كانت مساحة استقلال القضاء أوسع نسبيًا، وكان الاحتكام للقوانين والمنطق أكبر. - المحامي الحقوقي جمال عيد عن رفض دعوى حجب المواقع الإلكترونية 2007
ست شهور مرّت على حجب 465 موقعًا إلكترونيًا- على الأقل، بعضهم صحفي وبعضهم الآخر حقوقي، في حرّب بدأت منذ الأسبوع الأخير لمايو/ أيار 2017، ولم تضع أوزارها حتى نهاية العام، ورغم مساعي المواقع المحجوبة في مسارات عدة كان القضاء بطبيعة الحال من بينها، لمعرفة أسباب الحجب والجهة المسؤولة عنه، فإن الأمر بدا -على بساطته- كأُحجية لم يُكتب لها حلّ، على الأقل طالما كان التنصل هو ردّ الجهات المعنية.
منذ بدأت موجة الحجب في 24 مايو 2017، سعت مواقع تعرّضت له- كالصحفي "مدى مصر"- إلى فهم سببه، عبر مخاطبة وزارة الاتصالات والجهاز القومي لتنظيم الاتصالات بصورة متواصلة على مدار 10 أيام، لكن دون رد من أي منهما؛ فكان القرار باختصام الجهتين أمام محكمة القضاء الإداري، وفقًا لما حكاه لـ"المنصّة" المستشار القانوني للموقع حسن الأزهري.
قبل 2017 بعقد كامل، شهدت ساحة القضاء الإداري معركة حجب أخرى حازت اهتمامًا واسعًا في ذلك الوقت، وكانت ضد 53 موقعًا ومدونة بين السياسي والحقوقي، وهذه النقطة ربما تكون وجه الشبه الأبرز إن لم يكن الوحيد بين قضيتي الحجب، فاﻷمر عام 2007 كان مُختلفًا كثيرًا سواء على مستوى المجال العام أو المُلابسات القانونية والسياسية، وفقًا لما كشفت عنه ملفات القضية وذكره لـ"المنصّة" من عاصروه.
شكوى القاضي
في فبراير/ شباط 2007، أقام القاضي عبد الفتاح مُراد دعوى أمام محكمة القضاء الإداري، تطعن على القرار السلبي لوزير الاتصالات بالامتناع عن حجب مواقع إلكترونية، ارتفع عددها خلال مسار القضية من 49 إلى 53 موقعًا ومدونة، واختصم فيها سبعة أشخاص وجهات أخرى بخلاف "الاتصالات"، أبرزهم رئيس مجلس الوزراء، والرئيس التنفيذي للجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، والممثل القانوني لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بصفته المزود الوحيد لخدمة الإنترنت في مصر.
في دعواه، اتهم مُراد المواقع بأنها "تُخلّ بمبدأ عدم المساس بالأمن القومي والمصالح العليا للدولة، وتُهدد أمن واستقرار الوطن والدول العربية، وبمحتواها وقائع سب وقذف وتشهير وتهديد وابتزاز لشخصه وصفته القضائية، وتتضمن تقارير تسيء لسُمعة مصر وإهانة لرئيس الجمهورية، كما تتطاول على المدعي لأنه تناول تلك التقارير في كتابه (الأصول العلمية والقانونية للمدونات علي الشبكة اﻹنترنت)".
كان كتاب مُراد سببًا ذكره في دعواه، لكنه بالنسبة لخصومه من أصحاب المواقع والمدونات ربما كان كُل الأسباب، فبحسب مصدر كان على اطلاع على تفاصيل القضية، طلب من "المنصّة" عدم كشف هويته، فإن تحريك الدعوى كان "جزءًا من ردّ فعله (القاضي)" بعد أن اتهمه مدونون وحقوقيون بأنه "نقل فصولًا كاملة (لكتابه) من تقارير لمؤلفين آخرين عن المدونات"، وأن هذه الدعوى "كانت محاولة لإجبار الحكومة على حجب كل الصفحات و المواقع التي تتكلم عن السرقة العلمية".
اختصم مراد الحكومة، لكن عددًا من المؤسسات الحقوقية والمدونين تدخلّوا انضماميًا إلى جانبها، وكان منهم الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان ومركز هشام مبارك للقانون.
