تحذير: يحتوي المقال على حرق لأحداث رواية وفيلم اسم الوردة
يوم الأحد الماضي عُثِر على جثمان رئيس دير الأنبا مقار بوادي النطرون الأنبا إبيفانيوس مُهشَّم الرأس، داخل أسوار الدير نفسه، بعد ضربة تلقاها على رأسه من الخلف، بحسب التقارير الأولية لمعاينة الجثمان. وحسب تحريات المباحث فالضحية سقط وقت الفجر أثناء توجهه من قلايته (صومعة العبادة) إلى كنيسة الدير لأداء الصلاة. وعثر عليه صدفة أحد الرهبان حينما اصطدم في نور الصبح غير المكتمل بقدم الجثة، ليكتشف أنها تخص رئيسه الذي قدموا له وجبة الغداء ورأوه على قيد الحياة قبلها بيوم واحد. وبالتالي حسب تصريحات الأجهزة الأمنية فنحن بصدد جريمة قتل.
اسم الوردة
للكاتب الإيطالي الشهير "أمبرتو إيكو" 1932-2016 صاحب "مقبرة براغ" و"العدد صفر" رواية عظيمة أخرى تعد هي أشهر ما كتب؛ وهي اسم الوردة 1980 التي تحولت لفيلم سينمائي من بطولة "شون كونري" عام 1986.
في هذه الرواية تقع جريمة قتل في دير منعزل بإيطاليا في القرن الرابع عشر. فيستدعي كبير رهبان الدير راهبًا من دير آخر يثق في قدراته، كي يقوم بالتحقيق سرًا فيما يجري داخل أسوار الدير الذي وقعت فيه الجريمة، في سبيل التوصل لهوية القاتل الذي لا يكتفي بضحية واحدة، ويتحول لقاتل متسلسل فيما بعد.
تعج الرواية، وهي عمل ضخم من حيث الصفحات، بمعلومات عن المسيحية والعقيدة وتاريخ معركة الآباء مع الفلسفة والعلوم، لدرجة أن أحد النقاد رمى أمبرتو إيكو ذات مرة بجُملة لا يمكن نسيانها، إذ قال عنه "إيكو يكتب كتبا عظيمة يؤلفها جهاز الكمبيوتر خاصته". مشيرا في تهكمه إلى سيل المعرفة التي تجعل من روايات الكاتب الإيطالي موسوعة كاملة، فتسلخها عن طابعها الأدبي.
أيضا تزخر "اسم الوردة" بأحداث ومفارقات يرفضها العقل المسيحي المتحفظ، لأننا نجد مثلا امرأة تتسلل ليلا من ثغرة في سور الدير كي تمارس البغاء مع الرهبان، مقابل أن تحصل على نصيب من منتجات حيواناتهم لتطعم إخوتها. زد على ذلك انتقادات إيكو اللاذعة للكنيسة والإكليروس وغطرسة العواجيز بجهلهم (بسبب رفض المعرفة النابعة عن أي مصدر بخلاف الكتاب المقدس) وتملّكهم مقاليد الأمور داخل الأديرة.
في نهاية الرواية نكتشف أن القاتل هو واحد من الرهبان، بل أكبرهم سنا وأكثرهم تقوى، ونجد أن دافعه الحقيقي وراء قتل إخوته، كان غيرته الدينية من أن تتلطخ عقولهم بكتب الفلسفة المؤذية، ثم يعرّفنا المؤلف على وسيلة القتل ال المقتبسة من سِير "ألف ليلة وليلة" والتي تعتمد على صبغ أطراف صفحات كتب الصلوات بمادة سامة تشبه الحبر في لونها، ومن المعروف أنه عندما يهم أحدهم بقراءة أي كتاب، يضطر للعق إصبعه كي يقلّب الصفحات بسهولة، وبذلك تذوق الضحية بنفسها السم وتمرره على ملامس لسانها دون دراية منها.
