
حماس والإخوان والأردن.. جسد الجماعة الذي مزقته أعباء السياسة
قصة العلاقة المركبة بين التنظيمين من الولادة المشتركة إلى القطيعة الأمنية
ليست هذه المرة الأولى التي تجد فيها السلطات الأردنية نفسها في مواجهة كلٍّ من جماعة الإخوان المسلمين وحركة المقاومة الإسلامية/حماس. وبطبيعة الحال ليست كذلك المرة الأولى التي يواجه فيها التنظيمان تهمَ تنظيم أعمال عدائية انطلاقًا من الأراضي الأردنية. فالعلاقة الثلاثية بين السلطات الأردنية والإخوان وحماس، تشابكت وتعقدت مع مرورها بالعديد من محطات التوتر المتكررة منذ إغلاق مكاتب حماس في عمّان عام 1999، بعد أشهر من تولِّي الملك عبد الله بن الحسين.
في السنوات اللاحقة، توالت الأزمات السياسية والاتهامات المتبادلة بين الأطراف الثلاثة، لكنها أبدًا لم تصل إلى لحظة انفجار مثل تطور اتهام خلية تابعة لحماس بالسعي لتنفيذ "مخطط تخريبي"، إلى قرار بحظر جماعة الإخوان في الأردن ومصادرة أصولها في 24 أبريل/نيسان الجاري.
فلماذا هذه المرة بالذات؟
تبدو القضية الأخيرة واحدة من حلقات المواجهات الممتدة بين الأردن والجماعة. ولكن في الوقت نفسه، لا يمكن قراءة هذه الأزمة الأخيرة، الممتدة أيضًا إلى حماس، بعيدًا عن عاملين متداخلين: أحدهما إقليمي؛ حيث تتعرض المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، لضغوط غير مسبوقة في قطاع غزة، بالتزامن مع تفكيك محور المقاومة الإقليمي، ليبرز شرط نزع سلاح المقاومة كمدخل لإنهاء الحرب، تدفع نحوه الولايات المتحدة وإسرائيل، بغطاء دبلوماسي أوروبي عربي. ليجد الأردن نفسه في قلب عاصفة إقليمية تُعيد رسم خرائط النفوذ والمواقف، فيما تتقاطع هذه الملفات مع علاقاته القديمة والمعقدة مع حماس والإخوان.
أما العامل الآخر فداخليّ؛ يتعلق بأن التصعيد الحالي آتٍ في سياق تصاعد الاحتجاجات المؤيدة لغزة منذ طوفان الأقصى، والتي لعب فيها الإخوان دورًا محوريًا في تهييج الشارع الأردني نصرة لفلسطين. أعادت هذه الاحتجاجات إحياء الجماعة التي كانت تعيش لحظة ضَعف وانقسام، فحصلت على 31 مقعدًا في البرلمان وأحرجت الملك بطرح مشروع قانون لتجريم التعامل مع إسرائيل، واشتراط مراعاة الشريعة الإسلامية في تأسيس "اللجنة الوطنية الأردنية لشؤون المرأة".
وجاءت الاستجابة الأمنية سريعة على هيئة حملة اعتقالات طالت رموز الحراك، ما رآه مراقبون محاولةً حكوميةً لكبح النفوذ الإخواني المتصاعد في الشارع الأردني، ومنع الجماعة من توظيف القضية الفلسطينية لمكاسب سياسية داخلية.
في هذا السياق المزدوج؛ الإقليمي المضغوط والداخلي المتوتر، يُعاد تشكيل العلاقة المُركَّبة بين حماس والإخوان في الأردن. فرغم أن الحركة نشأت فكريًا من رحم الجماعة؛ أفرز مسارها العسكري في فلسطين وتطورها التنظيمي الخاص مع الوقت، شبكة من التداخلات والتباينات مع إخوان الأردن.
من رحم الإخوان جاء وليدٌ مستقل
تأسست جماعة الإخوان المسلمين في الأردن عام 1945، وتسارع توسع نشاطها في الضفة الغربية بعد وحدة الضفتين عام 1950، حين أصبحت الضفة الغربية جزءًا من المملكة. هذا التوسع أدى إلى توحيد التنظيمين في هيكل واحد، ما جعل إخوان فلسطين جزءًا من جسد التنظيم الأردني.
