يرمز التنين للدولة طبقًا للتصور الذي أرساه الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588 - 1679) عن الحكم، غير أنه أتبع تشبيه التنين بصفة "المقيّد"، وهذا للإشارة إلى أن على الدولة تقنين عنفها تجاه الأفراد والجماعات، وحفظ الأمن والحريات بتناغم.
يصيب مصر عدد من الحملات السياسية الدعائية لصالح مؤسسات الحكم فيها، على اختلاف درجات تأثير ونفوذ هذه المؤسسات، مع انتهاج شخصنة طريقة الحكم والتفكير داخل المجتمع. نتج عن هذا إقصاء لأفكار وشخصيات باعتبارها المتسببة في معاناة المجتمع، واختلفت درجات الإقصاء من الاغتيال المعنوي إلى العنف المفرط الذي يصل للسجن.
لكن يمكن لحالة السخرية غير المباشرة عبر انتشار أفكار لكوميك حول الشرطة المدرسية، بسيط الفكرة والتصميم يخلط أدوار مجموعة من الأطفال بأفعال سياسية وعسكرية، إخبارنا ما لا نستطيع فهمه عن الفئة الحاكمة، والمؤسسات الداعمة لها.
هنا علينا تفكيك الخلفية الفكرية وراء هذه السخرية لربما نكتشف فشل سلوك دولة/التنين، ونجد أيضًا أن العمليات الدعائية ذات الطابع "البروباجاندي"، فقير المعلومات، والمشحون بالعواطف، تفرغ المصطلحات من محتواها الحقيقي، وتتركها فريسة للسخرية، وفي تلك الحالة، تحمل الدعابة في باطنها الكثير من المعارضة والأفكار حول هذا التنين المنفلت.
الصورة تحمل الكثير
إن نظرنا للسخرية المتمثلة في "الكوميك" من زاوية آخرى، بعيدًا عن كونها صورة للمعارضة السلمية، سنجد أنها تمثل "كوبري" من أجل تحقيق التواصل الإجتماعي، والتفاعل بين أفراده وجماعاته، للحد من فيض الفكر الواحد للدولة، الذي يريد أن يطغى بأي شكل على أي فكر مختلف عنه.
يعمل الكوميك لتجميع أصحاب الأفكار المختلفة لنظام الحكم بشكل بسيط بعيدًا عن التعقيدات الأيدولوجية والحزبية، ويلغي الرسميات التي تنتجها منظومة طبقية وتعليمية، فيثير اهتمام المواطن البسيط ويبدد مخاوفه عن طريق إشراكه في منظومة ساخرة، تتداول صورًا معدلة على برنامج فوتوشوب.
هذا التداول البسيط يعد بمثابة جسرًا لنقل معلومات وآراء وأفكار لا يمكن حجبها، كونها متنوعة ومختلفة، أو بمصطلح فلسفي فإنها تتميز "بالسيولة" التي تكتسبها عبر وسائل التواصل الإجتماعي. فيرى الفيلسوف الدنماركي، سورين كيركجور*، (1813 - 1855) أن السخرية تمثل "سرًا دفينًا" يتم تناقله ويستمد خلوده من نفيه مرة بعد أخرى.. وأن معنى السخرية القريب للأنف ليس أبدًا هو المقصود فللسخرية دائمًا معنى آخرًا خفيًا.
من هنا يمكننا اسقاط هذا التصور الجدلي- فالجدل لدى هيجل يقوم بذات الوظيفة التي تنجزها السخرية لدى سقراط، على سخرية "الكوميك"، مما يكسبه سرعة تدفق وإنتشار وتجدد تعمل على تتطهير جماعي للإنفعالات السلبية المتراكمة بفعل الأحداث السياسية والإقتصادية السيئة.
وهذا نراه تعزيز لعملية التماسك الإجتماعي والفكري على الأقل لدى المعارضين لسياسات نظام ما أو فئة حاكمة، وإعادة إحياء مستمرة لفكرة المعارضة وإن كانت في أبسط أشكالها.
