
توسعة أبو قير.. الأشجار فداء للسيارات
شعرتُ بالانقباض الشديد خلال تمشيتي المعتادة في شارع أبو قير بالإسكندرية في المنطقة من سيدي جابر حتى رشدي، فالطريق الذي يمتد من باب شرقي، وسط المدينة، حتى المندرة بموازة طريق الكورنيش ويمثل محورًا رئيسيًا من محاور المدينة طالته مؤخرًا يد التطوير.
لم يعد من السهل على السكندريين الذين اعتاوا التمشية في الشارع التنقلُ بين المحلات والمعارض والمولات التي تطل من المباني التي يعود كثير منها للعصر الملكي، حيث تغيرت كثيرٌ من ملامح الطريق المظلل بالشجر؛ اختفى اللون الأخضر وتقلصت مساحة الرصيف، وباتت الحجارة الناتجة عن أعمال التكسير وما تبقى من الأشجار المقطوعة تعوق السير عليه.
في المقابل اتسع بحر الطريق بما بات يحول دون القدرة على قطعه للانتقال إلى الجهة الأخرى.
قتل الأشجار
قضت توسعة الشارع على الأشجار الكبيرة الضخمة الموزعة على مساحات متساوية على الرصيف، التي شكلت جزءًا من هويته وتراثه. وبخلاف قيمتها وأهميتها البيئية والجمالية فإنها كانت تمثل حاجزًا بين المشاة والعقارات من جهة والسيارات من جهة أخرى.
مؤخرًا أثار قطع الأشجار جدلًا وانتشرت صور لأعداد كبيرة منها مقطوعة ومتروكة على الأرض، ما دفع محافظة الإسكندرية إلى إصدار عدة بيانات توضيحية متتالية مفادها أنه "تم نقل وقلع الأشجار بطرق خاصة تشمل القلع والنقل بالمجموع الجذري بالكامل، ونقلها إلى مشتل الإدارة المركزية للحدائق بالمحافظة لإجراء المعاملات الفنية اللازمة عليها، بما يضمن الحفاظ عليها وإعادة زراعتها في مواقع مناسبة لاحقًا".
لكن الصور كانت أصدق أنباءً من بيانات المحافظة، حيث تُظهر أن الأشجار لم تُقتلع وإنما قُطعت. وباستشارة الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الزراعة بجامعة القاهرة وخبير الشؤون الزراعية والأمن الغذائي، أكد أن هذه الأشجار مقطوعة بالمنشار ، وأنها بهذا الشكل "لم تعد تصلح للنقل أو إعادة الزراعة"، الذي يتطلب اقتلاعها بالكامل من جذورها بماكينات خاصة كما يحدث في أوروبا.
يشدد نور الدين لـ المنصة على أن الصور تثبت أن الأشجار كانت سليمة وعفية وفي حالة ممتازة، عكس ما حاولت محافظة الإسكندرية الترويج له في أحد بياناتها بأن الأشجار "مريضة وتمثل خطرًا على المارة".
ينبه أستاذ الزراعة إلى ضرورة إعادة زراعة ضِعف عدد الأشجار المقطوعة تنفيذًا لقرارات منظمة الأمم المتحدة للحفاظ على البيئة ومنع إزالة أشجار الغابات والمدن. إذ إن الأشجار اليافعة تمثل إحدى رئات كوكب الأرض لامتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون المسؤول عن الاحترار العالمي وتغير المناخ.
لكنَّ ذلك لا يأتي في ترتيب الأولويات بالنسبة لمشروع توسعة طريق الحرية-أبو قير، الذي يجري العمل فيه من منطقة سيدي جابر وحتى محطة ترام الوزارة، فوفق بيانات محافظة الإسكندرية تجري زيادة الحارات المرورية لكل اتجاه لتصبح 8 حارات، من أجل الحد من الاختناق المروري في هذه المنطقة الحيوية التي تضم كتلة سكنية كبيرة من المواطنين.
حلول غير فعالة
لا يرى المهندس المتخصص في التراث المعماري مجدي صباغ في زيادة عدد حارات السيارات حلًا دائمًا أو فعالًا للقضاء على تكدس المنطقة على المدى المتوسط أو البعيد، "لأن عدد السيارات الملاكي وسيارات الأجرة الخاصة مستمرة في الزيادة بشكل سريع بسبب عدم توفر وسائل نقل جماعي فعالة"، كما يقول لـ المنصة.
وفق صباغ، فإن الحل في رفع كفاءة منظومة النقل العام، "في شارع أبو قير لازم نخصص حارتين للأوتوبيس الترددي اللي هيكون بديل للميكروباص والتاكسي"، مشيرًا إلى أن ذلك شكلٌ من أشكال النقل الجماعي الفعال في المدن القديمة مثل أثينا وروما وإسطنبول التي تضمن التعامل مع الكثافة السكانية العالية من القاطنين والسياح إلى جانب الحفاظ على الشوارع القديمة ورصيف المشاة ومعالم المدينة الأصلية.
