
يوميات صحفية برلمانية| موازنة "عدم اليقين" بين الاصطفاف وقت الحرب وأعباء الديون
على وقع أخبار صعود أسعار الذهب وتحرك سعر الدولار تأثرًا بالحرب بين إسرائيل وإيران، وتوقعات عودة سياسات تخفيف الأحمال بعد توقف مد الغاز الإسرائيلي لمصر جراء الحرب، ناقش مجلس النواب موازنةً جديدةً للدولة من "موزانات عدم اليقين".
بدأ مصطلح عدم اليقين يتسرب إلى الموازنة العامة للدولة، وخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية مع إعداد الحكومة لموازنة وخطة العام المالي 2021/2020، بعد أشهر قليلة من جائحة كورونا، وقالت وزيرة التخطيط هالة السعيد حينها إن "خطة العام المالي 2021/2020 تمت في إطار ظروف شديدة من عدم اليقين تشهدها مصر ودول العالم".
عدم يقين متسلسل
لم يغب عدم اليقين عن الموازنة على مدار 6 سنوات، كانت مبررات الوزراء حينها متنوعة ما بين كورونا وتداعياتها، والحرب الروسية على أوكرانيا وتأثيراتها، وطوفان الأقصى وتبعاته على المنطقة. ورغم أن الموازنة الجديدة للعام المالي 2026-2025 أعدتها الحكومة قبل بدء العدوان الإسرائيلي على إيران، فإن مصطلح عدم اليقين كان حاضرًا خلال إعداد الموازنة العامة الحالية.
استمرار الظروف الاستثنائية وارتفاع درجة المخاطر
في الفصل الأولى من مشروع الموازنة العامة للدولة إسهابٌ في الحديث عن استمرار الظروف الاستثنائية وارتفاع "درجة المخاطر، وحالة عدم اليقين من قبل المستثمرين، واستمرار تفاقم البعد الجيوسياسي مع استمرار الحرب على قطاع غزة التي أثرت على حركة التجارة في البحر الأحمر، بالتالي انخفاض شديد لعائدات قناة السويس".
ومع بدء مناقشة الموازنة في مجلس النواب بعد يومين من العدوان الإسرائيلي على إيران، جددت وزيرة التخطيط والتعاون الدولي رانيا المشاط حديثها عن حالة عدم اليقين، خلال الجلسة العامة الثلاثاء التي شهدت الموافقة النهائية على مشروع الموازنة وخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
لماذا الموافقة؟
اعتاد النواب على عصر الليمون والموافقة على موازنات الأمر الواقع، المحاصرة بأعباء خدمة الدين، في كل مرة توجِد الأغلبية وحلفاؤها مبررات لتمرير الموازنة، فمع وجود انتقادات معتادة منهم للحكومة وإدارتها للسياسة المالية والاقتصادية، تأتي الموافقة تتمة لمداخلة النواب في النهاية.
الحرب الإسرائيلية الإيرانية حجة جديدة لتمرير الموازنة التي ينتقدها نواب المعارضة
في هذه المرة، كانت الحرب التي بدأتها إسرائيل على إيران الحجة الجديدة التي يروجها النواب لتمرير الموازنة التي أبدت المعارضة ملاحظات عليها، تتعلق بأعباء الدين وضعف الإيرادات، وسوء الإدارة وضعف الكفاءة.
بدأت المناقشات خلال الجلسة العامة، الاثنين الماضي، بكلمة للنائب عبد الهادي القصبي زعيم الأغلبية البرلمانية (مستقبل وطن) وجَّه فيها رسالة "ليسمعها العالم أجمع وليستوعبها جيدًا.. الشعب المصري الذي يؤمن بالسلام ويسعي لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة هو ذاته الذي يزداد صلابة وقوة في مواجهة الأزمات وكافة الظروف والكوارث، وهو نفسه الذي يساند الشعب الفلسطيني الشقيق في كافة حقوقة المشروعة والعادلة، وهو نفسه الشعب الذي لا يقبل المساس بسيادته الوطنية، مهما كلفه ذلك من بذل الغالي والنفيس، لأنه شعب يتسلح بالإيمان بالله وبالوعي والضمير الوطني".
