ليس جديدًا أن تُطلق على العمليات الحربية أسماء تحمل صورًا مجازية، تنطوي بطبيعتها على مبالغات غرضها شحذ معنويات المقاتلين والحط من معنويات العدو. لكن هذا لا يعني أبدًا أنها لا تخلو من "دلالة" وتؤدي "وظيفة"، وربما ترسم في جانب منها معالم الأهداف العامة للحرب، وهي مسألة اعتادها الناس منذ فَجر التاريخ في المعارك العسكرية.
ومنذ تولي حركة المقاومة الإسلامية حماس مسؤولية إدارة قطاع غزة شنت إسرائيل عدة حروب على القطاع، أعطتها أسماء مجازية، ردت عليها المقاومة بمجازات مضادة. فالمعركة التي شنتها إسرائيل في 27 ديسمبر/كانون الأول 2008 واستمرت 23 يومًا، أسمتها إسرائيل الرصاص المصبوب فردَّت المقاومة بمعركة الفرقان.
وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 شنت إسرائيل حربًا لثمانية أيام أسمتها عامود السحاب بينما أسمتها المقاومة حجارة السجيل. وفي 7 يوليو/تموز 2014 أطلقت إسرائيل حربًا جديدة استغرقت 51 يومًا، أسمتها الجرف الصامد، وردت عليها المقاومة بتسمية مضادة هي العصف المأكول.
وإثر عملية نوعية لاغتيال أحد قادة الجهاد الإسلامي في 12 نوفمبر 2019 لم تسمِّها إسرائيل، رد التنظيم بعملية أطلق عليها معركة صيحة الفجر. وفي عام 2021 شنت إسرائيل حربًا أسمتها حارس الأسوار وردت المقاومة عليها بسيف القدس.
وفي 5 أغسطس/آب 2022 اغتالت إسرائيل قائد المنطقة الشمالية لسرايا القدس في غزة في عملية الفَجر الصادق، ردت حركة الجهاد عليها بعملية وحدة الساحات. وأطلقت المقاومة الفلسطينية على العملية التي أطلقتها في السابع من أكتوبر اسم "طوفان الأقصى"، بينما أسمت إسرائيل عمليتها "السيوف الحديدية".
ويحمل اسم "طوفان الأقصى"، كغيره من المجازات العسكرية التي ترد في هذا السياق، دلالات كثيرة قصدتها المقاومة، توارت غالبيتها مع تصاعد حدة الإبادة التي تمارسها إسرائيل في القطاع ردًا على إحدى أكبر هزائمها، ولكنها على الأغلب ستعود إلى الواجهة فيما بعد، عندما تصبح أحداث اليوم ماضيًا ينظر إليه دارسو التاريخ.
دلالات الطوفان في المخيلة
يستعير إطلاق اسم "الطوفان" على عملية عسكرية ما له من صور وخصائص وسمات في الأذهان والنفوس. والطوفان في معجم المعاني الجامع هو "فيضانٌ عظيم، سَيلٌ مُغرِقٌ، ماءٌ غالبٌ يغشى كل شيء". واصطلح إطلاقه على أي حادث يحيط بالإنسان ويكون غالبًا كثيرًا متتابعًا، وهو "الموت الجارف" في قاموس الكل.
وللطوفان أيضًا دلالات دينية؛ إذ ورد ذكره في كتب الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية، وأيضًا في الروايات والسرديات والأفكار التي دُوِّنت في كتب كثيرة حول القرآن والإنجيل والتوراة. ولذا فإن إطلاق اسم "الطوفان" على عملية عسكرية، يستنهض صورته الثقافية المتداولة لدى اليهود، وفي الوقت نفسه يرسل رسالة إلى مسلمي فلسطين ومسيحييها، بأنهم أمام عمل عسكري كاسح.
وبالإضافة إلى الدلالات الدينية، فإن استعمال كلمة طوفان يصف أيضًا قدرة المقاومة على تخطي الأسوار التي تفصل قطاع غزة عن غلافها حيث المستوطنات الإسرائيلية، وصولًا إلى البلدات القريبة مثل عسقلان، ما عكسه استعمال الطائرات الشراعية التي رأى الناس مقاومين مسلحين يمتطونها، ويقومون بعملية إنزال داخل الغلاف، ثم تبع ذلك إحداث خروق في الجدران العازلة، تدفق منها مقاتلون، وكثير من أهل غزة المدنيين حين تنبهوا للمسارات المفتوحة.
وربما يعبر "الطوفان" أيضًا عن شعور المقاومة بفائض القوة التي تراكمت لديها، بعد أن استعدت لمعركة رأتها "حاسمة" أو تمثل "نقطة تحول" في الصراع برمته. فالمقاومة راكمت ترسانة مسلحة من الصواريخ، ودرَّبت المقاومين وصقلت مهارتهم الحربية، وأسست بنية تحتية قتالية قوية، وامتلكت طاقة معتبرة على النيل من الجيش الإسرائيلي. وربما قدَّر قادة الجناح العسكري أن إهدار لحظة الشعور بالوصول إلى الذروة دون توصيفها قد يؤدي إلى تراجع تأثيرها في عزم المقاومة على القيام بالعمل الكبير الذي يهز أركان إسرائيل.