في المقابل، تأسس في قطاع غزة، الذي كان خاضعًا للإدارة المصرية، فرع فلسطيني مستقل لجماعة الإخوان بقيادة الشيخ عمر صوان، وظل يعمل ضمن البيئة المحلية إلى أن تغيرت المعادلة بعد 1967. عندها بدأ المشروع الإسلامي الفلسطيني يتمايز، وإن ظلَّ مندمجًا أيديولوجيًا وتنظيميًا في بنية الإخوان المسلمين الأوسع.
ورغم الظروف المتقلبة؛ شارك إخوان الضفتين في مشاريع المقاومة. في أواخر الستينيات، تأسست "معسكرات الشيوخ" في الأغوار الأردنية بالتعاون مع حركة فتح، في محاولة لإطلاق تجربة جهادية منظمة. لكن في أيلول الأسود 1970 وُضعَ حدٌ لهذا النوع من النشاط العسكري. ومنذ ذلك الحين، عادت الجماعة إلى التركيز على الدعوة والتعليم والتربية، دون الانخراط المباشر في العمل المسلح داخل الأردن.
ثم في عام 1978، تأسس "تنظيم بلاد الشام"، وهو إطار إداري شمل إخوان الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان، وأنشئ داخله "قسم فلسطين" لمتابعة الشأن الفلسطيني تحديدًا. هذا الدمج، الذي شكَّل تحولًا مهمًا في جماعة الإخوان المسلمين، عكس قناعة راسخة بوحدة المعركة، ووحدة المرجعية، ووحدة المشروع الإسلامي، رغم تنوع الجغرافيا السياسية.
وظل هذا الوضع قائمًا حتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، لتعلن قيادات الجماعة في غزة في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه ولادة حركة المقاومة الإسلامية/حماس، بقيادة الشيخ أحمد ياسين، كمشروع مقاوم مستقل ينطلق من روح الإخوان، لكنه يتجاوز أدواتهم التقليدية.
أكد ميثاق حماس صراحة هذا الانتماء قبل تعديله عام 2017، إذ وصفت الحركة نفسها بأنها "أحد أجنحة الإخوان المسلمين العاملة في فلسطين". بالنسبة لإخوان الأردن، لم تكن حماس جسمًا وافدًا، بل امتداد طبيعي للحركة الأم، وتجسيد لرغبة طالما راودت الإسلاميين: مقاومة الاحتلال بالسلاح والفكرة معًا.
لكن في وثيقتها التأسيسية المعدلة عام 2017، تقدِّم حماس نفسها حركة "تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها"، دون أي ذكر لجماعة الإخوان وكياناتها الإدارية، محليًا أو عالميًا.
من وحدة الضفتين إلى وادي عربة
مع تأسيسها في خضم الانتفاضة الأولى لم تبدأ حماس من فراغ، فالحركة التي ظهرت فجأة في شوارع غزة بقوة، كانت في الحقيقة تجسيدًا متقدِّمًا لسنوات من التراكم التنظيمي والدَّعوي الذي رعته جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين والأردن معًا. في بداياتها، شكَّل الدعم اللوجستي والبشري والمالي من إخوان الأردن رافعةً أساسيةً لحماس، ليس فقط عبر التبرعات، بل من خلال شبكة العلاقات والنقابات والجمعيات التي وفّرت بيئة آمنة للحركة الناشئة.
في تلك المرحلة، لم يكن هناك تمايز كبير بين الإخوان في الأردن وفلسطين؛ فالمشروع كان واحدًا، والرؤية موحّدة، والأدبيات مشتركة. أما الدولة الأردنية فأمكست العصا من المنتصف. سمحت ضمنيًا بنشاط سياسي وإعلامي محدود لحماس انطلاقًا من عمّان، دون أن تعلن ذلك صراحة. هذا الانفتاح الجزئي لم يكن ناتجًا عن قناعة سياسية بالحركة، بل عن موازنة دقيقة: الأردن، وحتى إعلان فك الارتباط عام 1988، لم يكن معترفًا بعد بمنظمة التحرير الفلسطينية، وظلَّ طامحًا إلى الحفاظ على أوراق نفوذ في الداخل الفلسطيني، بما في ذلك الورقة الإسلامية.
لكن مع دخول الأردن رسميًا في منظومة التسوية بتوقيع معاهدة وادي عربة عام 1994، فُرضت عليه التزامات أمنية ودبلوماسية جديدة تجاه "إسرائيل" والولايات المتحدة. ليتغيّر تدريجيًا الواقع الذي ظل يحكم علاقة السلطات بالإخوان وحماس.