وشدد على ثقة الشعب في الرئيس والاصطفاف خلفه، مضيفًا "التاريخ أثبت للعالم أن الشعب المصري لا تزيده الضغوط إلا قوة وأن الضغوط لم ولن تولد إلا أسودًا للدفاع عن عرين هذا الشعب في كافة المجالات".
لم تكن كلمة القصبي الوحيدة التي طغت عليها الحماسة ومحاولة التعبئة والاصطفاف، بل تبعه النائب مصطفى بكري متحدثًا عن "الأمل"، يستشهد بكري بالشعب الألماني ويقول عنه "أدرك أن زراعة الأمل أهم من زراعة القمح، فتوحد ونهض".
وامتدت آثار الحرب لكلمة النائب عمرو درويش عضو مجلس النواب عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين "الوقت الحالي يحتم علينا الموافقة على الموازنة"، معتبرًا أن المواطن غير مهتم بتفاصيلها وأرقامها يل يهتم بأن "نطمئنه على بلدنا وأداء وزير المالية الذي يحاول الموازنة بين التحديات والمتطلبات"، واختتم كلمته "نقول للمواطن لسه واقفين على رجلينا".
أما النائب سليمان وهدان أمين الشؤون البرلمانية بحزب الجبهة الوطنية فذهب في كلمته إلى ما هو أبعد من ذلك، فمع توجيه رسائل الطمأنينة للشعب المصري، اختتم كلمته قائلًا "أي فرد يتخاذل، في مقام الخائن".
لم يوضح سليمان عن أي تخاذل يتحدث، هل رفض الموازنة في هذه اللحظة هو التخاذل؟ هل زملاؤه الرافضون متخاذلون؟
رفض وحيد في الأغلبية
غرد النائب محمد بدراوي منفردًا وسط صفوف الأغلبية، منتقدًا الموازنة العامة للدولة مستعرضًا عددًا من الأرقام. لم يمهل الوقت المتاح (دقيقتين لكل نائب) بدراوي لإعلان موقفه بالموافقة أو الرفض، لكن محادثة جانبية جمعتني به أعلن فيها موقفه بوضوح "مش ممكن أوافق على موازنة بالأرقام دي".
انتقد بدراوي ضعف الإيرادات من الصناعة والزراعة والسياحة وغيرها من القطاعات الاقتصادية، والاعتماد على الضرائب بنسبة 85% كإيرادات وموارد للموازنة، كما توقف أمام دائرة القروض المفرغة التي ندور فيها بلا نهاية "أي جنيه إيراد للدولة يضيع منه 80 قرشًا لفوائد الديون، بالتالي لا يتبق إلا القليل جدًا لتغطية المصروفات ويغطي فقط الأجور والرواتب، ثم نضطر للاقتراض مرة أخرى لبناء مدارس ومستشفيات ورصف طرق، فيحدث عجز مرة أخرى".
يمثل بدراوي دائرة السنطة في محافظة الغربية، وحصل على مقعده للمرة الأولى في انتخابات 2015 عن حزب الحركة الوطنية، وقدم خلال الفصل التشريعي الأول أداءً برلمانيًا مميزًا وحاول مناقشة استجوابه الذي يطالب بسحب الثقة من حكومة رئيس مجلس الوزراء السابق شريف إسماعيل، نظرًا لخطورة الوضع الاقتصادي.
ومع الانتخابات الأخيرة التي جرت في 2020، خاض بدراوي الانتخابات في دائرته لكن عن حزب مستقبل وطن بعد استقالته من الحركة الوطنية.
من أجل الحرب أيضًا: مرفوضة
لم تكن الحرب حجة في صفوف الموافقين فقط، لكنها امتدت أيضًا لكلمات المعارضين لمشروع الموازنة العامة. كان النائب أيمن أبو العلا رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الإصلاح والتنمية أول الرافضين الذين تناولوا تبعات الحرب في كلمتهم "لو مكان الحكومة كنت مشيت بالموازنة السابقة، ونؤجل لعمل تقدير حقيقي بعد ظهور حجم العقبات التى ستخلفها الحرب بين إسرائيل وإيران على المنطقة ككل ومصر".
