في الذكرى السادسة والسبعين للنكبة هذا العام، نشر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني تقريرًا استعرض فيه أوضاع الفلسطينيين منذ قبل النكبة بعشر سنوات مع عمليات التطهير العرقي للسكان الأصليين، بدءًا من التهجير والاحتلال وليس انتهاءً بالقتل المتعمد، وأوضاع اللاجئين داخل وخارج الأراضي الفلسطينية، ما حدا بالفلسطينيين إلى مضاعفة تعدادهم إلى عشرة أضعاف لإبقاء قضيتهم حيَّةً.
وفق التقرير، يبلغ عدد الفلسطينيين 14.63 مليون نسمة، يعيش 5.55 مليون نسمة منهم على 15% من مساحة فلسطين التاريخية فيما بقي من الضفة الغربية وقطاع غزة، و1.75 مليون من فلسطينيي الـ48/الخط الأخضر.
ويعد قطاع غزة من أكثر أماكن العالم اكتظاظًا بالسكان، بسبب وجود مئات آلاف اللاجئين فيه يشكّلون 66% من إجمالي سكانه. لذلك، فإنه يشهد أحد أعلى معدلات الفقر في العالم (53%)، فيما يعاني 47% من سكانه من البطالة.
صورة نمطية وواقع مغاير
سيّج الاحتلال الصهيوني قطاع غزة بشريطٍ من المستوطنات يُطلق عليه غلاف غزة. وبذلك، سيطر الاحتلال على 24% من مساحته، ليزيده ضيقًا على ضيق من أجل عزل السكان الأصليين ومحاصرتهم بمجموعات وعصابات المستوطنين المسلحين المعروفة بهمجيتها وتوحشها، يشكِّلون الصفَّ الأول من المحتلين الذي يحمي محتلين آخرين أكثرَ تعليمًا، وأقرب إلى الدعة والحياة الأوروبية التي لا يعرفها أحدٌ في الشرق الأوسط سواهم.
يوثِّق التقرير أيضًا اعتقال الاحتلال منذ عام 1967 نحو مليون فلسطيني، بقي منهم 4 آلاف و500 أسير في السجون الإسرائيلية، منهم 26 أسيرًا أمضوا أكثر من 25 عامًا خلف القضبان، و140 طفلًا حتى 2020.
ثم عرج التقرير للحديث عن أزمات المياه، والغذاء، وتهويد القدس، واعتداءات المستوطنين. لكنه أشار للنقطة الأهم، التي تنعكس بوقائعها على الأحداث المفزعة التي نشهدها الآن؛ فتعداد الشهداء الفلسطينيين منذ 1948 وحتى طوفان الأقصى بلغ 101 ألف.
تعكس الأرقام في التقرير صورة للفلسطيني تجافي ما تصوِّره الشائعات عنه؛ ذلك الثري الذي جمع أموالًا طائلةً، ويتاجر بالقضية، ويعمل في مجالات عدة، و"يزنبق" زميل عمله المصري في الخليج ويتسبب في فصله أو الخصم من راتبه. نموذج يُحكى عنه دائمًا، لكني لم أصادفه شخصيًا في حياتي أبدًا.
غير أن هذه التصوّرات الممجوجة التي بزغت كالطحالب على سطح مياه الوطن التي أسنت بعد كامب ديفيد، وينهي من يُقدِّمها لنا كلامه بعبارة "وإحنا مالنا ومال فلسطين؟"، تتكرر بلا توقف غير عابئة بالواقع الذي تثبته الأرقام.
هذا شعب يكتظ نصفه تقريبًا على 15% من أرضه ونصفه الآخر في مخيمات اللاجئين، لذلك لا يمكن الحكم عليه حكمًا عامًا شاملًا، لأن شخصًا ما في يوم ما في مكان ما قابل فلسطينيًا ثريًا ينفق ماله على النساء ويسعى لإيذاء زميله المصري، وإلا لأخذنا الشعب المصري كله بجريرة أولئك الذين في الساحل الشرير.
حياة غير محسوبة
"عملية خرقاء غير محسوبة العواقب جلبت الخراب على سكان غزة"، كذلك توصف عملية السابع من أكتوبر من قِبَل البعض، وكأنَّ القطاع قبلها كان يعيش في وفرة من العمار!
