منذ أن وعيت على الحياة، ربما وأنا فى الخامسة أو السادسة، اعتادت أسرتي أن تصطحبني في مطلع كل عام جديد إلى معرض الكتاب، كان الأمر احتفاليًا بالنسبة لي، رحلة، يشترون فيها ما أختاره من كتب التلوين وقصص الأطفال المليئة بالرسوم، وقصصًا لزكريا تامر صادرة عن دار الفتى العربي، وقصص بيتر بان بالإنجليزية، طبعة (ليدي بيرد- ladybird). ثم ننتقل إلى ساحة المأكولات، كنا فى مطلع التسعينيات ومطعم ويمبى هو الأكثر شهرة وصيتًا، ساندوتش الهمبرجر بخمسة جنيهات، أحيانًا نجلس لنستريح ونُقَلِّب فيما اشتريناه من الكتب.
في المقهى الثقافي، رأيت كثيرًا من المثقفين والأدباء الذين لم أعرفهم وقتها، ولن أذكر منهم لاحقًا إلا أحمد فؤاد نجم وإبراهيم أصلان اللذين علقا بذهني بسبب هيئتهما اللافتة وشعرهما الأبيض الخشن، كان نجم يرتدي جلبابه الأبيض التقليدي ومن فوقه عباءة صوفية، ويلف شيئًا ما حول رأسه محتميًا من البرد، كان جالسًا في وسط جمع كبير ممن بدوا أصدقاءه وأخذ يتكلم بصوت عالٍ ثم أمسك بكتاب أمامه، سبّه، وألقاه بأقصى قوته إلى أبعد نقطة ممكنة. بعد عشر سنوات أو أكثر سأعرف أحمد فؤاد نجم، وسأتذكر أن هذا الشخص الذي صرت أحضر ندواته في ساقية الصاوي، الندوات التي توقفت بعد الليلة التي سخر فيها من جمال مبارك وألقى قصيدته "يا عريس الدولة، اطلب واتمنى"، هو الشخص نفسه الذي رأيته في طفولتي في المعرض.
بعد أن صرت مراهقًا، اختلفت اختياراتي للكتب، صرت أبحث عن كتب السينما وفيلموجرافيا المخرجين، ستيفن سبيلبرج ومارتن سكورسيزى، وموسوعات يعدها أحمد الحضري أو محمود قاسم، وسيرة فيدريكو فيلليني وسيناريو فيلم "الحياة حلوة"، ومع بداية سنيني الجامعية باتت الكتب السياسية هي شاغلي الأكبر وأكثر ما يجذبني، وقتها عُرض مسلسل "فارس بلا جواد"، وفي المعرض اللاحق انتشرت نسخ عديدة وطبعات مختلفة من "بروتوكلات حكماء صهيون"، فاشتريت نسخة ولم أقرأها. كنت أبحث عن اسم عبد الناصر وصورته بين الأغلفة والعناوين، اشتريت الأمير لمكيافيلي، وكفاحي لهتلر وكتبًا عن جيفارا وعن حسن البنا والشيعة ومذكرات عدد من الضباط الأحرار. في منتصف سنوات الجامعة، حوّلت وجهتي مرة أخرى، بدأت أبحث بشكل أكثر شغفًا عن الروايات والقصص، وصرت أستكشف أسماء جديدة لم أكن أعرف إلا صداها، وبكل عام أحذف من قائمة الأسماء بعضها، أحتفظ بالبعض، وأضيف آخر.
منذ عقد أو أقل كان الكثيرون يعتبرون المعرض مهرجانًا احتفاليًا، أو فسحة رخيصة، ساحات واسعة، وجوه مختلفة، مجلات فنية، سندوتشات وحاجة ساقعة، حفلات غنائية، وقاموس أطلس المصور، وكانت الدور الإسلامية وسور الأزبكية هم الأكثر رواجًا بين أجنحة المعرض. اختلف كل شيء الآن، باستثناء رواج الأخيرين، فالأولى يرتادها الشيوخ والشباب ورجال أمن الدولة، أما سور الأزبكية فقد جذب جمهورًا جديدًا عقب زيادات الأسعار وتدهور الأحوال الاقتصادية، إضافة إلى طرحه لطبعات غير قانونية، ولكنها أرخص، من الكتب الأكثر مبيعًا. أما أنا فأبحث في السور عن الصحف والمجلات، لا الكتب، الكواكب ومسامرات الجيب، أعداد من السبعينيات أو الأربعينيات، غلاف لريتا هيوارث وفوقه ختم من "يانصيب دار الهلال"، هدية مع العدد صورة ملونة لإكرامي، يبيع لي الرجل العدد الواحد بخمسة عشر جنيهًا، رغم ما طُبع على غلافه من أن ثمنه 8 مليم. يضم أحد أعداد مسامرات الجيب الأربعينية مقالات لطه حسين والمازني ويوسف السباعي وزكي مبارك، وإعلانات لفيلمي مديحة يسرى "أسير الظلام" و"معروف الإسكافي" و"النجاح يتواصل والإقبال يشتد على فيلم ضربة قدر ليوسف بك وهبي وليلى مراد"، إضافة إلى صفحة "شقاوة" التي تضم أربع صور لشقراء بملابس تكشف عن بطنها وفخذيها، اتضح أنها نجمة كولومبية اسمها ليلي بروك.