يشير أبو العلا إلى أثر الحرب على سعر النفط، متخوفًا من ارتفاع سعر برميل النفط ووصوله إلى 100 دولار، إذ يقترب خام برنت حاليًا من 80 دولارًا للبرميل، ما يعني أن الموازنة الحالية ستحتاج إلى إعادة حساب وفق مستجدات أسعار النفط والسلع الأساسية الأخرى التي تستوردها مصر، منها القمح والزيت والسكر.
أما النائب عبد المنعم إمام أمين سر لجنة الخطة والموازنة فرفض مشروع الموازنة، وقال "انتوا بتطالبوا بحكومة حرب، هذه الحكومة لا تصلح حكومة حرب"، مشيرًا إلى تفاقم الديون وفوائدها، وافتقار الكفاءة في إدارة الاقتصاد.
فخ الاستحقاقات الدستورية
يروج رئيس لجنة الخطة والموازنة العامة بمجلس النواب فخري الفقي لالتزام الحكومة بالنص الدستوري الذي يقرر حدًا أدنى للإنفاق على قطاعات الصحة والتعليم ما قبل الجامعي، والتعليم العالي والبحث العلمي.
قال الفقي خلال عرضه تقرير اللجنة بشأن الموازنة في الجلسة العامة الأحد "للسنة الثانية، الاستحقاقات الدستورية تحققت وتم استيفاؤها من خلال إجمالي الإنفاق المباشر وغير المباشر"، وشرح نسبة كل قطاع من الناتح الإجمالي، وقال إن إجمالي الإنفاق المباشر وغير المباشر يفوق الحد الأدنى الدستوري.
وأشار إلى أن الاعتمادات المقدرة للتعليم قبل الجامعي بلغت نحو 685 مليار جنيه بنسبة 4%، أما التعليم العالي فبلغ 358 مليار جنيه بنسبة 2.1% وهي أعلى بقيمة 0.1% من النسبة الدستورية، أما قطاع الصحة فيصل الإنفاق المباشر وغير مباشر نحو 618 مليار جنيه، 3.6% وهي نسبة أعلى من النسبة الدستورية التي تنص على 3%، بينما يخصص للبحث العلمي 173 مليار جنيه، موضحًا أن المقدر للناتج المحلي الإجمالي نحو 20.4 تريليون جنيه.
مقابل هذا الطرح، أشارت النائبة أميرة العادلي عضو المجلس عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، في مداخلتها، إلى الاختلاف بين الحساب الذي تستند إليه الحكومة في الموازنة وما صدقت عليه لجنة الخطة، موضحةً أن الحكومة تحسب حسبتها استنادًا إلى الناتج المحلي الإجمالي (المصريون والأجانب داخل مصر)، وهو أقل في العادة من الناتج القومي (المصريون في الداخل والخارج)، بينما النص الدستوري "صريح يتحدث عن الناتج القومي".
ويقيس الناتج المحلي الإجمالي قيمة السلع والخدمات التي تُنتج داخل حدود الدولة، بينما الناتج القومي الإجمالي يقيس القيمة التي ينتجها المواطنون داخل مصر وخارجها.
ودافع وزير الشؤون النيابية المستشار محمود فوزي عن ضم الإنفاق غير المباشر مع الإنفاق المباشر على القطاعات الأربعة، مشيرًا إلى نوع غير مباشر للإنفاق على الصحة من خلال الإنفاق على البيئة على جودة المياه والهواء، وقال "يا فرحتي أحقق النسب الدستورية في الصحة وأسيب الميه، ما هي هتأثر على الصحة"، مضيفًا "الإنفاق مباشر أو غير مباشر".
وسبق أن تعرضت الحكومة لانتقادات من منظمات حقوقية بسبب طريقة حسابها معدلات الإنفاق على البنود الاجتماعية، التي تتسبب في تضخيمها بصورة توحي بالالتزام بالمادة الدستورية التي تضمن حدًا أدنىً للإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمي.
انتهى ملف الموازنة العامة بالموافقة النهائية عليها، أمس الأول، لكن تبعاتها لن تنتهي، في ظل وضع محلي وإقليمي ودولي معقَّد، لتُضاف إلى سلسلة "موازنات عدم اليقين" التي عاصرتها مصر على مدار السنوات الست الماضية. في خضم توترات إقليمية متصاعدة، وتحديات اقتصادية داخلية عميقة تتجسد في ثقل الديون وخدمة الدين وضعف الإيرادات، فمتى نصل إلى بعض اليقين؟