
نقد الطائفيين في صهينة المسيحيين
تصاعدت حدة الانتقادات التي وُجّهت إلى المسيحيين المصريين باعتبارهم داعمين للصهيونية المسيحية خلال الأسابيع الأخيرة في ظل وجود بعض الأصوات المعدودة والشاردة المُتيمة بعشق إسرائيل، وكذلك عقب مقتل الناشط الأمريكي اليميني شارلي كيرك، وإدانة كثيرين جريمة اغتياله السياسية وتضامنهم مع أسرته.
لم تأت هذه الانتقادات كالعادة من تيارات إسلامية إخوانية أو سلفية، إنما جاءتْ من كتاب وباحثين وأكاديميين يساريين وليبراليين عبر السوشيال ميديا فيما يشبه الحملة الموجهة، ما يتطلب التعامل معها بجدية نظرًا لتداعيات ما يتركه هذا الوصم في الذاكرة الوطنية بالمجمل والصورة الذهنية عند المواطنين، وتأثيراته على أرض الواقع.
تكتسب هذه الاتهامات زخمًا أكبر مع استسهال الهجوم على المسيحيين باعتبارهم "الحيطة المايلة" في المجتمع المصري، وتحميلهم كل مشكلات مصر والمنطقة. تارة بدعوى أنهم داعمون لنظامٍ فَشِل في علاج المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وقيَّد المجال العام، وتارة بدعوى أنهم غير متعاطفين مع معاناة الشعب الفلسطيني، وثالثة بأنهم داعمون لرؤى اليمين المحافظ، التي توفر بيئة مواتية للصهيونية.
هل مطلوبٌ من المسيحيين أن يُضاف إلى معاناتهم همٌّ آخر؟ إنهم باستمرار في موضع اتهام وعليهم التبرؤ من كل شخص أو مجموعة لا تتفق مواقفهم مع الأغلبية، أو يحمل ضررًا على المستوى الوطني؟
نهج التكفيريين
المسيحيون جماعةً وأفرادًا ليسوا معصومين من الخطأ والنقد، ومن الطبيعي أن تكون آراؤهم وممارساتهم محل اهتمام قطاعات واسعة من المصريين، إلَّا أن الموجة الأخيرة حملت في طياتها مسحات من التحريض، وتخطت نقد أصحاب هذه الأصوات المحدودة، ووقعت في عدد من المغالطات، وهو ما يعد مناسبة لإلقاء الضوء عليها، وإعادة التذكير بتراثنا في التعامل مع الصهيونية المسيحية ودعم القضية الفلسطينية.
أولى هذه المغالطات مرتبطة بالتوسع وسهولة وصف الآخرين بأنهم صهاينة. لم تعد الكلمة قاصرةً على هؤلاء المؤمنين بالتفسير الحرفي والانتقائي للكتاب المقدس، وأن عودة المسيح مشروطةٌ بعودة اليهود إلى أرض فلسطين، ومن ثَمَّ تأييد الادعاءات الإسرائيلية بأنَّ اليهود شعب الله المختار، وأنَّ فلسطين أرض الميعاد التي عادوا إليها بعد شتاتهم في بقاع العالم، بوعد الله لهم في التوراة.
قطاع معتبر من المسيحيين المصريين غير مسيس ولا ينتمي إلى اليمين أو اليسار
يستسهل كثيرون إطلاق هذا الوصف المخزي على المخالفين لهم في الرأي. يُوسم بالصهيونية حاليًا كثيرٌ من الرافضين لسياسات إسرائيل، لكنهم ينتقدون حركة حماس لفشلها في الحكم ويحمّلونها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع من هزيمة واضحة ومؤثرة، ليس على الفلسطينيين فقط، ولكن على كل دول المنطقة. كما يوسم بها بعض المؤمنين بالسلام ويريدون وقف المقتلة بأي شكل.
تكمن الأزمة الأساسية لهذا الخطاب في أنه يعيد إنتاج نهج الجماعات التكفيرية التي لا ترى الأشياء إلا بعدسة الصواب والخطأ؛ نحن وهم، ولا شيء بينهما، مما يخلق حالة من التربص والتوتر المجتمعي والتجييش الطائفي، علاوة على أن الكلمة نفسها تفقد معناها وتأثيرها.
تترتب على المغالطة الأولى مغالطةٌ ثانيةٌ مغرضةٌ، هي التعميم. البعض تحدث عن وجود تيار مسيحي صهيوني كبير، والبعض وسم أقباط المهجر ككل بأنهم صهاينة في تجاهل عمدي لحقيقة أن المسيحيين مثل أخوتهم المسلمين متنوعون سياسيًا واجتماعيًا، وثقافيًا واقتصاديًا وليسوا كتلة واحدة متجانسة لديها مواقف موحدة من القضايا والهموم الداخلية والخارجية.
قطاع معتبر من المسيحيين المصريين غير مسيس ولا ينتمي إلى اليمين أو اليسار، وهمه الرئيسي التعامل مع هموم المعيشة وتوفير سبل الحياة بكرامة.
