(1)
للأقليات وقليلي الحيلة منهج ثابت هو الإبداع. في أي مكان أو زمان تواجدوا فيه كانوا قادرين على التأثير في مجتمعاتهم بشكل وافٍ، وأن يقدموا فنًا راقيًا، والأمثلة على ذلك تمتد من الكاتب التشيكي فرانز كافكا رائد الكتابة الكابوسية في أوروبا، مرورا بجورج أبيض مؤسس أول فرقة قومية للتمثيل في مصر وتونس، انتهاءً بسلامة موسى صاحب الحركة التنويرية في القرن العشرين، التي أخرجت لنا رجلا مثل نجيب محفوظ.
أكان أي واحد من هؤلاء لينتج لنا ما أنتجه لو أنه وُلد في ظروف مغايرة، بحياة رغدة عادية، كفرد من فئة الأغلبية؟
ما هو "الأكسير" الذي يحمله الأقليات دومًا في دواخلهم ويؤهلهم لرصد مجتمعاتهم وأنفس شخصياتهم وتشريح أنفسهم على الملأ بهذه الخفة؟ برغم أنهم يعيشون في بلادهم مثل جرذان، ينشأون في العتمة ويكتفون بالفتات.
ربما كلما تضاءل حجمنا، كلما رأينا الأمور من زاوية أفضل، أو قُلْ نرى أشياءً لم يرها من قبلنا أحد.
(2)
وُلد يوسف جابرييل شاهين لأسرة كاثوليكية مسيحية عاشت في مصر، وحسب ما يصوره لنا في رباعية أفلامه الذاتية، فهي أسرة بسيطة لكن مهتزة، أم متدينة مغرمة برجل غير أبيه، وأب كادح لا يدخر جهدًا في توفير المال اللازم ليسافر الابن إلى الولايات المتحدة للالتحاق بمعهد "باسادينا" ويحقق حلمه في دراسة التمثيل.
الجو الحميمي للأسرة لا يختلف عن الإطار الذي تعيش داخله الأقليات دوما، فدفء العائلة يتمثل في الأم الجالسة أمام ماكينة الخياطة والجِدة التي تخبز كعك الكريسماس والمِذود النائم بداخله الطفل يسوع ليلة الميلاد، قبل أن يزعجه "چو" الصغير ويشعل النار فيه دون قصده، فتهرع الجدة موبخة إياه صارخة "انت اللي حرقت المسيح... انت اللي حرقت المسيح!".
(3)
كأي طفل مسيحي نشأ شاهين على قصص أقرب للواقعية السحرية يحكونها للأطفال في مدارس الأحد؛ عن إله صار إنسانا، ومسيح يحول الماء إلى خمر ويقوم من قبره بعد صلبه ويودّع تلاميذه فيصعد من وسطهم إلى السماء. زد على ذلك التراث التوراتي الغني بقصص الطوفان والخروج ويوسف الذي خانه إخوته وباعوه، وهي حكايات مُلهِمة تُعتبر جزءا من العهد القديم الذي يعتقد نجيب محفوظ أنه ليس من أديب جيد لم يطّلع عليه.
كانت النتيجة أن أتى أول فيلم لشاهين، بابا أمين (1950)، عن رجل يرى أحوال أسرته بعد موته، وكان النقّاد في مصر يتساءلون عن أي مخيلة يملكها ذلك المخرج الذي يملك من العمر 24 سنة فقط كي تأتي حبكة أول فيلم له على هذه الشاكلة؟ لكنهم لم يفطنوا إلى أن المخيلة ليست وليدة الفطرة بقدر المعطيات التي تغذيها بيئة الطفولة.
لعل اللحظة الكبرى التي كشف فيها چو عن مصادره التوراتية/المسيحية عندما قدم فيلمه الشهير المهاجر (1994) والذي كان مرتبطا بقصة يوسف لدرجة تقترب من المحاكاة، هيّجت عليه الرأي العام وأدخلته وطاقم العمل قاعات المحكمة للدفاع عن عملهم الفني، في مجتمع يرفض المساس بهيئة الأنبياء وتجسيدهم.
قبل 22 سنة من المهاجر سمّى يوسف شاهين فيلمه عودة الابن الضال، وهي قصة إنجيلية بالأساس رواها يسوع لتلاميذه عن ابن طلب ميراث أبيه قبل مماته، فحزن الأب وأعطاه ما طلب، فسافر الابن لبلاد بعيدة وبذّر ميراثه كله في المواخير، ولما خلت جيوبه لم يجد ما يأكله فعمل مقابل أن يعيش في زريبة سيده ويشارك الخنازير علفها، وفي الوقت الأخير قال لنفسه "أقوم وأعود لأبي وأقول له أخطأت".