اسم الوردة في دير الأنبا مقار
أمام الجريمة انقسم الأقباط لفريقين، الفريق الأول هو الغالبية ممن يتابعون العالم عبر شاشات القنوات المسيحية ويتخيل أن العالم يقف عند حدود مشاكلهم، وهو لا يعرف أو لا يهمه شيء مما يقع مثلا للاجئين السوريين أو احتجاجات العراقيين. هذا النوع ينتفض إذا وجد مُحدّثه يلمّح في كلامه لمؤامرة داخلية، بل يؤمن أن الرجل من فرط قداسته اُختطفت روحه (رغم تأكيد الكل أنهم وجدوه جثة مطروحة في دمائها) وفي أصعب الحالات إذا اقتنعوا بأن هناك شبهة جنائية فعلا، فهُم يركنون إلى تخيل إرهابي إسلامي خلف الحادث. وسأحاول تخيل الراهب المحقق الذي استعان به أمبرتو إيكو في اسم الوردة لو كان معنا اليوم، كيف كان سيفكر:
1-الإرهابيون عادة ينفذون عمليات واسعة النطاق كي يروح ضحيتها أعداد غفيرة، لذلك يستهدفون دوما أيام الأعياد والمناسبات، ولا يفكرون مطلقا في استهداف شخص بعينه، إلا إذا كان هذا الشخص هو البابا مثلا.
2-الأديرة، وإن كانت لا تُؤمّن مثل الكنائس، لكن يصعب الولوج إليها، لأن ارتيادها يكون عادة في شكل مجموعات تذهب في رحلات عبر التنسيق قبلها مع رئاسة الدير، ومن ثَمّ، يصبح تجوّل شخص غريب داخلها بمفرده مشهدا غير منطقي بالمرة، وفقا لرؤية الراهب المحقق.
3-من السهل للتنظيمات الجهادية رصد تحركات المسيحيين في الكنائس ولحظات خروجهم منها للشوارع في الأيام الهامة، لأن هذا شيء تراه بعينك كمجرد عابر في الطريق أو عبر مشاهدة التليفزيون، أما الأديرة فالوضع بالنسبة لها يختلف تماما، لأن الحركة داخلها معتمدة على الرهبان الذين لا يعرف جدولهم الزائر المسيحي نفسه، فما بالك بإرهابي دخيل غير مسيحي، يقرر يوما أن يدخل فيجد هدفه بمنتهى البساطة يتحرك في أحد طرقات الدير، فيقتله ويخرج بسلام عائدا لثكنته.
4-إذا افترضنا إمكانية دخول قاتل إلى دير الأنبا مقار، لماذا سيذهب ليقتل راهبا بعينه، حتى لو كان هذا الراهب هو رئيس الدير نفسه؟ خاصة وأن الرهبان احتكاكهم بالقضايا الطائفية يكون شحيحا جدا، فهذا السيناريو كان ليكون مقبولا إذا وقع مع قسيس مثلا في كنيسة، وسنترجم الوضع عندها أنه تورط في حالات تنصير أو ربما يعرفه القاتل بشكل شخصي على إثر جيرة أو معرفة شخصية، تحولت لعداوة بسبب اختلاف الديانة.
أما الفريق الثاني من الأقباط الذي يمكن أن نسميه بالنخبة أو الطليعة، فهو ينقسم بدوره حول مقتل الأسقف العجوز إلى مجموعتين؛ أولاهما ذات ميل إصلاحي، ترى أن الكنيسة المصرية فقدت قامة فكرية عالية بمقتل هذا الأب، وبعضهم يتهم اليمينيين الأقباط بأنهم هُم منْ دبروا واقعة قتله. أما المجموعة الثانية وتمثل الاتجاه اليميني ويسمون أنفسهم أحيانا بــــ "حُماة الإيمان" و"أبناء أثناسيوس" و"أنصار الكنيسة الأولى" بعضهم شمت بشكل واضح في مقتل رئيس دير الأنبا مقار على صفحاتهم بفيسبوك، والبعض طلب الرحمة ذاكرا إسهامات الأسقف في المكتبة القبطية (حتى وإن لم يكن مرضيا عنها). أما رؤوس هذه المجموعات فسارت على نهج الأحزاب ولحقت بنفسها وتنصلت من أي منشورات متطرفة لأتباعها تحض على الكراهية. ولعل كل تلك الأفعال أعطت مبررا لبعض الإصلاحيين في اتهام الفريق الثاني بأنه "داعش الكنيسة".
هناك معلومات تاريخية قد لا تكون لها صلة بالموضوع، لكن راهب أمبرتو إيكو قد يتذكرها. مثلا؛ في القرن الرابع الميلادي نادى مفكر مسيحي يدعى آريوس بفكرة لاهوتية شاذة عن الفكر الأرثوذكسي، مفادها أن المسيح ليس إلها في شخصه، لأنه محال أن يتساوى الخالق بالخليقة، فاعتبر المسيح مجرد وسيط بين الله والبشرية. الفكرة التي سببت صداما كبيرا بينه وبين الكنيسة وقتها، انتهى بموت آريوس في أحد حمامات المدينة بسقوط أحشائه منه، بسبب تجديفه على الذات الإلهية حسب رواية كتب الكنيسة.