قف.. منطقة شرطة مدرسية!
مؤكد أن الحرب على الأرهاب أمر غاية في الأهمية، ويمثل تكلفة غالية للغاية من الدم المصري، لكن تنين الدولة لم ينجح في تحقيق الأمن ومساحة الحرية في نفس الوقت، لذلك حدث خلل في مفاهيم مثل "الحرب، الإرهاب، التضحية.."، في ظل سوء أحوال المواطن المعيشية، وأخطاء توصف، دائمًا، بالفردية من جهاز أمني، وهذا ولد فكر دائم من التهكم والسخرية من أي فعل وإن كان نبيلًا.
منذ أيام اعتبر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إهانة الجيش والشرطة خيانة عظمى، وبالتأكيد إهانة من يبذل روحه فداء لأمن الآخرين خيانة عظمى، ولكن مفهوم الإهانة واسع للغاية. فماذا عن النقد؟ أو محاولات مساعدة هذه الأجهزة فكريًا، كالعمل على تجديد الخطاب الديني أو توسيع مجال الحريات الذي يضمن حياة بها حد أقل من التطرف والعنف؟.
الرد الوحيد المتاح بعد هذا التصريح مباشرة جاء ساخرًا عبر مئات "الكوميكات" ذات الطرق المختلفة شكلًا ولكن متفقة حول فكرة "الشرطة المدرسية"، وهم مجموعة من الأطفال تعمل على تنظيم الطلبة الآخرين أثناء اليوم الدراسي، ولكن الكوميك أسقط عليهم كل مساوئ وقصور الأجهزة الأمنية من رشاوي أو فساد ، أو عنف واستغلال نفوذ، وهو أمر لا يمكن اعتباره صدفة أو تصرف فردي، ولكنه تعبير عن غضب من عدم الحصول على معاملة أفضل تتمثل في إرساء قواعد القانون على الجميع، وهذه الفكرة تشغل ذهن الكثيرين.
وكما سنلاحظ من الصور قدرتها الفائقة على قراءة وإعادة حتى السرديات القديمة والتي تعد بطولية وأسطورية لإعادة تقيمها والنظر فيها ونقد بساطتها وهشاشة مضمونها.
وأخيرًا يشير توماس هوبز في كتابه "لواثان - التنين" لمفهوم المرح، الناتج عن توقعات يمكن إدراكها حسيًا وأطلق عليها "لذات العقل"، ويمكن للاستعانة بهذا الرأي الذي يفسر الضحك بمبدأ القوى فكما أقام هوبز منظور الدولة يشيد أيضًا مفهوم الضحك حول مدى ثقة المتلقي "المحكوم" في كلام "الحاكم"، ويتمثل في طريقة تكوين الرد، فإن لم يكن يثق المتلقي في الكلام نجد الرد يتمثل في سخرية وتهكم كإشارة للمتحدث للتوقف، وإن حدث العكس، يكون شعورًا من العظمة لا السخرية هو الرد.
سبق وأن تم ملاحقة العديد من القائمين على صفحات الكوميك في مصر بشكل أمني أو حتى أخلاقي من الأسر، بوصف سخريتها إهانة للنظام ولا تمتلك خطوط حمراء سياسية أو اجتماعية أو حتى دينية، ولكن مع مرور الوقت يثبت للجميع تشعب ثقافة "الكوميك" وكيف تعيد إنتاج نفسها وأوجها المتعددة والتي صارت تمثل منفذ للنقد ومعبر لنقل الافكار، ووسيلة فعالة لإثارة الذهن من أجل التمرد على الافكار القمعية للدولة وتتحدى البطريركية المتعلقة بها داخل نطاق الأسرة والمؤسسات الدينية والمجتمع.
مصادر إضافية
الفكاهة والضحك - لدكتور شاكر عبد الحميد