بعد مرور سنوات عشرة على دعوى عبد الفتاح مُراد، تضامنت الجبهة الحقوقية مع مواقع حٌجِبَت فعليًا، وخاضوا خصومة قضائية ضد الحكومة للمطالبة بالكشف عن الجهة صاحبة القرار وتبيان سنده القانوني وأسبابه الإدارية والفنية، فضلاً عن رفع الحجب بالطبع.
وفقًا لـ"الأزهري"، فإن أول طلب في الدعوى التي أقامها "مدى مصر" يتمثل في الإفصاح بمعلومات عن الحجب، وثاني مطالبها هو التعرف على أسباب حجب المواقع إذا لم يكن الحجب بقرار من إحدى جهات الدولة، لكن الدعوى ووجهت بالتنصل من الخصوم، إذ يقول المحامي إن الممثل القانوني لجهاز تنظيم الاتصالات قال- خلال جلسات القضية- إن الجهاز لا يمتلك التقنيات اللازمة لتنفيذ الحجب، وإن من يمتلكها هي أجهزة الأمن القومي والقوات المُسلحة ومن بيده قرار الحجب هو المجلس الأعلى للصحافة والإعلام، وهو ما ردّت عليه وزارة الاتصالات بأن هذا النوع من الإجراءات بيد الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات.
واستمر تنصل الخصوم والجدال بينهم، وفقًا لمُحامي "مدى مصر"، الذي قال إن وزارة الاتصالات والجهاز القومي لتنظيم الاتصالات وفي كل الأحوال، بقوة القانون، مختصان بكل ما يتعلق بالاتصالات ويعدّان طرفين أصيلين في كل الأحوال، وهو ما لم يمنع المدعين من اختصام جهات أخرى تحدث عنها الجهاز، وعلى رأسها وزارتي الدفاع والداخلية، فيما يُمثل منعطفًا آخر للقضية.
انحياز للحُرّية
في دعوى مُراد، اتسق موقف المحجوبين- إلى حد ما- مع موقف أجهزة الدولة، حسبما ظهر في دفوعهم أمام المحكمة، فعلى سبيل المثال وصفت مُذكرة دفاع الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، دعوى القاضي بأنها "خصومة شخصية أراد لها الطاعن أن تأخذ أبعادًا أخرى"، بينما كان لوزارة الاتصالات موقف ضد الدعوى لعب دورًا كبيرًا في الحُكم برفضها، كما يذكر مُدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان جمال عيد.
يقول عيد لـ"المنصّة" إن المحكمة أخذت في حُكمها بدفوع وزارة الاتصالات، والتي كان مفادها "إن حجب المواقع الإلكترونية مثل منع الصحف، وإن الجريمة يُحاكم عليها مُرتكبها فقط ولا تؤخذ الوسيلة كاملة بجريرته، سواء موقع أو جريدة".
اقرأ أيضًا: "بقرار أحيانًا".. حجب المواقع الإلكترونية مُستمر والفاعل "مجهول"
ويذكر المحامي الحقوقي أن "الاتصالات" قالت أيضًا إن الصراع "كان لوقف مواقع لديها مشكلة مع مُقيم الدعوى وأخرى نشرت عن المشكلة، وهو ما لا يُبرر حجبها، لاسيما وأن كثير منها يبث من خارج مصر، وبعضها صحفي مفيد للقرّاء. وليس من أدوار وزارة الاتصالات أو مجلس الوزراء حجب مواقع تنشر عن خلاف".
قدّم المصدر لـ"المنصّة" تفسيرًا لموقف الجهات التنفيذية من وجهة نظره، قائلاً ربما كان سببه "صراع دار بين معسكري الحكم، حكومة التكنوقراط التي تفضل بقاء الإنترنت مساحة مفتوحة لأسباب متعلقة بالبيزنس، وبين الأمن الذي فضل تقييد الإنترنت باعتباره خطر على الاستقرار"، وهو الوضع الذي وصفه بـ"التوازن غير الموجود حاليا في مصر".