رفضت حماس اتفاق أوسلو رفضًا قاطعًا واعتبرته تفريطًا بالقضية، وهو موقف تبنّاه أيضًا إخوان الأردن. كلا الطرفين اعتبر أن اتفاقيات التسوية، من كامب ديفيد إلى وادي عربة، تشرعن الاحتلال وتفرّط بالثوابت. هذا الرفض المشترك عزَّز التقارب بين حماس والإخوان، وخَلَق حالة تعبئة داخل الأردن لمعارضة السياسات الرسمية. لكن رغم التوافق الظاهري، بدأت تتسلل بوادر التباين في الأساليب.
جاءت أولى الإشارات العلنية لهذا التحول عام 1995؛ حين طلبت السلطات الأردنية من موسى أبو مرزوق، رئيس المكتب السياسي لحماس آنذاك، مغادرة البلاد. أصبح الأردن الآن، كدولة، أكثر حذرًا من استضافة نشاط سياسي معادٍ لعملية السلام. وحسب روايات موثقة؛ تلقى أبو مرزوق اتصالًا من رئيس الوزراء يبلغه فيه بأن وجوده "أصبح عبئًا"، نتيجة ضغوط أمريكية وإسرائيلية مباشرة.
خرج أبو مرزوق من عمَّان إلى الولايات المتحدة، حيث اعتُقل لاحقًا، في واحدة من أولى المواجهات بين حماس والنظام الأردني. كانت هذه الحادثة مؤشرًا مبكرًا على أن "هامش التسامح" الذي حظيت به حماس في الأردن بدأ يتقلص.
ترياق إسرائيلي مؤقت
لكن في 25 سبتمبر/أيلول 1997، وقع ما غيَّر كل المعادلات: محاولة اغتيال فاشلة لخالد مشعل نفذها جهاز الموساد الإسرائيلي في قلب عمّان، عبْر مادة سامة. الحادثة التي بدت كفصل من رواية تجسس، تحولت إلى أزمة دبلوماسية وأمنية غير مسبوقة.
أصيب مشعل بغيبوبة، وانفجر الرأي العام الأردني غضبًا. الملك حسين، الذي اعتَبَر العملية خرقًا لسيادة بلاده، تحرَّك بسرعة وفرَض على إسرائيل شروطًا قاسية لإطلاق عملاء الموساد المحتجزين: تسليم الترياق الذي ينقذ حياة مشعل، والإفراج عن الشيخ أحمد ياسين من السجون الإسرائيلية.
رضخت إسرائيل وتمت الصفقة. شُفي مشعل، وأُفرج عن الشيخ ياسين، ليُستقبل في عمّان استقبال الأبطال.
خرجت حماس من هذه الأزمة بنصر معنوي ساحق، وأُعيد الاعتبار لشرعيتها في الشارع العربي، وبدا الملك حسين داخليًا وكأنه "حمى المقاومة"؛ على نحو رمزي.
لكن داخل أروقة الدولة، بدأ يُعاد النظر بهدوء في هذه العلاقة. فالمخابرات الأردنية بدأت تشعر أن نشاط حماس في عمّان لم يعد مجرد تمثيل سياسي، بل قاعدة حقيقية للتنظيم والتمويل والتعبئة.
الجماعة لا تفك الارتباط
رغم التباينات السياسية والتوتر مع الدولة، ظل الرابط العقائدي بين حماس وإخوان الأردن، بعد تأسيس الحركة الفلسطينية وإعلان فك ارتباط شرق الأردن بغربه، حاضرًا بقوة. الخلاف بينهما لم يكن على المبادئ، بل على موقع كل طرف في المشهد السياسي الأردني.
فالمرجعية الفكرية واحدة: الإسلام الشامل كما طرحه حسن البنا، حيث تلتقي الدعوة إلى تحكيم الشريعة مع رفض العلمانية، والسعي إلى إقامة دولة إسلامية، حتى وإن كان ذلك عبر خطوات إصلاحية ومشاركة سياسية.
حماس من جهتها، لم تُخفِ يومًا انتماءها لهذا المشروع، ووصفت نفسها صراحة بأنها "إخوانية الهوى والغاية". أما الإخوان في الأردن، فطالما اعتبروا حماس جناحهم المقاوم في فلسطين، وامتدادًا طبيعيًا لرسالتهم الدعوية والسياسية. لم تنفصل الحركة منذ تأسيسها عن الجماعة الأردنية؛ بل استمرت العلاقات على أكثر من مستوى: تنسيق تنظيمي، تبادل كوادر، اجتماعات غير معلنة، وجمعيات خيرية تابعة للإخوان تدعم أنشطة حماس في غزة تحت غطاء العمل الإغاثي.