يتفق معه المهندس المعماري محمد المحمدي في أن محافظة الإسكندرية بحثت عن أسهل الحلول وأسرعها لحل الأزمة المرورية في شارع أبو قير دون النظر إلى معطيات الواقع، لافتًا إلى أن هناك ثلاث مدارس تطل مباشرةً على الطريق يخرج منها أعداد كبيرة من الطلاب في وقت واحد "إزاي هيمشوا في الشارع من غير رصيف؟ خصوصًا وإن الشارع مع توسعته هيبقى سريع جدًا وده هيعرّض الأطفال للخطر".
من جانبه يشير الدكتور ماهر عزيز، الخبير الاستشاري في مجال هندسة البيئة ودراسات التقييم البيئي والاجتماعي للمشروعات، إلى أن الأصل في الغطاء الأرضي أنه كله أخضر، بينما لدينا هو يسود اللون الأصفر، لذلك فإن كل شجرة لدينا عزيزة وغالية، لأن الغطاء الأخضر يعاني فقرًا شديدًا في بلد صحراوي كمصر، قياسًا بالدول الأوروبية والأمريكتين وغيرها.
يحذر عزيز من "كل يد غادرة تمتد لإزالة شجرة أو أي كساء أخضر من أرضها"، إذ يُلاحظ تناقص مستمر للمساحات الخضراء في مقابل الزيادة المضطردة للحيز العمراني، مما يؤدي إلى تناقص نصيب الفرد منها مع مرور الوقت، وهو ما يرفع بدوره درجة الحرارة داخل المدن، ويزيد نسب تركيز الغازات الدفيئة في الجو، مما يُؤثِّر على الصحة النفسية والجسدية للإنسان.
الحق في الأخضر
سبق لمنظمة الصحة العالمية أن أشارت إلى أن آثار التلوث الهوائي تتسبب في وفاة 7 ملايين نسمة كل عام، ورصدت أن واحدًا فقط من كل عشرة أشخاص يستنشق هواءً نقًيا كمتوسط عالمي.
وتُعد المساحات الخضراء أداة مهمة لتقليص الآثار الناتجة عن الاحتباس الحراري وتحسين جودة الهواء داخل الرقعة العمرانية بالمدينة، لكن في مصر ينحصر الحيز الأخضر بالأساس في ضفاف النيل؛ إذ يشكَّل وادي النيل والدلتا معًا أقل من 4% من إجمالي مساحة البلاد، وفي بعض الواحات داخل الصحراء. بينما تُشكِّل الصحراء الغربية حوالي 680 ألف كيلومتر مربع بنسبة 68% من مساحة مصر، والصحراء الشرقية وشبه جزيرة سيناء نحو 225.000 كيلو متر مربع أي بنسبة 28%.
وعند النظر إلى المعدل الذي وضعته الدولة في تخطيط المساحات الخضراء ثم إلى الأرقام الموجودة فعليًا، نرى فجوة ضخمة بين النموذج المُخطَّط وفقًا للمعايير والوضع القائم المنفَّذ. فعدد سكان المدن المصرية بلغ 42.2 مليون نسمة وفق إحصائية عام 2017، وحددت وزارة البيئة متوسط حصة الفرد من المساحات الخضراء في البلاد بما يبلغ 1.2 متر مربع فقط، وهو ما يقل كثيرًا عن توصية منظمة الصحة العالمية البالغة 9 أمتار مربعة.
في محافظة الإسكندرية، لم تزد مساحة المسطحات الخضراء العامة في عام 2023 عما يقارب 1.03 مليون م²، ممثَلة في الحدائق العامة والمساحات الخضراء التابعة لإدارات عامة. وإن كانت هذه المساحة تمثل 19% من جُملة المساحات الخضراء العامة بالجمهورية، فإنها لا تغطي سوى 15.8% من المعدل الطبيعي.
بالأخص يقع شارع أبو قير بنطاق حي شرق الإسكندرية الذي لا تزيد إجمالي المساحة الخضراء العامة فيه عن 0.82كم² أي 1,52% من مساحة الحي التي تبلغ 54,09كم² ليكون نصيب الفرد أقل من المتوقع، ويبلغ 0.66م فقط، وذلك على الرغم من وجود حديقة أنطونيادس وحديقة الحيوان ضمن نطاق الحي، وفق مؤشر الغطاء النباتي/NDVI.
إضافة إلى أن قطع الأشجار يزيد من سوء الوضع ومن حرمان الحي الفقير من الحيز الأخضر، فإن العام الدراسي بدأ دون أن تنتهي أعمال توسعة شارع أبو قير في الجزء من سيدي جابر وحتى محطة ترام الوزارة، بالتالي لم يشعر المجتمع السكندري بفائدة من تنفيذ هذا المشروع، فحالة المرور في ارتباك واضح خاصة بعد إلغاء إشارات مرور وحدوث تغيير في بعض مسارات السيارات.
أما المشاة فهم في حال لا يحسدون عليه فلا رصيف يسعهم، ولا طريق آمنة لعبورهم. لذا إن كنت من معتادي التمشية في هذه المنطقة لا ينصح بذلك الآن، ولا نعلم ما إذا كنت ستتمكن من فعل ذلك مستقبلًا.