هي قصة لها طابعها الرمزي الذي اتسمت به كل حكايات يسوع طوال تبشيره بقضيته. بيد أن شاهين لم يأت على أي ذكر لصاحب القصة الأصلية في فيلمه. وفي فيلم ثالث يعود چو إلى القاموس القبطي ليصنع وثائقيًا بعنوان عيد الميرون (1967)، والميرون زيت له قدسية خاصة عند المسيحيين لدرجة أنهم يدهنون به أجساد المواليد كي يختموهم كأبناء جُدد.
(4)
يعتقد أبناء الأقليات طوال الأزمان وفي أي بلد كان، أن انكماشهم داخل الجيتو الذي يحيطون أنفسهم به هو سبيلهم الوحيد للحماية، وهو ما عبّر عنه نيتشه جيدا في كتاباته حينما شجب المسيحية واتهمها بأنها تخلق لدى الفرد حالة من الكمون والانزواء بهدف ألا يصبح الضحية مرئيا وبالتالي يتعرض للدهس مجددا.
أما فنان الأقلية فتتولد عنده منذ بواكير نضجه الذهني حالة من التوق لدائرة أوسع من التي وُلد فوجد نفسه فيها رغما عنه، وبالتالي يبدأ انسلاخه التدريجي عن معسكر طائفته ويبدأ رحلة بحثه الخاصة وتعرّفه على الحياة بقسوتها وحلاوتها خارج حدود الهيكل المقدس، بعيدا عن أي تعاليم مثالية مزيفة حاولوا حقنه بها. وطبعا يكون محركه الأول والأخير في هذه الرحلة هو البحث عن الحقيقة، التي محال أن يجدها إذا قبع في مكانه وسط أهله وتلقّف منهم بمنتهى التسليم معتقداتهم.
تعلّم شاهين في مدرسة "ڨيكتوريا كوليدچ" بالإسكندرية والمعروف عنها في ذلك التوقيت أنها كانت مدرسة أبناء النخبة، التي شكّل جزء كبير منها الأجانب. زد على ذلك أن الإسكندرية مدينة بحر متوسطية لا يفصلها عن أوروبا سوى البحر، ذلك الكيان الخادع الذي أوحى لكل سكندري نظر إليه بأنه لا يفصله عن العالمية سوى السباحة إذا كان نفسه طويلا. وچو كان نفسه طويلا.
سافر في سن مبكر إلى الولايات المتحدة تاركا ليس فقط جيتو طائفته، بل البلد بأكملها. كان بمقدوره وبمنتهى السهولة، أن يكون موظفا حكوميا من طائفة الأقلية مثل ذلك الموظف في رواية المسخ لفرانز كافكا. لكنه هاجر، فاختار بدايات مفعمة بالصدمات الثقافية، أنتجت لنا هذا المتمرد.
(5)
عندما أرادت إيليني كازانتزاكيس أن تؤلف كتابا توثيقيا عن زوجها نيكوس كازانتزاكيس الروائي اليوناني الشهير صاحب رواية الإغواء الأخير للمسيح، سمّت كتابها "المنشق"، لأنهم كما يقولون حقا لا يمكن للفنان أن يقدم شيئا له قيمة دون أن يتمرد هو شخصيا.
وشاهين مثلما تمرد على الكنيسة انشق عن مجتمعه ومفاهيمه وعن أعراف السينما نفسها. صنع فيلما يدور بأكمله داخل محطة سكك حديد مصر وأتى بفريد شوقي (فتوة الشاشة وقتها) وقدمه للجمهور في صورة مغايرة تماما أثارت حنقهم وجعلتهم يحطمون الصالة ليلة العرض الأول، ومثّل بنفسه في الفيلم ولم يختر دور الدونجوان بل المخبول الأعرج قناوي الذي ارتبط في أذهان المتفرجين بشاهين شخصيا، وارتبط في أذهان لجان التحكيم بأن شاهين أعرج في الحقيقة.
لكنه لم يكترث، ولم يتوقف عن إقحام اختياراته التي ترضيه وتعجب مزاجه، ولم يتوقف عن التمثيل حتى لو سيظهر في لقطة عابرة بفيلمه. جعل محمد منير يمثّل، وجعلنا نستمع لماجدة الرومي وهي تتساءل بنبرتها الطفولية "ليه تسافر يا إبراهيييم؟!"، ووافق على مطلب داليدا التي صرّحت له برغبتها في الظهور في واحد من أفلامه، وأجبرنا على تحمل لكنتها غير الواضحة وغير المتماشية مع شخصيتها التي تقدمها في اليوم السادس (1986)، مقابل أن نستمتع بقصة حب عجيبة تدور بين قرداتي وامرأة شقراء، بينما يتساقط أهل المدينة حولهما بوباء الكوليرا.