لم تكن العلاقة بين الطرفين مجرد تنسيق، بل امتزاج فعلي؛ شخصيات مثل خالد مشعل وعزّت الرشق وإبراهيم غوشة وسامي خاطر بدأوا في إخوان الأردن قبل التحاقهم بحماس، وظلت روابطهم الشخصية والفكرية قائمة.
الخطاب أيضًا كان مشتركًا إلى حد بعيد، كلا الطرفين يرى فلسطين قضية مركزية في مشروع الأمة الإسلامية، ويتبنيان شعارات متقاربة، رغم اختلاف السياقات والأدوات.
ورغم الطابع العقائدي، أبدى الطرفان مرونة سياسية لافتة؛ الإخوان شاركوا في البرلمان الأردني، وحماس دخلت الانتخابات الفلسطينية وحكمت غزة لاحقًا. كل ذلك دون التخلّي عن الثوابت الفكرية.
بين أواخر الثمانينيات وحتى 1999، كان التنسيق في أوجّه: جمع التبرعات، تنظيم تحركات سياسية مثل جولات أحمد ياسين، وحتى حملات دعم معنوي في قضايا تخص الإخوان داخل الأردن. علاقة لم تكن معلنة دومًا، لكنها كانت حيوية ووثيقة.
القطيعة الكبرى
في فبراير/شباط 1999، توفي الملك حسين، واعتلى العرش الملك عبد الله الثاني. وفي أغسطس/آب من العام نفسه، استغلت السلطات سفر قادة حماس إلى طهران، فداهمت مكاتب الحركة في عمّان، واعتقلت 16 من كوادرها، وأغلقتها بالكامل، وأعلنت حماس تنظيمًا محظورًا.
وعندما عاد خالد مشعل وإبراهيم غوشة إلى الأردن في سبتمبر، اعتُقلا فور وصولهما، قبل أن يُفرج عنهما ويُرحَّلا إلى قطر، برفقة عزّت الرشق وسامي خاطر.
بررت الحكومة هذه الخطوة بأن الوثائق التي ضُبطت في مكاتب حماس كشفت عن أنشطة تتجاوز "التمثيل السياسي"، لتمتد إلى التجنيد، وتخزين المعدات، واستخدام جوازات سفر مزورة. وصرّح رئيس الوزراء عبد الرؤوف الروابدة، وكان للمفارقة قياديًا إخوانيًا في مطلع حياته، بأن نشاط حماس خرج عن السيطرة، بل إن الجماعة الأم، أي الإخوان، لم تعد قادرة على احتوائه.
وهكذا، طُويت صفحة الوجود العلني لحماس في الأردن، ودخلت علاقتها الرسمية به في مرحلة قطيعة طويلة، امتدت لأكثر من عقد.
لكن في العام التالي اندلعت انتفاضة الأقصى، لتعود حماس إلى صدارة المشهد الفلسطيني، حيث برزت كقوة مقاومة فاعلة، وارتفعت شعبيتها في العالم العربي بشكل لافت. هذه الشعبية انعكست تلقائيًا داخل الأردن، خاصة بين قواعد الإخوان، التي نظرت إلى ما تقوم به حماس في غزة والضفة الغربية باعتباره امتدادًا طبيعيًا لمشروعها الفكري والتاريخي.
لكن هذا الزخم الشعبي لم يترافق مع أي تمثيل تنظيمي؛ تمسكت الدولة الأردنية بقرار الحظر الصارم، ومنعت أي نشاط سياسي أو إعلامي علني للحركة. حتى عندما فازت حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006، بأغلبية جعلتها القوة السياسية الأولى في فلسطين، لم تغيّر عمّان موقفها.
من أين نطلق النار؟
رغم التوافق الفكري العميق والتشابك التنظيمي الطويل بين حماس وإخوان الأردن، لم تخلُ العلاقة من توترات وخلافات بدأت بشكل متقطع في التسعينيات. بقي بعضها داخل الغرف المغلقة، وبعضها خرج إلى العلن في لحظات حرجة. لكن بعد أزمة 1999، تحوّلت هذه الخلافات تدريجيًا إلى خطوط تصدع أكثر وضوحًا.