اختفت دار الفتى العربي، ولم أعد أرى منشورات "ليدي بيرد" التابعة لدار بينجوين -Penguin، وظل بائعو قواميس أطلس الإلكترونية يوقفونك لعرض بضائعهم ولكن دون اهتمام من المارة الذين يتعدونهم بابتسامات صفراء. تغير كل شيء، فلم يعد المعرض فسحة رخيصة كما كان للبعض، زادت أسعار الكتب كما زادت أسعار المأكولات والمشروبات، واختفت محلات الطعام الشهيرة والعلامات الأمريكية في مقابل مطاعم الشاورما والمأكولات السورية، وتم استبدال القاعات العملاقة بالخيام. كما كان لمواقع التواصل الاجتماعي أثر واضح على المعرض أيضًا، فالبعض يبحث عن صبغة عميقة لشخصيته والبعض اجتذبته عوالم الأدب والفنون، وآخرون يبحثون عن فهم لهذا العالم الذي يزداد تعقيدًا. يُعد صديقي البعيد عن الوسط الأدبي قائمة لكتبه مستعينًا بتقييمات "جود ريدز"، ويحدد آخر ميزانية محددة لمشتريات المعرض يدبرها طوال العام، وتطلب مني زميلة في العمل أن أرشح لها مجموعة من الروايات الرومانسية لتشتريها في المعرض، مضيفة أنها تحب كتابات محمد صادق ونور عبد المجيد.
قبيل أيام من المعرض تكشف كل من لجنة البوكر ومن قبلها لجنة ساويرس عن قوائمهما، فتضيف دور النشر على أغلفة كتبها الفائزة ما يشير إلى الجائزة. وتعلن عن منشوراتها الأحدث، التي غالبًا ما تتأخر في المطابع ولا تلحق بالمعرض إلا في أيامه الأخيرة. ويحتفي الكُتّاب بإصداراتهم الجديدة على صفحاتهم الخاصة، ويدعون إلى حفلات التوقيع التي تم استحداثها في المعرض منذ أعوام قليلة، كما أدخلت بعض المكتبات المصرية فكرة ساعة الحظ التي تُباع فيها الكتب بنصف ثمنها مثل كارفور.
أما الدور العربية فصارت أسعارها باهظة منذ تحرير سعر الصرف، اللبنانيون يتضاحكون معنا وهم يعرضون أسعارهم الغالية وأغلفتهم الأنيقة، والعراقيون يتعاملون بحدة وجدية، أما المغاربة فينظرون لنا بتشكك، يقول أحدهم لواحد من المشترين "ليس الذنب ذنبي، إسأل رئيسك عن سعر الدولار". وباتت بعض الدور العريقة تغيب عن المعرض وتكتفى بتوزيع كتبها في مكتبات أخرى، مثل دار الآداب اللبنانية التي تطرح كتبها عبر مكتبة تنمية، أو دار توبقال المغربية التي كادت أن تغيب هذا العام بعد تغير بوصلة الأسعار فى مصر. لم يعد المعرض قادرًا أيضًا على استضافة كتاب فى قيمة جونتر جراس أو أوكتافيو باث اللذين استضافهما فى التسعينيات، ولا إليف شافاق أو باولو كويليو اللذين أعلن رئيس الهيئة العامة للكتاب منذ شهرين عن إمكانية استضافة أحدهما في تلك الدورة.
أصبح الإقبال على المعرض شبابيًا بالدرجة الأولى، ليس عائليًا كما كان، ربما كانت ثورة يناير نتيجة لهذا التغير وسببًا فيه في آن واحد. زاد عدد المعروض من الكتب، وشهدت الروايات وشعر العامية رواجًا ملحوظًا، واتجه بعض الناشرين للتخصص في الترجمات. انتشرت النكات الساخرة من عدد الكُتاب الذي فاق عدد القراء، كما يتناقل مستخدمو الفيسبوك بالتزامن مع كل معرض مقتطفات من بعض الكتب هازئين من محتواها، ويشارك آخرون بصور لحفلات توقيع مكتظة بمراهقات حول شاب لا يتجاوزهم سنًا ولا معرفة. على أي حال فكتابات البوب هي الأكثر انتشارًا وتحقيقًا للنجاح في أي مكان بالعالم، إلا أن الأمر في مصر يبدو أكثر سوءًا، وقد نعد هذا طبيعيًا في بلد لا يلقى فيه التلاميذ الحد الأدنى من التعليم، ولا يقوم النقاد والإعلام فيه بالحد الأدنى من واجبهم، فيدخل الشاب إلى المكتبات ويجد نفسه تائهًا، ما من بوصلة توجهه، سوى المبيعات والآراء المتناثرة على قارعة الطريق.
على مدار ما يزيد عن الخمسة وعشرين عامًا لم أخلف موعد المعرض إلا مرتين، الأولى في الثانوية العامة، والثانية في 2011، حيث كان مقررًا أن يفتتحه مبارك في صبيحة السبت التاسع والعشرين من يناير. ظل فاروق حسنى يؤكد حتى صباح جمعة الغضب أن المعرض سيقام في موعده المحدد، وأن الأبواب ستُفتح للجماهير في نفس يوم زيارة الرئيس على غير العادة، إلا أنه في الميعاد المقرر كانت الجماهير تملأ الميادين، والرئيس يتابع الأحداث مذعورًا في قصره.
وبالرغم مما يطرأ على الحدث من تغيرات واضحة، دائمًا إلى الأسوأ، إلا أن المعرض يظل بالنسبة لي مكانًا أشعر فيه بالراحة والألفة، ونقطة زمنية أتوق للوصول إليها في كل عام جديد، مثل رمضان والعيد ، هذا التكرار الزمني الدائري الذي يمدني بشعور زائف بأن الحياة مستقرة ومستمرة، وأن كل شيء على ما يرام، فأطمئن وأهدأ، وبنهاية كل رحلة أعد نفسى بالعودة في العام القادم لأكرر الرحلة التي اعتدتها منذ طفولتي، حتى وإن بدت مختلفة، أو قد أقول على طريقة باولو كويليو إن الكنز ليس فقط في الكتب، بل إنه يكمن أيضًا في الرحلة.