تمرد شاهين على ذاته نفسها وشرّحها بمنتهى الأريحية في رباعية أفلامه الذاتية. لم يخجل من التعرّي الكامل أمام جمهوره الذي عرفه بأعرج باب الحديد أو المخرج المجنون أو غير المفهوم. وبالأخص في حدوتة مصرية (1982)، إذ نصب محاكمة كاملة لكل شخصيات مشاهد طفولته وعلى رأسهم أمه. ولم يجد حرجا في اللجوء ليوسف إدريس للانكشاف أمامه ومشاركته كتابة الفيلم خاصة وأنهما اجتازا سوية تجربة عملية القلب المفتوح.
تمرد على الصورة النمطية للأم في أعيننا نحن الشرق أوسطيين في فيلم إسكندرية ليه (1979) فأظهر حقها في الميل لرجل آخر إذا شعرت بإهمال من زوجها، وعلى الحلم الأمريكي ووهم الحرية والفن حينما جعل تمثال الحرية يضحك ساخرا بنفس الفيلم، وعلى تابوه علاقات المحارم في فيلم الاختيار عن قصة نجيب محفوظ، وهو يدور حول امرأة فقدت شغفها بزوجها المهتز وتصير متيمة بشقيقه المغامر ابن البلد المجدع، وعلى علاقة الغرام التي تقع بين مسلم ويهودية، وكسر محظورات تناول المثلية الجنسية عندما أنقذ مثلي مصري عسكريًا إنجليزيًا في إسكندرية ليه واصطحبه للمنزل ليرعاه، وفي حدوتة مصرية نجد امرأة كاملة تنتهز براءة تجربة المراهق المتخبط يحيى شكري مراد.
كما تمرد على احتكار أوروبا للمعرفة والعلوم في المصير (1998). وعلى السلطة الأبوية في العصفور (1972) وعودة الابن الضال (1976). وعلى الاستعمار في جميلة بو حريد (1958)، وعلى الحكومات والديكتاتوريات بشكل عام لمّا غنّى في إسكندرية كمان وكمان (1991) اهتفوا باسم الإله؛ "بسم الكهنة بنحييك انت إله وأملنا فيك". وعلى الحروب والأنظمة، محلية وأجنبية، حينما جعل صلاح قابيل في العصفور يحرج ممثل أقوى دولة في العالم قائلا "أُمّال خرّفتم ليه في ڨيتنام؟".
الطفل الذي أضرم النيران في المزود، أحرق كل شيء قابله فيما بعد!
أذكر أحد المخرجين الشباب المستقلين المهووسين به، أنه قال لي ذات مرة؛ مشكلة شاهين الوحيدة أنه كان يريد حكي مشاكل العالم كله في كل مشهد!
(5)
يفلت ابن الطائفة من معقلها وأول ما يفعله هو البحث عن همّ جمعي يشغل المسكونة كلها وليس مجرد فئة. هاجس يشغل مدركاته وذهنه ويصلح كمادة يلجأ لها متى احتاج أن يفصّل قصة فيلم جديد. والحق أن مصر إبان سنوات شاهين لم تخل من الأحداث المتوترة بدءا من الاحتلال الإنجليزي لثورة 1952 لتحول القائد في أعين الشعب من مجرد ملك لزعيم.
يقول مصطفى الزيني في كتابه "أتاتورك وخلفاؤه" إن عبد الناصر كان يطمح أن يصير أتاتورك الجديد. وعبد الناصر عرف بالسليقة وبحكم عسكريته المحنكة أنه لا يوجد قائد بلا دعاية مبهرة مهما كانت إنجازاته واضحة، ومنْ كان أفضل من شاهين وقتها يشحذ كل مهاراته ويكرّس لفكرة القائد العربي الأوحد؟ تسلّم خامة القومية العربية من يد الزعيم وصنع منها الناصر صلاح الدين (1962).
البعض اعتبروا شاهين أفاقا لكنه من ناحية أخرى اعترف بلا مورابة بناصريته، كما أنه لم يختزل الهوية العربية في شخص بعينه حينما أخرج جميلة بو حريد مضيفا بهذا الفيلم أبعادا جديدة لمعركته. ولعل الشيء الذي يشفع له ويؤكد صدقه أنه لم يكرر ما فعله مع عبد الناصر، مع أي رئيس آخر أتى بعده، بل صدرت عنه انتقادات لاذعة بعدها لنظام مبارك.
