أين ذهبت أشجار المريوطية؟
4 آلاف شجرة وأكثر من ألفي نخلة زرعتها محافظة الجيزة في محيط المتحف المصري الكبير قبيل افتتاحه وجدتْ نفسها فجأةً في تربة جديدة، وأجواء غريبة لم تعتدها. فلم تقو الأشجار النحيلة على مقاومة الهواء والأتربة، ولم ينجُ النخل الذابل المصطف على طول شارعي اللبيني والمريوطية اللذين يبعدان عن المتحف مسافة تتراوح بين 15 لـ20 كيلومترًا.
صارت أرصفة الشارعين "شواهدَ" نخلٍ يقف مترنحًا لا يحمل لونًا أخضرَ، ولا يستر من شمس. أتأملُ ما سقط منه فعلًا، وما يوشك منه على السقوط في طريقي. كما لا تُوفر الأشجار الجديدة ظلًا كسابقاتها من الأشجار الضخمة ذات الظل الوريف التي اجتثَّت من أرض المنطقة المحيطة بالمتحف، ولا تزال بقايا جذوعها ثابتةً على الأرصفة شاهدةً على مذابح الشجر الذي منح المنطقة ميزتها يومًا ما.
على طول مشاويري اليومية مع طفليَّ، من وإلى المدرسة صباحًا والتمارين عصرًا، تحولتْ تجربة السير في المريوطية على مدار أيام الصيف إلى عذاب مقيم بالطريق الذي يمتد عادة لأكثر من كيلومترين. تطالعني الجذوع المتبقية في الأرض بيأسٍ بعدما قُطعت الفروع والأجزاء العليا من الأشجار وبقيت قواعدها فخاخًا للبشر والسيارات، يرتطم بها المارة، أو يرمقونها تحت الشمس الحارقة بحسرة على ظل مفقود وأنفاس ثقيلة عامرة بالعوادم السوداء.
أين ذهبت الأشجار؟
تقطن الصيدلانية هدير غنيم المريوطية منذ أكثر من 20 عامًا. تتذكر المنطقة التي لم تحتوِ على كل هذا العدد من الأبراج الشاهقة. كان منزلها القريب من ترعة المريوطية يطل على عدد من الفيلات بما تحويه من أشجار كثيفة.
لكنَّ الصورة تبدلتْ بشكلٍ كاملٍ على مدى 20 عامًا، "الشارع كان أضيق لكن أقل ازدحامًا، ولم تكن هناك تكاتك"؛ تتحدث هدير لـ المنصة عن المريوطية القديمة بما تمتاز ه من الهدوء الشديد والشجر والزرع الكثيف؛ "الجو كان صافي حتى أني كنت أشم رائحة الندى، وهذا يشعرني بأنني أعيش في مكان مريح نفسيًّا".
مع الوقت، هُدمت الفيلل المجاورة، وارتفعت الأبراج، وازدحمت الطرقات. تحولت الشوارع المحيطة إلى مناطق بها مظاهر عشوائية؛ سيارات تسير بشكل عكسي، "انمحت قرية فلفلة السياحية العامرة بالمشاهد الطبيعية، التي كان فيها حفلات أيام الجمعة والسبت، وبقت جراج، واختفى مطعم أندريا الشهير، واختفى الشجر، الوضع بقى مأساوي لم تعد المريوطية التي كنت أعرفها"، تقول الزوجة والأم التي تبلغ من العمر 34 سنة.
تخطط هدير لنقل محل سكنها في أقرب فرصة إلى مكان أكثر هدوءًا، بعكس محمد عوض محمد عبد الله السيسي، الذي يتمسك بالبقاء في المنطقة رغم ما دار عليها من تغّيرات تزعجه.
يحرس عم محمد البالغ من العمر 62 عامًا قطعةَ أرضٍ تحمل لافتةً باسم مالكها لا تزال تحتفظ بصورة من الزمن الغابر للمنطقة؛ غرفة صغيرة، يحيطها شجر لم يقطع، يسكن جذوعه العامرة دجاج، ويمكث أسفله بط وأوز وأرانب، إلى جوار غية حمام صغيرة، ما إن ينفتح بابها ويهمس بصوت أقرب للهديل "حمام حمام" حتى تستجيب وتخرج سريعًا لتحيط به.
"ترعة المريوطية اتقفلت. كان على الناحيتين شجر، وتحت الدائري مشاتل ونجيلة، كل ده مبقاش موجود"، يتذكر عم محمد المريوطية قديمًا ولا ينسى كيف تحولت الترعة مع الوقت إلى مقلب قمامة، ومصيدة للبشر، "ناس ياما وقعت وماتت في ترعة المريوطية، إحنا وقع من عندنا اتنين ابن اخويا وواحد من بلدنا، وكتير غيرهم كلهم ماتوا".
يشعر الأب الذي زوج أبناءه الستة بالخسارة تجاه شيء واحد؛ النخل المطل على الترعة الذي قُطع في سبيل توسيع الطريق وتبطين أجزاء من المجرى المائي "كان حاجة تانية، كان في تلات نخلات هنا، بيرموا بلح إنما إيه، لو كان الكيلو بيتباع بـ20 جنيه بره، كان الكيلو بتاعها ييجي بـ50 جنيه البلح الأصفر اللي على أبوه، كانوا قدامي على ناصية الشارع، واتقطعوا طبعًا عشان يرصفوا الطريق ويوسعوه، أصل الطريق كان ضيق أوي وبتحصل حوادث كتير".
يحتمي عم محمد بظل شجراته ويفضلها على المبيت عند أي من أبنائه "مبحبش أقعد في شقق" فهو جاء من الفيوم عام 2006 ومكث في قطعة الأرض الصغيرة ليجمد زمن المريوطية الغابر داخلها.