واستندت محكمة القضاء الإداري في حيثيات رفضها للدعوى إلى المادتين 47 و48 من دستور 1971، اللتين كفلت أولاهما حُرّية الرأي والتعبير، وحظرت ثانيتهما الرقابة على الصُحف أو إلغائها، كما استند لمواد حقوقية في وثائق دولية مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
وأكدت المحكمة أن "وجود إهانات تمس أحد الأشخاص على الموقع، يتيح ملاحقة الأشخاص مرتكبي الإهانة مدنيًا وجنائيا، ولا يجب أن يرقى الجزاء لإغلاق الموقع لما يمثله ذلك من عدوان على حق المواطنين في المعرفة".
ويشير المصدر نفسه إلى أنه فيما بعد رفضت المحكمة الإدارية العليا الدعوى بعد أن قضت بما مفاده أنه "لا يوجد تشريع يسمح للحكومة بحجب المحتوى، وفي غياب التشريع فإن المحكمة ترى أن الانحياز ينبغي أن يكون للحرية حتى لو على حساب المسؤولية".
وتناول المصدر بالتعليق الاتجاه الحكومي في ذلك الوقت، قائلاً "كانت سياسة الحكومة هي تعقّب صانعي المحتوى بدل حجبه، وكانت الدولة تحاجج في المحكمة وعلى صفحات الجرائد بأن الحجب غير مفيد وغير عملي ومُكلف"، واصفًا ذلك بأنه "كان موقفًا أكثر تقدّمية من موقف الرأي العام، الذي جزء منه على الأقل- غالبا كان وما يزال- مع بعض الحجب للإنترنت لأسباب أخلاقية ومخاوف أمنية".
.. واحتكام للمنطق
"كانت مساحة استقلال القضاء أوسع نسبيًا، وكان الاحتكام للقوانين والمنطق أكبر"، يقول المحامي الحقوقي جمال عيد على ضوء الحُكم في دعوى مُراد 2007، مُقارنًا مُلابساتها بحجب 2017 الذي تم تنفيذه بالفعل؛ فصار دور القضاء فيه هو الفصل حيال أمر واقع تفترشه عراقيل "للأسف القضاء بيتأخر جدًا"، يقول عيد مُدللاً على وجهة نظره بدعوى الشبكة العربية عام 2015 ضد قرار بحجب موقع "العربي الجديد"، قال إن المحكمة لم تفصل فيها حتى الآن.
ولفت المحامي الحقوقي إلى مُشكلة أخرى في مسارات التقاضي تتمثل في تملّص المختصمين من المسؤولية عن الحجب "مفيش شخص بيطلع يقول بوضوح أنا حجبت، علشان نفهم حجب ليه والقضاء يفصل في ما إذا كان الشخص ده من حقه يحجب وليه الصلاحية أم لا"، كما لفت إلى المُناخ السياسي الذي كان مُختلفًا نسبيًا عن الآن بقوله "أيام مبارك كنا بنلجأ للقضاء مع كشف الانتهاكات".
يُصدّق المصدر على كلام عيد بقوله إن مساحات التضامن في ذلك الوقت "كانت أوسع داخل وخارج مصر من أفراد ومنظمات حقوقية شاركت في الدفاع، فضلاً عن مراقبة خبراء ومنظمات دولية لمسار القضية"، لكن عيد أكد أن اختلاف المناخ العام لم يؤثر على مساحات التضامن مع الحُريات، كما يبدو واضحًا من وجهة نظره بين مُستخدمي الإنترنت "الذين ينحاز أغلبهم للحريات"، مضيفًا "لكن كثرة الأزمات؛ تجعل الجهود التضامنية مُشتّتة".
بين حجب 2017 ومحاولة الحجب 2007 تقف سنوات عشرة، كفاصل زمني كان رُغم قصره النسبي كفيلاً بتغييرات ملموسة، سواء على مستوى مسار وأطراف الخصومة من وضوح 2007 إلى غموض 2017، أو على مستوى المُناخ المحيط الذي غيّر حتى طبيعة الخصوم من مدونات ومواقع كانت قبلة الباحثين عن شيء من الاستقلال بعيدًا عن أبواق نظام مبارك، إلى مواقع غالبيتها صحفية مُستقلة وأخرى تابعة لما تبقى من مواقع حقوقية لم تنضم بعد لقائمة مَن دفعهم التضييق القانوني والأمني لتجميد جلّ أنشطتهم، فضلاً عن الاختلاف الأكبر المُتمثل في نهاية كتبها المنطق سعيدة للمواقع عام 2007، بينما الحرب الحالية ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات.