"شيئان فقط ليس عليهما أن يعنيا شيئًا قط؛ الموسيقى والضحك." -- جون كايدج
هذا الطفل الصغير الذي لا يرى أمامه سوى منضدة فيطرق عليها لتنتج صوتا؛ أنت إذ تمسك القلم الأجوف نافخًا فيه ليخرج صوتا؛ نحن جميعًا حين نتمايل بالتصفيق وتقطيعه شيئًا فشيئًا. تلك الأفعال (العادية) التي يفعلها الجميع هي بالضبط المدخل الفكري الذي أقام صرحًا موسيقيا اسمه جون كيدج.
جون، الذي بدأ حياته الفنية مبكرًا، في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي كشاعر، ثم تعلم البيانو، لا لشيء سوى أن يغني شعره، الذي لا يعترف به غيره، إلى أن وصل للمرحلة التي علم عندها أنه ليس بشاعر، فهجر الشعر أو -بفلسفته هو، حتى نكون أكثر دقة- هجر الكلام. عمد إلى الموسيقى وليس غيرها، عاش معها يرضيها فترضيه.
يبدأ مؤلفاته الموسيقية في الأربعينات، كما عادة هؤلاء الباحثين عن الموسيقى بعد عناء التجريب، بالألحان الإيقاعية الراقصة. أنتج هذه الألحان واشتهر بها وصار هو "جون الذي يملؤنا رقصًا". لكن لم يزل جون نفسه يشعر بنقص ما. يوجد شيء لم يكتمل بعد. ما زال الصوت ناقصًا!
الصوت، هذه النواة التي يخرج منها جون دائمًا؛ يتحدث عنه باعتباره العامل الأهم والعامل الأسهل في نفس الوقت. لا تحتاج الكثير لتعرف أن كل ما في الكون ينتج صوتًا، وهل الموسيقى غير أصوات؟ حسنًا هذا هو جون كيدج، حيث كل ما في الكون ينتج موسيقى.
يزيد جون على تلك الألحان الإيقاعية، فيستخدم كل ما حوله كجزء من فرقة موسيقية؛ الأقلام، الكراسي، الأطباق، الملاعق، حتى لعب الأطفال. يضع الأجسام المختلفة على أوتار البيانو، أو فوقها، أو بينها وبين بعض، وعلى مقدار الاختلاف تختلف الموسيقى.
اسمع معي.
يستمر جون هكذا، وتزداد شهرته بهذا النحو؛ الموسيقار الذي يطرب القاعات بشتى الطرق وبشتى الآلات، حتى نصل إلى اللحظة الأهم في عام 1952، حين جلس الجمهور منتظرًا لمقطوعة جديدة لجون، واتخذ أعضاء الفرقة أماكنهم واستعدوا للعزف. ثم، لا شيء. مرت دقيقة والثانية والثالثة والرابعة، ولا أحد يتحرك سوى عازف البيانو الذي يغطي مفاتيح العزف ثم يرفع الغطاء عنها، ثم قام بعد أربع دقائق وثلاث وثلاثين ثانية لتحية الجمهور. انتهت المقطوعة.
الحقيقة أنه لم يقدم اللا شيء، بل كان يقصد أشياء، فمقطوعة "4'33"، واسمها يشير إلى مدتها، هي رمز. كان يريد من الجمهور الجالس أن يستمع إلى الصمت. نعم أعي ما أقول. حيث يريده أن يستمع إلى (صوت) الصمت. حين جلس الجميع ولم تعزف الفرقة شيئا تسللت أصوات الهمس، ضجيج الاستغراب، الأنفاس المتقطعة، ضوضاء الحركة على الكراسي، كل هذه أصوات كان يريد من الجميع أن يصغي إليها، هو نفسه حين فكر في المقطوعة لأول مرة زاد عن كون الأمر إصغاء إلى الهمس والنفس، بل كان يريد الغوص مع كل شيء في الفضاء حتى صوت سريان الدم في العروق، كان يحاول سماعه، ليست تكلفًا فلسفيًا وإنما محاولة ولو بسيطة للكشف عن علاقة بين الفن والفراغ.
نسيت أن أخبرك أن جون أيضا كان رسامًا، لا أعلم إذا كانت معلومة مفيدة أم لا. لكن أعلم أن جون - هذا الابن الشرعي للطبيعة- كان لابد أن يهب الرسم جزءًا من فكره!
استمر جون من الستينات وحتى وفاته يحاضر في الجامعات، يصدر الكتب ويحاول إيصال رسالته التي خلص إلى فهمها، محاولات عديدة يريد فيها تحرير لفظ الموسيقى لأبحرٍ أوسع أو كما يقول هو: "كل ما نقوم به، هو موسيقى."
يمتزج جون كلما تقدم في العمر أكثر مع الطبيعة، ويتطور هذا المزج أكثر وأكثر حتى أنه في أخر سنواته ينتقل للعيش برفقة صديقه في شقة في أعلى طابق بعمارة في أحد أكثر شوارع نيويورك ازدحامًا، فقط لكي يستمع لضجيج المرور، أو عفوا ما نسميه نحن ضجيجًا.
عند جون الأمر لا يختلف إن كان ضجيجًا أو صراخًا أو همسًا أو صمتًا حتى، كلها أصوات، وكما يقول هو فإنه لا يريد تعريفًا للصوت أكثر من أنه صوت، عمقه يكمن في هذه السطحية، حتى صوت ضجيج المرور هذا هو تعبير واضح عنده عن نشاط الصوت، النشاط الذي يجعل الصوت كما الإنسان يكبر ويصغر ويطول ويقصر ويرتفع وينخفض، فمقطوعات بيتهوفن أو باخ كلما استمعت إليها تجدها هي ذاتها لا تتبدل، ولكن صوت الضجيج هذا دائمًا متجدد، ودائمًا حي.
هذه هي رؤية جون كما يجليها بأن الوجه الحقيقي لاختبار الصوت هو اختبار الصمت أيضا.
مصادر إضافية
- نعي جون كايدج من موقع صحيفة النيويورك تايمز بقلم ألان كوزين - 13 أغسطس/آب 1992.
- مقتطفات من حوارين أجراهما ستيفن مونتاج مع جون كايدج خلال عام 1982 ونشرت في American Music عدد صيف عام 1985.