لم يسأل أيٌّ من هؤلاء نفسه عمّا دفع سكان غزة المدنيين، الذين لا ينتمون إلى حماس، إلى التدفق نحو أراضي غلاف غزة المتاخمة لسجنهم المفتوح بمجرد أن فتحت كتائب القسام لهم بابًا. ذلك الغلاف الذي هو بالأساس أراضٍ مقتطعة من قطاع غزة، ليس عليها سوى مستوطنين مسلحين ومستوطنات تزيد اختناق القطاع.
هل يجهل من يتحدثون مبررين للاحتلال، حقيقة أنه لا كتائب القسام، ولا الفلسطينيون الأفراد المتهمون بالاعتداء على "المدنيين" المسلحين في مستوطناتهم تجاوزوا حدود ذلك الغلاف الذي هو جزء مُقتَطع من أراضي غزة؟ أم أنهم يتجاهلون؟
قتلت إسرائيل في سنة واحدة أكثر مِن نصف مَن قتلتهم طوال 76 عامًا من وجودها المشؤوم
في كُتيِّب مطول نشرته حماس بعنوان لماذا طوفان الأقصى؟ شرحت الحركة أسباب وآليات وأهداف العملية، وما حدث بعدها، موضحةً أن هدف كتائب القسام لم يكن يتعدى اختطاف بعض الجنود على الشريط الحدودي، للمقايضة عليهم لتحرير أسرى يقبعون في سجون الاحتلال، من بينهم نساء وأطفال. غير أن العملية واجهت مفاجآت لم تكن في الحسبان، وما كان لها أن تكون في الحسبان.
على رأس هذه المفاجآت حفل راقص على الشريط الحدودي، إضافة إلى غفلة الحرس وارتخاء دفاعات العدو، ما أدى إلى نجاح هجوم "العامة" من السكان المدنيين على هذا الجزء المحتل، لا من أراضيهم التي نزحوا منها بل من تلك التي نزحوا إليها، فأسروا من قابلوه في طريقهم، ومن هنا جاء المحتجزين الذين اعتبرهم البعض "مدنيين"! وهو لقب غير مستحق. أما حماس، فلم تأخذ إلا من يرتدون البزات العسكرية، وهؤلاء ليسوا مدنيين بتعريف القانون الدولي.
إذن مَن وسَّع العملية "غير محسوبة العواقب"، التي سبَّبت "خراب غزة" كما يدَّعي البعض؟ أنهم مواطنون مدنيون من غزة، ودون قرار من حماس. ولو أن الأمر اقتصر على اختطاف بضعة جنود، لما بلغ العنف الإسرائيلي كل هذا المدى، ولاقتصر الأمر على مذبحة لا تتعدى الثلاثة أشهر.
إذا جاز لوم أحد غير الاحتلال على هذه المجزرة، فإن الملام يقع على السكان، لا على حماس!
ولكن، لماذا تريدون غسل يد الاحتلال؟
بينما قتل الاحتلال الصهيوني كما يوثق التقرير نحو 101 ألف فلسطيني منذ النكبة وحتى الطوفان، فإنه منذ السابع من أكتوبر، قتل 43 ألفًا قابلين للزيادة وفق الجهاز الفلسطيني للإحصاء، الذي يشير إلى أن المفقودين بلغوا 10 آلاف قابلين للزيادة.
لا أريد أن أعتصر قلوب أهالي المفقودين وأحطم تشبثهم بالأمل، غير أن العقل زينة كما يقول المثل المصري: وسط هذا الدمار، يحتاج المفقود معجزةً ليبقى على قيد الحياة. والمعجزة لن تتكرر عشرة آلاف مرة في وقت واحد. قد يكون من بين هذه الآلاف العشرة أحياء، لكنهم لن يتجاوزوا عشرات الأفراد. في قولٍ آخر، نحن نحتسب العشرة آلاف مفقود عند الله شهداء. أي أن عدد الشهداء تجاوز 53 ألفًا.