وفي خمسينيات القرن الماضي، ظهرت جماعة مسيحية عُرفت باسم "الأمة القبطية"، أرادت أن "تنقذ الكنيسة". والمدهش في القصة أنها اختارت منهج حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين، لدرجة أنهم اقتبسوا منهم شعارهم: "القرآن دستورنا والرسول زعيمنا" وحوّروه إلى: "الإنجيل شريعتنا والصليب علامتنا".
ورغم أنهم تأثروا بالإخوان؛ إلا أن هدفهم في الأصل كان إيجاد قوة مسيحية مماثلة ومناهضة في آن لقوة الإخوان المسلمين، والمطالبة بحقوق المواطنين الأقباط في المجتمع المصري. ولم يكتفوا بالشعار فقط بل اختاروا القوة أيضا مثل غرمائهم، فقاموا بأول حادث عنيف في تاريخ الكنيسة الحديث، إذ اختطفوا البابا يوساب الثاني وقتها بسبب فساده هو وخادمه المدعو "مِلك" خاصة وأنه انتشرت الرشاوي وتفشت الوساطات في المجتمع الكنسي، فحاصروا البابا وأرغموه تحت تهديد السلاح على توقيع تنازل عن كرسيه البابوي. لكن الجماعة العنيفة سرعان ما سقطت عبر تعاون الدولة مع الكنيسة، وقُبض على كل أعضاءها وزُج بهم في السجون، واختفت آثارها تماما.
جذور الخلاف والأب متى المسكين
الأب متى المسكين 1919-2006 هو باختصار المعادل المسيحي للأستاذ الجامعي نصر حامد أبو زيد. كلاهما حاول تقديم قراءة مختلفة للنصوص المقدسة، الأمر الذي جعل حياتيهما على المحك في مجتمع يعتبر مثل هذه الأمور خطوطًا حمراء.
للأب متى مؤلفات في العقيدة والتفاسير ونظريات في اللاهوت اعتبر معظمها محض هرطقة من الأصوليين المسيحيين، بينما اعتبره المتدينون المتحررون والملحدون وحتى بعض القساوسة الأرثوذكسيين، المفكر القبطي الوحيد في القرن العشرين. ومن أشهر كتبه: "الكنيسة والدولة" و"المرأة في الكنيسة". وتمثلت مشكلة المسكين الكبرى في أنه كان النِد الأكبر لرأس الأقباط وقتها؛ البابا شنودة الثالث 1923-2012. فما كان من الأخير إلا أن تعامل مع الوضع وكأنه رئيس دولة، فلجأ لكل الطرق التي تعمل على تهميش الراهب. حتى أن هناك فيلما وثائقيا عن تلك المعركة أنصح جدا بمشاهدته اسمه "البابا والراهب".
https://www.youtube.com/embed/7vGEXQ3hphIكما ساعد على عملية الإقصاء انعزال المسكين نفسه في قلايته، في حين أن البابا بحكم منصبه شخصية عامة يراها الشعب دوما ويؤمن بأن الحق المطلق في يديها، وأن أي مُختلِف معها هو هرطوقي كافر خارج على البيعة.
ووصل التشنيع والحجب إلى أنه إبان عهد البابا شنودة كانت المكتبات المسيحية تستحي من عرض كتب الأب متى المسكين، وربما أشجع مُلاكها كان أقصاه أن يحتفظ ببعض النُسخ في المخزن لطالبيها، وأذكر أني في لقاء جمعني بأحد أصحاب المكتبات المسيحية الكبرى، حكى لي الرجل كيف كان يمر عليه من وقت لآخر واحد من الكهنة، ليمرر عينيه على الأرفف ويتأكد من أنه في الجانب القويم. وكان المشهد التراجيدي فعلا يوم وفاة البابا شنودة حينما رأينا كتب المسكين مرمية في كل مكان، وكأنها وجدت منفذا لنفسها من أبواب المخازن والعطن والتراب.
أما الأب إبيفانيوس فهو كما لقبوه: "التلميذ النجيب للأب متى المسكين".
أتصور من خلال قراءتي للرواية ومحاولة استرجاع أجواءها، أن هذه هي الخطوط التي كان سيفكر فيها راهب أمبرتو إيكو، قبل أن يشرع في تحقيقاته.
اقرأ أيضًا: على خُطى متى المسكين.. من اﻷنبا مقار إلى باب السماء