الفرق الأبرز بين الطرفين يكمن في البنية الوظيفية لكل منهما؛ حماس حركة مقاومة مسلحة، أما إخوان الأردن فتنظيم سياسي دعوي لا يؤمن باستخدام العنف داخل المملكة، ويعمل تحت مظلة القانون. ظهر هذا التباين حين بدأت حماس تنفيذ عمليات فدائية ضد الاحتلال في التسعينيات، بينما كان الإخوان في الأردن يواجهون حسابات دقيقة تتعلق بالمشاركة السياسية ومراعاة حساسية الأردن تجاه أي نشاط مسلح.
بعض القيادات الإخوانية الأردنية رأت أن استمرار حماس في العمل العسكري قد ينعكس سلبًا على الجماعة داخل الأردن، خاصة إذا اتُّهمت بأنها توفر غطاءً سياسيًا لتنظيم يتحرك ضد دول الجوار. بل تفيد تقارير بأن نقاشات ساخنة جرت في نهاية التسعينيات داخل صفوف حماس والإخوان على حد سواء، حيث دعت قيادة الداخل في غزة والضفة الغربية إلى تهدئة العمل العسكري، بينما تمسّكت قيادة الخارج في عمّان، ومنها خالد مشعل وموسى أبو مرزوق وإبراهيم غوشة، بخيار استمرار المقاومة.
كان هذا الخلاف بمثابة مقدمة لموقف الدولة الأردنية لاحقًا وهي تغلق مكاتب حماس، معتبرة أن الحركة تجاوزت قواعد اللعبة وبدأت تنفذ أجندة لا يمكن التغطية عليها.
فمنذ احتضان الأردن لقيادة حماس في التسعينيات، كان هناك تفاهم غير مكتوب بأن لا تُستخدم الأراضي الأردنية نقطة انطلاق لعمليات عسكرية، أو مقرًا لتخطيط نشاط أمني. لكن الأجهزة الأمنية الأردنية بدأت تشك في التزام حماس بهذه التفاهمات.
في عام 1999، وبعد اقتحام مقرات الحركة في عمّان، أعلنت الحكومة أنها وجدت وثائق تشير إلى تدريب عسكري، وتخزين معدات، وتجنيد أنصار في المخيمات والجامعات، واستخدام جوازات سفر مزورة.
ورغم أن الإخوان الأردنيين حاولوا احتواء الأزمة، فإن كثيرًا من قادتهم عبّروا عن إحباطهم العميق من تصرفات حماس؛ فصحيفة Jordan Times نقلت عن قيادي إسلامي قوله إن كثيرًا من الإخوان "شعروا أن حماس خدعتهم، لقد تفاوضوا لصالحها، وضمنوا سلوكها، لكنها تجاوزت الخطوط". والنائب البرلماني الأردني أسامة ملكاوي صرّح علنًا بأن "قيادة حماس طُلب منها مرارًا أن تلتزم الصمت في الأردن، لكنها لم تفعل، وتجاوزت بذلك أعراف الضيافة".
زكي بني أرشيد، الأمين العام السابق لجبهة العمل الإسلامي، كشف أيضًا أن جهاز المخابرات الأردني استثمر هذا الخلاف، بل إن بعض قيادات الإخوان حينها طالبوا حماس صراحة بمغادرة عمان، وأعادوا النظر، للمرة الأولى، في جدوى التمسك بخط المقاومة كمسار أوحد.
كانت هذه لحظة فارقة؛ إذ بدا أن الجماعة تتبرأ، ضمنيًا، من سلوك حماس لحماية نفسها من العواقب القانونية والسياسية. وقد يكون هذا الموقف أول تعبير علني عن تصدع الثقة بين الطرفين.
ربيع الإخوان وخريفهم
ظلت الأمور على ما هي عليه حتى جاء الربيع العربي صاعدًا بجماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر قبل أن يسقط بها لاحقًا. شكَّل هذا الحدث زلزالًا هزّ البنية السياسية للجماعات الإسلامية في المنطقة، بما فيها الأردن.
قبل سقوط الإخوان في مصر؛ كُسر الجليد بين الأردن وحماس عام 2012 بوساطة قطرية، ليزور خالد مشعل عمّان ويلتقي الملك عبد الله رسميًا لأول مرة منذ إبعاده. كانت الزيارة بروتوكولية ومحدودة في أبعادها السياسية، لكنها حملت إشارات رمزية إلى استعداد أردني لفتح قناة اتصال مقننة مع الحركة، خاصة مع تصاعد دورها في غزة وتراجع نفوذ السلطة الفلسطينية.