تاريخ أخضر مجيد
المريوطية كانت أول ما خطر على بال الروائية منصورة عز الدين حين شرعت في كتابة روايتها بساتين البصرة المنشورة في مارس/آذار 2020، حيث استرجعت المنطقة الخضراء الراسخة في ذاكرتها.
"وجدتني في حاجة إلى مكان محاط بالبساتين والأشجار. كانت المريوطية أول ما خطر على بالي. فكتبت عن إطلالة بستان المانجو وأشجار البومباكس كأنما أراها رأي العين. كروائية تخزن ذاكرتي ما أمر به من أحداث وما أراه من مشاهد وتستعيده حين الحاجة إليه وقت الكتابة، والتعامل معه عبر التركيب ومزجه بالخيال والخروج منه بخلق جديد. وهكذا"، تقول منصورة لـ المنصة.
المنطقة التي حفلت بها "بساتين البصرة" لم تزرها كاتبة الرواية من وقت قريب ولم تر ما آلت إليه وربما لم تقارن بين الصورة الملتقطة بالأقمار الاصطناعية في عام 1972 وأخرى عبر جوجل إيرث هذا العام ويُظهران التحول الهائل من اللون الأخضر الذي كان يغطي المكان إلى اللون الرمادي الباهت؛ "علاقتي بالمريوطية تنتمي للذاكرة أكثر من انتمائها للواقع، إذ لم أذهب هناك منذ قرابة العقدين، ولست واثقة إن حدث وزرتها حاليًا من شبهها بصورتها في مخيلتي".
تشير منصورة إلى أن النباتات والأشجار بالنسبة لها من صميم شخصية الأماكن، والمتنزهات والحدائق العامة وأشجار الشوارع تحتل مكانة بارزة في تخطيط المدن الحديثة، "عندما زرت برلين لأول مرة في 2004، لفت نظري كثرة الأشجار والحدائق فيها لدرجة أن بعض حدائقها تقترب من كونها غابة".
وتستشهد بمدينة شنغهاي عام 2018 وفخر سكانها باحتواء مدينتهم على أكبر كم من الأشجار، وحديثهم عن كيف كان التشجير من أهم مراحل تطوير المدينة، وكيف اختاروا أشجارًا وفيرة الظلال مثل الدلب، "أظننا نحتاج إلى تبني هذه النظرة لأنها ليست رفاهية، بل في صميم جودة العيش وتقليل التلوث".
وفقدت مصر نحو 18.5 كيلو متر مربع من الغطاء الشجري في المناطق الحضرية والمدن حسب منصة GFW وهو رقم يبدو ضئيلًا لكنه ليس كذلك، إذ يعتمد الرصد على الأشجار التي يزيد طولها عن خمسة أمتار، وهو ما يعني أن الرقم لم يشمل كل تلك الأشجار الصغيرة، والمشاتل المزدهرة التي اعتادتها عيني على جانبي ترعة المريوطية قبل أن يجري تبطينها، فلم يعد هناك شجر ولا مشاتل واختفت الترعة التاريخية أسفل مواقف خراسانية حديثة، تقبض صدري بلونها الرمادي الثقيل.
روح مفقودة ومعاناة صامتة
على طريق المريوطية ناحية فيصل، يحتضر ما يتبقى من أشجار حاولتْ كثيرًا التمسكَ بالحياة، وهو ما كانت درية محمد شاهدةً عليه، إذ عايشت كافة مراحل التغيير التي أصابت المنطقة وأشجارها على مدار 35 عامًا.
من على أبواب بيتها العتيق، تتحدث درية لـ المنصة عما آل إليه المنزل الذي كانت حديقته يومًا بها عامرة بالأشجار المعمرة ونباتات الزينة الجميلة، ولم يتبق منها سوى القليل.
أصبح المنزل في مواجهة كوبري المريوطية من جهة، وأغلقت واجهته بسبب أعمال المترو في شارع الهرم من جهة أخرى، كما تكفل الأشقياء بتكسير زجاج المبنى الجميل فصار أقرب إلى خرابة، بلا أسوار، "شقتي هنا إيجار قديم، ملحقة بفيلا مهجورة، سكناها قبل 35 عامًا، كانت جنة، الأشجار والزرع في كل مكان"، تقول درية.
وتروي كيف اختفى الشجر شيئًا فشيئًا حتى كاد يُبتلع نهائيًا "ضمن أعمال التطوير والتوسعة قُطعت الكثير من الأشجار، بعضها كان عمره أكثر من 100 عام، وآخر حوالي 70 عامًا، لم يتبق سوى بضع أشجار على الناحية الأخرى شاخ بعضها والبعض الآخر يكاد يموت قبالة المقاهي التي توقد الفحم أسفله وتحوله إلى جزء من متعلقاتها".
وفق تقديرات دولية، فإن مصر فقدت ما بين 2001 و2024 نحو 4.3 آلاف فدان من الغطاء الشجري، 84% منه بسبب "إزالة متعمدة"، وهو ما قابلته زيادةٌ في الانبعاثات الناتجة بنحو 560 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون.
معاناة صامتة، وحسرة مكتومة بالقلب تكتنفني حين يسألني صغيراي خلال جولاتنا اليومية أين ذهب الشجر؟ لا أدري كيف يمكن أن أشرح لهما أن قيمة صادرات مصر من فئة "الخشب ومصنوعاته وقطران الخشب" قفزت من 42 مليون دولار عام 2023 إلى52.7 مليون في 2024 مقارنة بـ10 و20 مليون دولار سنويًا بين عامي 2002 و2006، بينما قفزت صادرات الفحم النباتي من 6.94 مليون دولار عام 2022 إلى 11.6 مليون دولار عام 2023، حسب بيانات COMTRADE.