كما أن هناك قطاعًا آخر لديه انتماءات سياسية، مرتبطة بالمصلحة، سواء كانت عامة أو حتى شخصية. وليس من الإنصاف أو الموضوعية أو الحكمة الاستناد إلى أصوات محدودة أو حتى مئات الأصوات لمسيحيين مؤمنين بالصهيونية أو داعمين لإسرائيل من أجل التعميم وسحب التهمة على عموم المسيحيين، وهم بالملايين في المطلق، سواء في الداخل أو الخارج. حتى إذا كانت هذه الأصوات مرتفعة لكنها تظل محدودة بدوائرها وأسبابها السياسية والاجتماعية، ولا تمثل الغالبية.
من سمات الأقليات بشكل عام أنها تميل إلى المحافظة الاجتماعية لأسباب عدة مرتبطة بالمخاوف على الهوية أو الارتباط بالمؤسسة الدينية أو غياب أسس الاندماج الوطني، وهذا ليس موضوعنا. وتعبِّر عن هذا التوجه في الاستحقاقات الانتخابية، وهو ما انعكس على سبيل المثال في تأييد نسبة كبيرة من أقباط المهجر للحزب الجمهوري وترامب، حيث يرون في تصريحاته وسياساته امتدادًا لما يؤمنون به وعاشوه في مجتمعاتهم الأصلية، وعلى هذا الأساس كان الموقف من شارلي كيرك.
سواء رضينا أو رفضنا هذا السياسات، ليس من حقنا أن نحجر عليهم، والتحريض ضدهم بسببها، هذا حقهم يمارسونه ويعبرون عنه كما يشاءون. وبالمناسبة هذا التأييد ليس حكرًا على المسيحيين، فقطاع كبير من المسلمين المهاجرين في أمريكا يشتركون في هذا الأمر، وعبروا عن تأييدهم لترامب قبل الانتخابات الأمريكية نهاية العام الماضي.
سبق لي أن سلطت الضوء على ردود الفعل من حرب غزة محاولًا قراءة السياق السياسي الحالي وتأثيره على الصوت المسيحي، مؤكدًا في مقال سابق بعنوان "المسيحيون والموقف من فلسطين" أن معظم المسيحيين مثل غالبية المصريين يدعمون القضية الفلسطينية بشكل عام، ويرفضون الجرائم الإسرائيلية الحالية، لكنَّ ما يتفاوت هو الموقف من حماس، ودرجة الاهتمام بما يحدث.
هناك من يؤيدون حركات المقاومة بغض النظر عن انتماءاتها الأيديولوجية، ويرفضون أيَّ توجهات استعمارية مهما كان شكلها، يقابلهم قطاع محمَّل بمخاوف حقيقية من حركات المقاومة الإسلامية، ومنهم من يحدِّد موقعه وفقًا للنظام الحاكم ودرجة تصعيد خطابه أو تهدئته.
مسيحيون ضد الصهيونية
أما المغالطة الثالثة، فعنوانها تجاهل التراث المصري المسيحي في تفنيد مزاعم الصهيونية. نعم توجدُ اختراقات صهيونية لبعض الجماعات المسيحية، لكن في الوقت نفسه توجد عشرات الكتابات المناهضة لهذا التوظيف الانتقائي للدين، فإذا كانت الأغلبية رفضت الحكم الديني لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، فمن المنطقي أن ترفض استغلال النظام الحاكم في إسرائيل للدين وخلطه بالسياسة.
كان المسيحيون المصريون سباقين في دحض الصهيونية المسيحية، وتفنيد الحجج التي استندت إليها. مثلًا، أرَّخ المفكر الدكتور سمير مرقص المهموم بهذه القضية في عديد المقالات والدراسات للموقف النخبوي المصري المسيحي بشقيه الديني والمدني، الذي شكَّل "جدار حماية" على حد وصفه منذ عام 1966، ومر بمرحلتين؛ الأولى التأصيل الوطني واللاهوتي تجاه إسرائيل، والرد على مزاعم حقها التاريخي والديني.
من أبرز الردود المسيحية في هذا الشأن المحاضرة الشهيرة للبابا شنودة الثالث بعنوان إسرائيل في نظر المسيحية التي ألقاها في نقابة الصحفيين عام 1966، والكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية للدكتور وليم سليمان قلادة 1966، إضافةً لدور مجلس كنائس الشرق الأوسط في حث كل المسيحيين على رفض الصهيونية بشكل قاطع باعتبارها معادية لوجود الكنائس المسيحية في الشرق ولشهادتها بأنها تختزل الإيمان المسيحي وتوظفه بشكل خبيث.
أما المرحلة الثانية فبدأت عقب اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل 1979، حيث ركزت الكتابات على قضية القدس والصهيونية المسيحية، مثل الاختراق الصهيوني للمسيحية للقس الدكتور إكرام لمعي 1993، والإنجيليون العرب والصهيونية للدكتور القس مكرم نجيب، والصهيونية ذات التوظيف المسيحي لسمير مرقص 2003، الذي أكد أن هناك مسافةً لا بد من الانتباه لها بين الصهيونية، كتيار سياسي ديني أو ديني سياسي، وبين المسيحية الإيمان -الدين- العقيدة، بينما طرح الدكتور وليم سليمان قلادة النموذج الحضاري المصري باعتباره نقيض فكرة الصهيونية.
قد تكون الفرصة مواتية حاليًا لإعادة نشر وقراءة هذا التراث الفكري في ضوء السعي لتصحيح هذه الصورة المغلوطة عند البعض، حيث تكمن خطورة هذه المغالطات في التداعيات التي تنتج عن التحريض ضد الأطراف الضعيفة وسط مجتمع محتقن ومتوتر.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.