ورغم ذلك، ظلت الحكومة الأردنية تعتبر الحركة غير مرغوب بها تنظيميًا داخل المملكة، وظلَّت حريصة على التأكيد أن اللقاءات التي تُعقد مع قيادات الحركة لا تعني بأي حال اعترافًا سياسيًا بها أو قبولًا بوجودها الرسمي داخل الأردن.
أمام هذا المشهد، اتخذت الحكومة الأردنية سلسلة من الإجراءات لإعادة تشكيل العلاقة مع التيارات الإسلامية، بدأت بحل جماعة الإخوان المسلمين قانونيًا عام 2016، ثم السماح لها بإشهار "جمعية الإخوان المسلمين" كمظلة قانونية جديدة يقودها المراقب العام الأسبق عبد المجيد الذنيبات.
هذه التحولات لم تكن بعيدة عن تداعيات العلاقة السابقة مع حماس. إذ رأت الدولة أن استمرار تشابك الإخوان مع الحركة، فكريًا وتنظيميًا، يشكِّل تهديدًا لاستقرارها الداخلي، خاصة في ظل تغير التوازنات الإقليمية وصعود محور الاعتدال العربي، الذي يتبنى مواقف معادية للجماعة وللإسلام السياسي بشكل عام.
مع إغلاق مكاتب حماس في عمّان، ساد الجمود الرسمي في العلاقة مع الأردن. لكن هذه القطيعة الرسمية لم تُنهِ بالكامل قنوات التواصل مع حماس التي استمرت عبر بعض الشخصيات السياسية والعشائرية الأردنية، التي لعبت أدوارًا غير معلنة في تسهيل الاتصالات والوساطات. كما يذكر إبراهيم غوشة، المتحدث السابق باسم الحركة.
شعبيًا، ظلّت حماس تحظى بتأييد واسع في مدن مثل الزرقاء وإربد ومخيم البقعة، لكن هذا التأييد لم يتحول إلى نفوذ سياسي فعلي بسبب القيود الأمنية وتراجع تأثير الإخوان داخل الأردن.
صقور وحمائم
منذ التسعينيات، بدأت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن إعادة تعريف خطابها السياسي والاجتماعي بما يتناسب مع خصوصية الدولة الأردنية، من خلال التركيز على الإصلاح السياسي والعمل البرلماني والنقابي. ويُلاحظ هذا التحول في اعتبار الجماعة نفسها "تيارًا إصلاحيًا وطنيًا، يوازن بين الأجندة الداخلية والدعم غير المشروط للقضية الفلسطينية".
منحت العلاقة مع حماس إخوان الأردن زخمًا شعبيًا لكنها حملت معها أيضًا كلفة سياسية وتنظيمية باهظة
في المقابل، واصلت حماس العمل وفق منظور يتجاوز الجغرافيا، ويعتمد خطابًا أمميًا يرى في فلسطين بوصلة للصراع الإسلامي-الصهيوني، وفي المقاومة المسلحة أداة شرعية للتغيير.
هذا التباين في الأولويات أفرز تباينًا في الخطاب الداخلي في الجماعة. فمع تصاعد حضور قيادات من أصول فلسطينية داخل الجماعة، ازداد النفوذ العاطفي لحماس، فعُرف هذا التيار بـ"جناح الصقور"، بينما عبّرت قيادات شرق-أردنية عن تخوفها من ضياع الهوية الوطنية للجماعة وتحولها إلى منصة لحماس أكثر منها إطارًا سياسيًا أردنيًا، ومثَّل هؤلاء "جناح الحمائم". خرجت هذه الخلافات إلى العلن بين عامي 2013 و2016؛ عبر سلسلة من الانشقاقات التنظيمية.
كلفة الكلام مع حماس
منحت العلاقة مع حماس إخوان الأردن زخمًا شعبيًا، خصوصًا خلال الانتفاضتين، لكنها جاءت بكلفة سياسية وتنظيمية باهظة، ووضعت الجماعة في مواجهة ضغوط أمنية متزايدة، وتصدعات داخلية لم تهدأ حتى اليوم.
في التسعينيات، بدت حماس بالنسبة للإخوان عنوانًا للمقاومة، ورافعة رمزية عززت من حضورهم الشعبي، لا سيما في أوساط الأردنيين من أصول فلسطينية. كان الاحتفاء الشعبي بخطابات مشعل وياسين انعكاسًا لحالة احتضان عاطفي تجاوزت التنظيم إلى المزاج العام.
