تصميم أحمد بلال، المنصة 2025
عودة الكتاتيب والتعليم الديني

طريق التمييز الطائفي يبدأ بالكتاتيب

منشور الثلاثاء 12 أغسطس 2025

في دَفْعة جديدة لتسريع عجلة تديين التعليم، خصوصًا مراحل الطفولة، تبدي الحكومة حماسها لخطة عودة الكتاتيب واستخدام المساجد لمرحلة رياض الأطفال.

الأمر الذي يدعونا إلى إعادة النظر في الأهداف الحقيقية من وراء الخطة بما تتضمنه من إجراءات، وهل تسهم فعلًا في بناء إنسان جديد أو تعزيز قيم الهوية والانتماء كما يصرح المسؤولون، أم أنها تعيد إنتاج نموذج أبوي للتنشئة والتعليم، قائم على الخضوع والخنوع لمن يعلو مكانة وسنًا تحت لافتة "احترام الكبير".

يزيد من الشكوك حول النوايا الحقيقية للحكومة أن هذه الإجراءات تتناقض تمامًا مع رؤيتها المعلنة منذ عقد من الزمان لإصلاح التعليم وتطوير مناهجه. ففي الوقت الذي التزمت فيه الحكومة، عبر الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وخطط تطوير التعليم، بجعل المناهج عصرية ومعبّرة عن احتياجات سوق العمل، وبتضمين قيم حقوق الإنسان والمواطنة بشكل صريح، نراها اليوم تتخذ خطوات تعكس توجهًا مختلفًا تمامًا. 

فضمن تعديلات قانون التعليم الأخيرة التي أقرها مجلس النواب؛ نجحت وزارة التربية والتعليم في رفع الحد الأدنى للنجاح في مادة التربية الدينية إلى 70% من درجة المادة، دون مناقشة جادة أو حوار مجتمعي، ودون إعلان عن الأسباب المنطقية التي استدعت هذا التعديل الذي يزيد الأعباء على كاهل الأسر المصرية من ناحية، ولا يتوافق مع المبادئ التي يرسيها الدستور من قيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز من ناحية أخرى، إذ يُعطي وزنًا نسبيًا أكبر لمادة التربية الدينية، التي تمثل طريقة تدريسها في المدارس نموذجًا صارخًا للتمييز والفرز الطائفي.

تكشف تصريحات وزير الأوقاف عن نزعة لامتلاك الحقيقة

استمرت عجلة الإجراءات في الدوران خلال الأيام الماضية، تصدر الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف عناوين الأخبار عبر عدد من التصريحات والبيانات الرسمية حول عودة الكتاتيب، معلنًا عن بدء تنفيذ الخطوات الفعلية، خلال افتتاح دورة "مهارات التحفيظ والفهم الفعال وأساليب غرس الوطنية والانتماء"، موضحًا أن دورها لن يقتصر على العلوم الدينية وتحفيظ القرآن فقط، لكن سيمتد إلى تعليم العلوم المدنية، وغرس القيم الدينية الوطنية والأخلاقية، وبناء الإنسان والشخصية المصرية المتوازنة علميًا وخلقيًا.

وبلغة خطاب استعلائي، غير معتادٍ أن يصدر عن مسؤول سياسي وديني كبير، صرح الأزهري "بعد الانتهاء من وضع مبادئ الكتاتيب، سأذهب إلى البابا تواضروس الثاني لإخباره بالمبادئ التي سنعلمها للصغار المسلمين بالقرآن ليأخذها، ويتم تدريسها للصغير المسيحي من الإنجيل"، ما أثار انتقادات واسعة، لا سيما أنه لم يتحدث عن تشكيل لجنة مشتركة لدراسة هذه المناهج بل عن نقل التجربة.

تكشف التصريحات عن نزعة حكومية لامتلاك الحقيقة، والاعتقاد بأن تعاليم دين الأغلبية هي وحدها مصدر تحديد القيم الإنسانية الإيجابية، وعلى الآخرين أن يقبلوها بامتنان، ثم يُقدم ذلك باعتباره إنجازًا وخطوة في سبيل دعم التسامح الديني والتعايش المشترك.

الطائفية في المناهج

ما يدعو للأسى أن هذا الخطاب يتماهى مع مناهج التعليم المعدلة، التي سبق أن تناولتُ نماذج منها في مقال سابق، التي تزخر قطعًا بالمرجعية الإسلامية، ليس في القضايا والموضوعات ذات البعد الديني فقط، لكن في القضايا العامة أيضًا؛ من الصدق إلى مشاكل البيئة، من التضامن الاجتماعي إلى الغذاء، وغيرها، وهو ما يرسخ التمييز ويعطي أفضلية للإسلام على غيره من الديانات والمعتقدات.