بصياغة أخرى قتلت إسرائيل في سنة واحدة أكثر مِن نصف مَن قتلتهم طوال 76 عامًا من وجودها المشؤوم في منطقتنا البائسة.
جريمة مروعة غير مسبوقة، تستهدف قطاعًا سكانه بالأساس من ضحايا الاحتلال الذين نزحوا من أراضيهم ليقطنها المحتل ويهدم بيوتهم ويطمس تاريخهم، ويشيِّد مستوطنات عنكبوتية قبيحة لا تنتمي للمكان وتغاير تاريخه وتفارق طبيعته.
جريمة تُرتكب على مرأى ومسمعِ وتواطؤِ وتعاونِ وتخاذلِ وخيانةِ كل القيم الإنسانية من العالم أجمع، يقترفها الاحتلال بدعوى حماية حقه في الاحتلال والاستيطان! فمن ذا الذي لديه المصلحة، أو الحق، أو العقل، أو المنطق، ليُحمِّل السكان الأصليين ذنب قتلهم؟
بذل البعض، على مدى سنة كاملة، قصارى جهدهم لتحميل حماس والسنوار وهنية والضيف مسؤولية مجزرة يرتكبها الاحتلال. وفي الوقت ذاته، لا نسمع منهم كلمة إدانة واحدة للكيان الصهيوني، متجاوزين تدليس من قال ذات مرة "قتله الذي أخرجه" لينتقل إلى مستوى غير مسبوق من الدناءة: قتله من خلقه فلسطينيًا.
أكثر من نصف سكان غزة ليسوا من أهلها، وإنما ينتمون إلى البقاع التي تلي الشريط الحدودي المحاصر، وتدفقوا إليها بهدف زيارة أرض تشبه أرضهم المسروقة، التي لم يَرَوها إلا صورًا على الإنترنت. وكانت عملية طوفان الأقصى بهدف تحرير الأسرى في سجون الاحتلال، وكان هدف هجوم الاحتلال العقابي على غزة، ثم مجازره هناك، كسر روح المقاومة لدى السكان الأصليين، والضغط على بطونهم ليبصقوا من أفواههم وقلوبهم عبارة "الأرض لنا".
الشعب الفلسطيني يبالغ في مسالمته في وقت يحتاج فيه إلى مقاومة أكثر عنفًا
هكذا يفعل الاحتلال ولا يفعل شيئًا سواه؛ عقاب السكان الأصليين حتى يستسلموا. هذا هو ديدن الاحتلال.
أما لوم الضحية، وإنكار حق المقاومة، وتغيير الموضوع الأصلي من حق الإنسان في وطنه، إلى مناقشةِ فاعليةِ آلياته، أو تفنيد أيديولوجياته واستعراض رأيه في حقوق المرأة والطلاق الشفهي وزواج القاصرات، لتبرير الاحتلال وغسل يديه من جرائمه، هو ديدن العملاء، ولا أعرف لهم اسمًا آخرَ والله العظيم.
فلماذا تنتظر مِمَّن تحت الاحتلال والحصار أن يتملك آلياتٍ فعالةً ولوجيستيات مكافئةً لما لدى الاحتلال وبإمكانها التصدي له؟ لو أنه يمتلك هذه القوة لما وقع تحت الاحتلال بالأساس!
ثم، هل عدم امتلاكه القوة والدعم الدولي والتكنولوجيا يعني أن "يتلطّ ويخرس" وألَّا يطالب بحقه أو يقاوم من أجله؟
في الواقع، الشعب الفلسطيني يبالغ في مسالمته، بل إن حركة حماس تبالغ في لطفها! مشكلة الفلسطيني الحقيقية ليست في أنه يقاوم، بل في أنه يقاوم بحرصٍ في وقت يحتاج فيه إلى مقاومة أكثر تأثيرًا بأسلحةٍ أكثر تطورًا. أما حماس، فمشكلتها ليست أنها "حركة إرهابية"، بل في أنها تهتم بشرح نفسها لتُبِّرئ ساحتها من استهداف المدنيين، وتأكيد حُسن معاملتها للمحتجزين!
حُسن معاملة؟
ده أنتم طلعتم أطيب من محمود الجندي والله.