لكن هذا الارتباط لم يمر مرور الكرام على الدولة. بعد أزمة 1999، التزمت الجماعة الصمت، وهو ما اعتبرته قواعدها خذلانًا، وعدّته حماس تراجعًا مؤلمًا عن التضامن. ومنذ تلك اللحظة، بدأت العلاقة تنزلق من شراكة عضوية إلى تضامن رمزي محدود.
تحت ضغط السلطة، لم يكن أمام الإخوان سوى التوازن الصعب: التمسك بالخطاب العقائدي، دون الاصطدام المباشر بالدولة. لكن هذا التوازن خلق انقسامات داخلية بين تيار يرى أن الولاء لحماس جزء من الثوابت، وآخر يدعو إلى التركيز على الداخل وفك أي ارتباط خارجي.
هكذا تحوّلت العلاقة مع حماس من مصدر فخر إلى نقطة خلاف. فقد منحت الجماعة شرعية رمزية، لكنها فتحت أيضًا بابًا واسعًا للشكوك والانقسامات، في وقت يضيق فيه هامش العمل السياسي، ويزداد فيه بحث الشارع عن بدائل أكثر واقعية.
هل ارتفعت بنادق حماس؟
في السنوات الأخيرة، عادت الشكوك حول وجود نشاط عسكري لحماس داخل الأردن إلى الواجهة، بالتزامن مع تصاعد التوترات الإقليمية واستمرار المواجهة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي. هذه الشكوك لم تأتِ من فراغ، بل استندت إلى ملفات أمنية شائكة وتطورات ميدانية أثارت قلقًا واضحًا لدى الجهات الرسمية الأردنية.
الموقف الذي يجمع بين النفي الرسمي والتفهم الضمني يعكس ما يمكن تسميته بسياسة الإنكار المسؤول
أحدثُ تلك الملفات كان إعلان تفكيك الخلية الإخوانية الذي شكَّل مقدمة قرار حظر الجماعة. وُجّهت للخلية اتهامات تتعلق بـ"المساس بالأمن الوطني، وإثارة الفوضى، والتخريب داخل المملكة". التهم شملت تصنيع صواريخ محلية الصنع، واستيراد مكونات من الخارج، وحيازة متفجرات، وتخزين صاروخ جاهز للإطلاق، بالإضافة إلى مشروع متكامل لصناعة طائرات مسيّرة.
ليست هذه الحالة الوحيدة فقد سبَق أن وجه الأردن تهمًا مشابهة لعناصر محسوبة على حماس. لكن رغم تعدد هذه الحوادث؛ لا توجد حتى الآن دلائل تثبت تأسيس حماس لفرع عسكري منظم داخل الأردن، على غرار كتائب القسام في غزة، أو النواة التي تشكّلت لاحقًا في جنوب لبنان. كما لم تُسجل أي عملية عسكرية انطلقت من الأراضي الأردنية ضد إسرائيل أو غيرها، حتى في ذروة التصعيد في غزة أو لبنان.
تواصلتُ مع مصادر متعددة في حماس، إلى جانب كوادر من الصف الأول لإخوان الأردن. وتطابقت رواياتهم على أن الحركة لم تُنشئ جناحًا عسكريًا داخل المملكة، احترامًا لتفاهمات سابقة مع الدولة بعدم الزج بالأراضي الأردنية في أي عمل مقاوم. إلا أن تلك المصادر لم تنفِ وجود محاولات فردية، قام بها بعض شباب متحمس من بيئة الإخوان، للمساهمة في تهريب أسلحة إلى الضفة الغربية، في مرحلة كانت تُدار فيها العمليات من قِبل صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، والذي اغتيل في ضاحية بيروت الجنوبية مطلع عام 2024.
لكن في الجهة المقابلة، تشير تقارير أمنية وتسريبات صحفية إلى أن النشاط العسكري "غير المنظّم" كان حاضرًا على شكل خلايا صغيرة لتجنيد عناصر أو تسهيل تهريب سلاح إلى الأراضي الفلسطينية. وغالبًا ما وُجّهت أصابع الاتهام إلى العاروري، الذي كان يقيم في لبنان بعد مغادرته تركيا، وتحديدًا في معقل حزب الله، حيث تزايد الحديث عن دوره في تجنيد خلايا داخل الأردن لخدمة أهداف لوجستية أو أمنية. لكن العاروري نفى أي علاقة له بنشاط عسكري في الأردن.