كما أن المناهج الدراسية الحالية في اللغة العربية، والدراسات الاجتماعية، والتربية الدينية، لا تزال تعزز فكرة أن الإسلام هو أساس قيمة الإنسان وعلاقات المجتمع، وليس المواطنة أو الإنسانية. هذا التوجه المنهجي يعزز بشكل غير مباشر عقائد بعض التيارات المتشددة التي لا تؤمن بالمساواة والمواطنة، وتربط الحقوق بالرؤية الدينية بدلًا من الدستور والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

تراجع دور الكتاتيب مع تحديث التعليم إلى أن اندثرت

كان يمكن التعامل مع فكرة "عودة الكتاتيب" بإيجابية لو أنها اقتصرت على تعزيز التربية الدينية وتحفيظ القرآن، كما تفعل مدارس الأحد، باعتباره جزءًا من وظائف المؤسسة الدينية. لكن التصريحات الرسمية لوزير الأوقاف، وكذلك بيان رئيس الوزراء، التي تقدم "عودة الكتاتيب" مبادرةً من أجل بناء جديد للشخصية المصرية، تفرض علينا قراءة هذا الإجراء في السياق الأوسع عن مصير التعليم في مصر، ومن ثم وضعه تحت مجهر النقد والتقييم.

عرفت مصر الكتاتيب خلال العصور المتتالية للدولة الإسلامية، منها ما اهتم بتحفيظ القرآن فقط، ومنها ما اهتم بتعليم القراءة والكتابة، ومع تحديث التعليم وتنظيمه تراجع دورها إلى أن اندثرت مع إقرار مجانية التعليم وإلزاميته.

تراها أجيالنا في الأفلام والمسلسلات التليفزيونية في مشهد يصور شيخًا طاعنًا في السن يُكرِه التلاميذ على الحفظ وتكرار ما يقوله، في تجسيد لنموذج بدائي للتعليم القسري القائم على الحفظ والتكرار والعقاب البدني.

لذا من حقنا التساؤل، ما الحاجة الآن في عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي إلى الكتاتيب، ما الذي تقدمه لجذب الأطفال إليها، وإذا كانت ستقدم علومًا مدنية فما الحاجة لأن تكون داخل المساجد وليس المدارس، ومن يحدد تلك المواد التي ستدرس للطلاب.

رياض الأطفال بالمساجد

واحد من الإجراءات المربكة، إن جاز التعبير، هو إعلان كلٍ من وزير التربية والتعليم ووزير الأوقاف عن توقيع بروتوكول حكومي رسمي للاستفادة من المساجد في تقديم خدمات رياض الأطفال، وهي المرحلة التي تسبق التعليم الأساسي.

تبدو المبادرة من الوهلة الأولى إيجابية وخدمية الطابع وذات بعد تنموي، لا سيما أن بعض الأطفال يتأخر تحصلهم العلمي ومعرفتهم بأسس القراءة والكتابة لعدم التحاقهم بهذه المرحلة، لذلك فما المانع من تطبيقها والإشادة بها، خصوصًا أنها تتشابه مع وجود بعض الحضانات المرتبطة بالكنائس، وإن كانت تنفذ كمبادرات فردية، ولم تنشأ عبر برتوكول تعاون بين وزارة التربية والتعليم والكنائس.

هل تقبل هذه الحضانات أطفالًا من مختلف الديانات؟

غير أنها تثير العديد من المخاوف، أبرزها تكريس التمييز الديني، وتعزيز حضور المؤسسات الدينية في المجال العام على حساب دور الدولة المدنية، نظرًا لأن مرحلة رياض الأطفال هي سنوات مهمة لتعليم النشء.

وفقًا للبيان الصادر عن وزارة الأوقاف، ستكون هذه الحضانات تابعة للمساجد مباشرةً، وليس للمؤسسات التعليمية أو الخدمية التابعة للمؤسسات الدينية. هذا يطرح تساؤلًا جوهريًا: هل ستقبل هذه الحضانات أطفالًا من مختلف الديانات؟ أم أن هذا الإجراء سيفصل بين الأطفال على أساس ديني، بحيث يذهب أطفال المسلمين إلى المساجد، وأطفال المسيحيين إلى الكنائس؟

في الحالتين الرسالة سلبية، إذا ذهبوا جميعًا إلى المساجد، قد يمنع المسيحيون أطفالهم من الذهاب في هذه المرحلة المبكرة، أو قد يشعر الأطفال أنفسهم بالغربة، أو يتعرضون للتنمر، وفي حال ذهب كل طفل إلى دار العبادة التابع لها، يعزز ذلك سياسات العزلة والانقسام.

كما أن ذلك يثير تساؤلًا آخر حول من الذي سيضع المناهج التي سيتعلمها الأطفال، وهل ستخضع للرقابة الصارمة، أم أن قوة ونفوذ المؤسسة الدينية، وما تؤمن به من سمو أخلاقي سيحول دون اتخاذ أي إجراءات في حال الانحراف عن أهداف التجربة ورسالتها.

إن خطورة ما تطرحه وزارة التربية والتعليم هو تعميم نماذج تعليمية دينية في مراحل الطفولة، تعيد إنتاج نمط التعليم القائم على الحفظ وعدم التفكير، وتؤدي حتمًا إلى مزيد من التمييز الاجتماعي والطبقي، بين أبناء الأغنياء وأبناء الفقراء، وبين أبناء المدن وأبناء الريف.

إننا اليوم في حاجة ماسة إلى تعليم مدني موحد يقوم على قيم المواطنة، وحقوق الإنسان، واحترام الاختلاف، بدلًا من القرارات الاستعراضية أو البروتوكولات التي لا تخدم إلا الصورة. هذه ليست مطالب جديدة، بل هي أهداف ناضل من أجلها كبار الخبراء التربويين في مصر، لكننا للأسف نبتعد عنها بدلًا من الاقتراب منها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.