في كتابه المثير للجدل "غضب ونار: البيت الأبيض من الداخل في عهد ترامب"، والصادر مطلع هذا العام، يشكك مايكل وولف في اتزان الصحة العقلية للرئيس الأمريكي، مستشهدًا في ذلك بأقوال المقربيين له من داخل البيت الأبيض، حتى قبل توليه مهام منصبه، فقد أكد رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، السيناتور بوب كروكر، على أن ترامب يفتقد الاتزان واللياقة اللازمة لممارسة مهام رئيس.
اتسعت دائرة الحديث عن مدى توازن الرئيس ترامب إبان الأزمة النووية الكورية-الأمريكية عندما رد بأن لديه زر أكبر وأقوى، على تهديد زعيم كوريا كيم جونج أون لواشنطن بأن زر إطلاق الصاروخ النووي جاهز على مكتبه في كل الأوقات. حينها رفضت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، سارة ساندرز، الأسئلة التي تشكك في الصحة العقلية لترامب، وشددت على وجوب القلق بشأن الاضطراب العقلي لنظيره الكوري.
اتهامات الاضطراب العقلي للرؤساء لا تقتصر فقط على رئيس لدولة شمولية مثل كوريا الشمالية، أو لدولة ديموقراطية مثل الولايات المتحدة الأمريكية. فما هي الصفات التي يشترك فيها رؤساء الاضطراب العقلي؟ وهل يأتي الاضطراب بعد توليهم الحكم أم أنهم يعانون منها سابقَا؟ وهل ممارسة السياسة تُحسّن من الآداء العقلي أم أنها قد تكون سببًا في الاختلال؟
مبعوث العناية الإلهية
يقول جيمس فالون، أستاذ الطب النفسي في جامعة كاليفورنيا، إن هناك بعض الصفات التي يشترك فيها الحكام الذين يُتّهمون بالاضطراب النفسي ومنها: جنون العظمة والنرجسية وحب السلطة والتكبر ومحاربة الحريات والسادية وحب الانتقام وفقدان حس التعاطف مع الآخرين وانعدام الشعور بالذنب، لكنه في المقابل يستند إلى الكاريزما وسحر الطلة ومداعبة المشاعر القومية لدى شعبه (أو حتى جزء من هذا الشعب) كي يقنعهم بنجاعة حكمه.
ولإقناعهم بعقلانية تصرفاته، أي بعكس ما يُتّهم به، يؤجج الشعور بوجود خطر قريب ومؤامرات من الخارج. ويقوي صورته لديهم بأنه حامي ثروات البلاد والقائد الشجاع. وللوصول إلى ذلك الهدف، يبسط سيطرته الكاملة على الإعلام والتعليم والحياة المدنية. ولا يألو جهدا في تشتيت شعبه عن القضايا التي تمس حياته اليومية، ليُضخّم في المقابل تهديدات لأعداء وهميين. ويُعلن بين الحين والآخر أنه يمتلك قدرات خارقة خصه بها الخالق، لإنقاذ أمته من هلاك محتم.
كل ذلك يصب أكثر لصالح امتلاكه زمام السلطات جميعها، ما يغير من تصور شعبه ليجعل منه شبه إله أو على الأقل مبعوثًا مقدسًا من عنده. ويُسخِّر في ذلك موارد الدولة لصنع ترسانات حربية أو حتى صواريخ نووية قد لا يحتاجها في أي حرب، بل لأغراض الدعاية المتلفزة المصحوبة بالأناشيد الحماسية الوطنية لإشعال النعرات القومية، ما يعوض عن شعورهم بالفقر أو الحرمان و يبرر بالنسبة لهم نقص الموارد لتحسين العلاج أو التعليم أو السكن.
ولا تتأثر الشعوب وحدها بكل هذه التدابير، بل يتفاعل معها الحاكم نفسه. بالسلطة اللامحدودة والشعور بالثقة الفائضة، يشعر الحاكم بأنه مستعد لاتخاذ قرارات خطيرة قد تلقي به وبشعبه إلى المجهول، ويتعامل مع الأفراد بانعدام إنسانية، فهم مجرد وسائل من أجل تحقيق غاياته. كل هذه التطورات تؤدي إلى ديكتاتورية حتمية.
ولكن هل انصياع أفراد الشعب لكل هذه التدابير يُعد دليلًا على اختلال الشعب نفسه وليس الحاكم؟ يقول بعض الأطباء النفسيين إن إطلاق الحكم بالاختلال العقلي للحاكم ما هو إلا محاولة لتجنب الحقيقة، وهي أن الشعب هو المضطرب، لأنه - أي الشعب- لن يستطيع إصلاح الحاكم المختل، لكنه بالطبع يمكنه إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح. فالشعور بالندم والاتهام باضطراب الحاكم لن يحل المسألة، وكل ذلك لن يعيد الزمن للوراء، ولكن عدم انتخاب الحاكم نفسه لفترات رئاسية أخرى، أو التظاهرات العريضة ضد سياساته، أو حتى الثورة على حكمه، قد تكون من الحلول الأكثر نجاحَا.
لوم الحاكم لا يقلل من مسؤولية الناخبين، و قدرته على تجييش عواطفهم بلغة شعبوية تفتقر إلى الحقائق، تتجاوز مجرد اضطرابه هو إلى اضطرابهم هم إّذ إن منطق القوة و السيطرة على العالم الذي يسوقه لهم يلقى استحسانا كبيرا في اوساطهم إن عن قناعة تامة بالحاكم او عن جهل او خوف او عن مصلحة مبيتة لدى فئات معينة من الشعب.
اضطرابات بائسة وأخرى مفيدة
ومع ذلك فالاضطراب العقلي ليس عائقا كافيا للحؤول دون الوصول إلى سدة الحكم. لأن أبراهام لينكون، على سبيل المثال، الذي كان يعاني من الاكتئاب الحاد، استطاع توحيد أمريكا وإلغاء العبودية. لكن الشعوب لن ترضى ان يتحول الاضطراب العقلي إلى مبرر كاف لممارسات تتسبب في معاناتها.
في المقابل، تقول الكاتبة السياسية، ستيفاني ماكويليامز، إنه لا توجد ديموقراطية كاملة في العالم، ولا حرية مطلقة للشعوب، ولا تناغم تام بين الحاكم وأفراد الشعب الواحد، ولا يوجد بلد خال من الفساد، ولن تصبح السياسة عادلة يوما ما. وبالتالي فإن فهمها لانعدام الكمال في عالم السياسة أدى بها إلى الاتزان العقلي، لأنه ببساطة لا يوجد كمال مطلق. وبالتالي تنخرط في الأنشطة السياسية وتجد في ذلك دواء وشفاء لاضطرابها العقلي.
في المحصلة، لا يمكننا التفريق بين اضطراب الحاكم الذي يشكّل خطرًا على شعبه وذلك الاضطراب الذي قد يكون ذو منفعة مثل اكتئاب لنكولن الحاد. لكن الأكيد أن قدرة الشعب على التمييز بين الغرائز التي يؤججها ديكتاتور، والمنفعة التي يدرّها عليهم من يحكم بعقل رشيد وحماسة وطنية، هي الأساس دائما و دوما.