لكن بعد أحداث 2023 و2024، أشارت تقارير استخبارية جديدة إلى أن العاروري ربما كان يدير عملية تجنيد محدودة من خلف الستار، مستهدفًا شبابًا من أوساط الإخوان داخل الأردن، دون علم أو تفويض رسمي من الجماعة الأم.
في مواجهة هذه الاتهامات، سارعت حماس إلى نفي أي صلة لها بتلك الخلايا، وأكدت أن "الأردن بلد نحترمه ولا نتدخل في شؤونه، ونحصر عملنا العسكري في مواجهة الاحتلال فقط". ومع نفيها أي نشاط مسلح على الأراضي الأردنية، فإنها لم تنكر أن بعض العناصر قد تتصرف بدوافع فردية أو حماسية، خاصة في ظل ما يجري من اعتداءات على غزة والضفة.
هذا الموقف، الذي يجمع بين النفي الرسمي والتفهم الضمني، يعكس ما يمكن تسميته بـ"سياسة الإنكار المسؤول"، حيث تترك الحركة الباب مواربًا بين التنصل الكامل وتحميل المسؤولية للفعل الفردي.
أما الدولة الأردنية، فاتبعت سياسة أكثر هدوءًا لكنها لا تقل حزمًا. فقد تجنّبت التصعيد الإعلامي المباشر مع حماس، لكنها في الوقت ذاته لم تتردد في تنفيذ ضربات استباقية ضد أي خلية يُشتبه بارتباطها بالحركة، خاصة في المخيمات والمناطق ذات الكثافة الفلسطينية.
وفي أكثر من مناسبة، شدّد مسؤولون أمنيون على أن المملكة لن تسمح بتحويل أراضيها إلى ساحة لصراعات إقليمية، مهما كانت دوافعها أو شعاراتها، وأن استقرار الأردن وسيادته خط أحمر لا يمكن تجاوزه.
تلك المعادلة الدقيقة سمحت للأردن بالحفاظ على توازنه: لا خصومة معلنة مع حماس، ولا تهاون في ملف الأمن. توازن هش لكنه، حتى اللحظة، ما زال قائمًا.
صوت الفلسطيني
لم تكن العلاقة بين حركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين في الأردن مجرد تقاطع تنظيمي أو امتداد فكري، بل كانت انعكاسًا أوسع لتاريخ طويل من التداخل بين الهوية الوطنية الأردنية والامتداد الفلسطيني المقاوم.
فمنذ إغلاق مكاتب حماس في عمّان عام 1999، ظلّت الدولة الأردنية تتعامل مع الحركة بوصفها "خارج السياق المقبول"، بينما بقيت الجماعة في الداخل تسير فوق حبل مشدود بين الولاء للدولة والانتماء لمشروع المقاومة.
لكن الأعمق من ذلك كله، أن الفلسطيني في الأردن، سواء كان منخرطًا في العمل السياسي أو مكتفيًا بالمشاهدة، لم يكن يومًا كيانًا منفصلًا عن قضيته الأم. هو ليس مجرد لاجئ يقيم في دولة مضيفة، بل ابن قضية، وامتداد حيّ لجغرافيا نُزعت قسرًا. بنيت على أساس وجوده تركيبة سكانية، ومزاج سياسي، ومعادلات أمنية ما زالت تُدار بحساسية بالغة.
وفي كل مرة يُوصف فيها النشاط الفلسطيني داخل الأردن بالإرهاب أو التحريض، نجد أنفسنا أمام إعادة إنتاج لخطاب أمني، لا يُمكن فصله عن النَفَس الصهيوني، يُعاد تمريره بأدوات محلية، لتفريغ الهوية الفلسطينية من بُعدها السياسي والمقاوم.
يتفاقم هذا التناقض حين نُقارن بين صمت الخطاب الرسمي تجاه الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، رغم أنه تحت الوصاية الهاشمية، والحملات الأمنية الشرسة التي تطال من يخرج في مظاهرة أو يكتب بوستًا غاضبًا على السوشيال ميديا.
في النهاية، السؤال لا يخص حماس وحدها، بل يمتد إلى الفلسطيني الأردني المقهور والمحاصر في تعبيره، والمطلوب منه في الوقت ذاته أن يراقب، بصمت، كيف تُشحن المواد الغذائية من مواني بلده إلى آلة الحرب التي تفتك بأهله في غزة، بينما يُمنع هو من رفع صوته.
إنه ليس فقط يعاني من تبعات لجوء مزمن، بل من اغتراب سياسي يُراد له أن يكون دائمًا: خارج النقاش، وخارج القرار، وخارج الغضب.