(6)
أثقل شاهين نفسه بهموم الفنانين فكان على رأس المعتصمين بنقابة المهن السينمائية بشارع عدلي عام 1987 ووثّق تلك الأحداث في إسكندرية كمان وكمان، وأثقل نفسه بهموم الناس فنادى في كل محفل بأنه مخرج الشعب وصوته وصنع فيلم الأرض وابن النيل ووداعا بونابرت الذي هتف فيه "مصر هتفضل غالية عليا!" وختم مشواره بفيلم هي فوضى 2007 الذي شاركه إخراجه تلميذه خالد يوسف واعتبره الشباب الثوريون، خاصة المشاهد الأخيرة منه حيث اقتحام القسم وتحرير المختفيين قسريا، بروفة مسبقة لثورة الخامس والعشرين من يناير 2011.
ولم يتوقف الأمر عند ولعه بالحدوتة المصرية فاهتم بالصعيد العربي بأكمله من مشاركة في قوافل مساندة إلى إصدار بيانات معارضة، وتذكر جريدة الوسط التونسية في عددها الصادر يوم 30 يوليو/ تموز 2007 أن المخرج المصري يوسف شاهين الذي منحه مهرجان كان السينمائي جائزة اليوبيل الذهبي أصدر بيانا بعنوان "الفوضى في بيتنا" عقب المجزرة التي اقترفها الجيش الإسرائيلي في بلدة قانا اللبنانية.
وفي نفس الموضوع الصحفي صرّح شاهين بأن السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله هو شرف الإسلام نظرا للمقاومة التي يبديها لقوات العدو. وعلى جانب آخر عادى شاهين التيارات الإسلامية المتطرفة ليس فقط في مصر وإنما في الجزائر أيضا، لا من منظور فنان مسيحي وإنما إنساني، ففضح أهدافهم ومصادر تمويلهم ودينامية علاقاتهم.
(7)
لم يكن أبدا فنان الأقلية المهموم بذاته أو بدائرته، وحتى في أفلامه الذاتية استطاع خلال مراحل كتابتها أن يمثل ببطله يحيى الشخصية المصرية بكل أقنعتها. ورغم انشغاله بـ چو، نجح أن يقدم كل المصريين، فقدّم الصعلوك تارة وهو يهيم بهنومة ومرة وهو يرقص على أنغام الترومبيت أمام داليدا، وقدّم الأب السلطوي والأب الحنون، والفلاحين المُهانين والإقطاعيين. تنقل في سيناريوهاته بين أزمنة وجغرافيات متعددة ووصل شغفه لأعتاب الأندلس ونهضتها بالمسلمين وبابن رشد، وهو الشيء غير المتوقع منه إذ لم يصرخ مثلا كأي فنان مسيحي طبيعي بمسيحية إسبانيا، بل تحرك مع القضية كما أملت عليه هويته العربية.
هل يمكننا أن نعتبر ذلك تخبطا في شخصية شاهين؛ نجده يتحدث عن ازدهار إسبانيا الأندلس تحت حكم المسلمين، ويستنكر فكرة التصنيف الديني في علاقات الحب، ثم يُظهر صلاح الدين في صورة المحارب الشهم بينما كل المسيحيين الذين أتوا من الغرب ما هم إلا لصوص جشعين. أو على النقيض هل يمكن أن نعتبره تحامل بمغالاة على الطائفة التي خرج يوما من جُحرها على مركب شحنته لباسادينا، على غرار فنانين وفلاسفة كثيرين تنكروا لموروثات أهاليهم لمجرد أنها تخص أهاليهم؟ حقيقة لا نملك أن نجزم بخصوص هذين السؤالين، لكن المؤكد أن شاهين لم يهمه الانحياز لدين بعينه، بل رفض رفضا قاطعا أن يُحسب على فريق ما، وهذا سمت المنشقين.
ومثلما حمل شاهين طفولته معه طوال هذه السنوات ليجسدها في طفل حقيقي يقف خلف قضبان المحكمة بفيلم حدوتة مصرية، وقد تجاوز عمر يحيى الحقيقي خمسين سنة، فما الذي يمنعه من أن يكون قد حمل معه خفية إلى تابوته الذي وضعوا جثمانه فيه، ذلك المجسم الصغير للطفل يسوع النائم، الذي أحرق مذوده في طفولته؟