وعندما أتبعت المقاومة كلمة "الطوفان" بكلمة "الأقصى"، أضفت على عمليتها طابعًا عاطفيًا أو وجدانيًا، لما للمسجد الأقصى من مكانة في نفوس المسلمين؛ المخزن الشعبي الرئيسي الذي يعتمد عليه الفلسطينيون في المساندة، مثلما اعتادوا منذ بداية الصراع.
حين تضع الحرب أوزارها سيتوارى على الأرجح مجاز السيوف الحديدية لتعود مجازية الطوفان إلى التوهج
لكن ما جاء عقب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، فاجأ المقاومة نفسها، فأدركت أن مخزنها هذا قد ساح في الأرض، ليشمل أناسًا ينتمون إلى ديانات وعقائد وثقافات مختلفة، وأن كثيرين يقاربون الحرب من زوايا غير دينية، ويتعاملون معها على أنها نزال غير متكافئ بين جيش احتلال نظامي ومقاومة مسلحة، في فصل من فصول كفاح الشعوب المحتلة في سبيل تقرير مصيرها.
واستعمال كلمة "الأقصى" هنا يأتي معطوفًا على اسم العملية السابقة؛ "سيف القدس"، التي انطلقت حين بدأ مستوطنون محاولة إخراج أهل حي الشيخ جراح بالمدينة المقدسة من بيوتهم ومحالهم. لكن الأمر هذا المرة ضاق عن المدينة برمتها، ليُحصر في "الأقصى"، ما دفع الناطق باسم القسام إلى توضيح هذا حين ربط انطلاق العملية بقرب موعد قيام اليهود بذبح بقرات حمر جلبوها من الخارج، إيفاء بوعد ديني، يتبعه بعد الذبح هدم المسجد، وإقامة هيكل سليمان مكانه.
كما قصدت المقاومة بإطلاق اسم "الطوفان" على عمليتها أن تصف، وفق إدراكها، عملية شاملة، تراها بداية تحرير فلسطين، حسبما صور الناطق باسم "كتائب القسّام"، الجناح العسكري لحركة حماس، أبو عبيدة، حيث وصف العملية بأنها "تُمثّل بداية النهاية لأقدم احتلال بالتاريخ الحديث، وستكون نقطةً فاصلة في تاريخ أمتنا".
نصر خاطف أم سيوف مؤقتة؟
لكن الطوفان الذي صور الساعات الأولى للمعركة، إثر هجوم المقاومة المباغت على الجيش الإسرائيلي الذي عدَّه بعض المحللين وقتها بأنه "نصر خاطف"، لم يلبث أن انحسر، لتبرز الحدود والأنصال اللامعة لـ"السيوف الحديدية" الإسرائيلية، عبر القصف الجوي والبري والبحري لقطاع غزة، ثم اجتياحه برًا له من عدة محاور.
من أجل هذا توارت عبارة طوفان الأقصى تدريجيًا في الخطاب السياسي للمقاومة، بجناحيها السياسي والعسكري، لتحل محلها عبارات "العدوان على غزة" أو "الحرب على غزة" أو "الإبادة الجماعية في غزة"، وهي العبارات التي تبنّتها أيضًا وسائل الإعلام المناصرة للفلسطينيين أو المتعاطفة مع قضيتهم أو حتى المحايدة في تغطية النزاع. أما الإعلام الإسرائيلي؛ فكان طبيعيًا ألَّا يردد مجازات المقاومة، ويركز على الرد، ومحاولة استعادة توازن الردع الذي أخلّت به عملية السابع من أكتوبر وتركت فيه جرحًا غائرًا.
لكن حين تضع الحرب أوزارها، سيتوارى على الأرجح مجاز "السيوف الحديدية"، لا سيما أنه يبدو تعبيرًا عاديًا في ضوء توازنات القوة العسكرية بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية المسلحة، وستعود مجازية الطوفان لتتوهج في الأدبيات التي تحلل وتؤرخ لهذه الحرب مستقبلًا، عطفًا على الأثر العميق الذي تركته في "دولة إسرائيل"، وهي مسألة لا ينكرها المؤرخون والمحللون والخبراء العسكريون الإسرائيليون أنفسهم.
سيُقال فيما بعد إن "الطوفان" تجاوز مجازه وصار حقيقة تعبر عن درجة عالية من الثقة بالنفس بلغتها المقاومة الفلسطينية، ودرجة عالية من التأثير السلبي لهذه الحرب على وظيفة إسرائيل كرأس حربة لمشروع هيمنة غربي، وفي قدرتها على الردع، وتعودها الحرب خارج أرضها، وافتقادها ميزة كونها المكان الآمن لليهود من مختلف أنحاء العالم.