم توجد المحددات أو المثيرات التي تؤدي لظهور ذلك على السطح".
وشدد الشرقاوي على خطورة الجهاديين القادمين من خلفية عسكرية، لأن استقطاب هذا النوع يعتبر اختراقًا للعقل المنوط به مواجهة الإرهاب، مؤكدًا على ضرورة التأكد من العناصر التي تلتحق بالجهات الأمنية، وتطوير الفكر الأمني في الحرب على الإرهاب من خلال التركيز على البعد النفسي لأفراد الجيش والشرطة.
الخطورة الأمنية
من جهته فإن اللواء طلعت مسلم الخبير العسكري، يعتقد أن التهيئة والخطاب التعبوي الذي تقوم به القوات المسلحة قد لا تنجح مع جميع أفرادها، فيظهر أشخاص مثل عشماوي وغيرهم، تهيأت لهم ظروف خاصة نجحت في استقطابهم للجماعات المتطرفة، مضيفًا أن التجربة تقول إن عناصر مثل المال والجنس والمخدرات قد تكون عوامل قوية لتجنيد الأفراد داخل هذه التنظيمات.
وأوضح مسلم أن خطورة هذه العناصر تتمثل في تمتعهم بالتدريب القتالي الكبير والخبرة العسكرية، بالإضافة إلى معرفتهم القوية بكيفية عمل الجيش أو جهاز الشرطة من الداخل بحكم عملهم السابق، كما قد تسمح الفرصة لبعضهم بامتلاك معلومات استخباراتية مهمة.
وأضاف مسلم أن وجود عناصر سابقة من الشرطة والجيش داخل التنظيمات الإرهابية يكون له تأثير كبير في استقطاب المزيد من الأفراد المدنيين، أكثر من غيرهم من القيادات الجهادية الأخرى.
الصيد الثمين
ويرى عمار علي حسن أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن اعتناق بعض أفراد الجيش للأفكار الجهادية قد يحدث مع طلاب الكلية الحربية أثناء احتكاكهم بمراكز الاستقطاب مثل بعض المساجد الصغيرة والجمعيات الخيرية خلال الإجازات، أو لاحقًا بعد انخراطهم في العمل العسكري، أو قد يحدث لبعض الضباط السابقين الذين يتم إحالتهم للتقاعد في مبكرًا.
وأشار حسن إلى إن الجيش المصري ليس جيشًا علمانيًا يفصل التوجهات الدينية بشكل كامل عن العمل العسكري، خاصة وأن الدين يشكل جزءًا راسخًا في العقيدة القتالية المصرية، مؤكدًا أن الأمر يقف عند الأغلبية الكاسحة من أفراد الجيش عند هذا الحد، ولكن قلة منهم قد تتأثر بالأفكار المتطرفة وتتحول للفكر الجهادي.
وأكد أستاذ العلوم السياسية أن نجاح الجماعات المتطرفة في استقطاب أحد أفراد المنظومة العسكرية يعد صيدًا ثمينًا لهم، مضيفًا أن الجماعات المسلحة تعمد إلى إبراز هذه النماذج في الواجهة، كنوع من التباهي والإحساس بالتفوق المعنوي لهم، وكذلك لما تتمتع به هذه العناصر من تدريب قتالي عالٍ.
واستدرك حسن بالإشارة إلى أنه وخلال أكثر من أربعين سنة، منذ ظهور أول تنظيم جهادي في مصر له خلفية عسكرية في 1974 وحتى الآن فإن عدد من انضموا من الجيش أو الشرطة لتنظيمات إسلامية مسلحة قليل جدًا ولا يرقى لـ "الخلايا النائمة"، متابعًا أن الوضع لا يقارن بأقرانهم في الدول التي شهدت اضطرابات أمنية، مثل سوريا والصومال والعراق، حيث ساهم تفكك الجيوش النظامية في هذه البلاد إلى انضمام ضباط سابقين إلى تنظيمات مسلحة تعمل ضد الدولة.