مع من يكون قَبول الآخَرِ، إن لم يكن هناكَ آخَر؟ وكيفَ نُدرِكُ وجودَ (آخَر)، إن لم يتكلم هذا الآخَر، ويُعَبِّرْ عن نفسِه كما يَحلو له؟ وكيفَ يتكلّم، وقد عقدنا معه اتفاقًا ضمنيًّا، منذ تشَمّمنا طيفَ وجوده، يقضي بألاّ يكونَ بيننا حِوار؟ ربّما يُعَقِّب مُعَقِّبٌ بأنَّ هذا الاتّفاق الضمني، ما كان له أن يُعقد لولا حِوار تلقائيّ، حدث في البداية وانتهى بكارثة، وربّما يكونُ هذا حقيقيًّا، لكن ألا يَعني الاستسلامُ لنتيجةِ المحاولة شكلاً من أشكالِ الكسل والانهزاميّة؟
يُلِحّ عليَّ هذا الخاطِر كُلّما التفتُّ حولي لأجِد كارثة تَحُلّ بهذا العالَم عامّةً وبهذه البقعة منه خاصَّةً، أعني البقعة المُسَمّاة العالَم العَربيّ أو الشرق الأوسط أو سَمِّها كما تشاء. الصِّراع السُّنّي الشِّيعي، والإسلامي المسيحي، والديني العَلماني، وما إليها من صراعاتٍ أكلَت قلوب ضحاياها قبل أن تأكُل أعمارَهم. انفجار أحداث طائفيّة في قرية هادئة على خلفيّة قصّة حُبٍّ مُجَرَّمَة مجتمعيًّا، وانفجار في كنيسة أو مسجد بلا سبب مفهوم، تُعلِن مسؤوليتَها عنه جماعة تعتبر نفسَها المتحدثَ الرسميَّ الوحيد باسمِ الله، وفي كلِّ نموذج يتفاقَم التربُّص بين الأطرافِ المتنازعةِ على خلفيّةٍ متَّفَقٍ عليها من اللا حِوار!
أحاولُ الآنَ أن أقِفَ على أرضيّةٍ مشترَكَةٍ مع جميعِ الأطراف، ولأخُصّ بالذِّكر طرَفَين، ربما يكونان الطرفَين الأساسيين في معادلةِ العُنف التي نعاني نتائجَها، أعني الإسلاميين والعَلمانيين. الإسلاميّون مازالوا يكررون "الإسلام دِين ودَولة (أو: وَدُنيا)" والعلمانيّون لا يَفتُرُون عن المطالبة بأن يكون الدِّينُ داخلَ دُورِ العبادةِ فقط، وألاّ تمتدَّ هيمنتُه خارجَ حدودها، ثُمّ يشفعون هذه المطالبة الأولى بثانيةٍ تقتضي تجديدَ الخطابِ الدّيني.
وحقيقةُ الموقِف أنّ الإسلاميين يَنقُضُون دعواهم بعديدٍ من الوسائل، تبدأُ بتصاعُدٍ لا يعرفُ نهايةً للمُزايَدَة في الدين، يُضَيِّقُ مفهومَهم للإسلام عن دعوى الاشتمالِ على الدولة أو الاهتمامِ بالدنيا.
وأحد الأمثلة الدالة على ذلك، النظرُ إلى الاحتفالِ بالمولدِ النبويّ باعتبارِهِ بدعةً عند بعض خطباء المساجد يقتضي أنّ النبيَّ مختصٌّ فقط بأمور الدِّين، على اعتبارِ أنّ البدعة في العُرفِ الفقهيِّ هي كلُّ مُحدَثَةٍ في أمورِ الدِّينِ لا سَنَدَ لها من كتابٍ أو سُنَّة، ولم يخطر ببالِ أحدِهم أنّ هذا الاحتفالَ ممارسةٌ دنيويةٌ/ عَلمانيّةٌ تحتفي بالنبي في إطارٍ لا دخلَ للدينِ فيه، وهي النظرةُ الكفيلةُ بنقض دعوى الدينِ والدولةِ أو إرباكِها على أقلِّ تقدير.
وتنتهي هذه الوسائلُ بلَيّ عنُقِ بعض النصوصِ لتحقيقِ مُبَرِّرٍ للاستعلاءِ الدينيّ الأجوَف، كمَن يفهمون الحديثَ الصحيح "إنّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هذا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجرِ" باعتبارِهِ مُسَوِّغًا لهم ليطلِقوا أحكامَ الإيمانِ والرِّدَّةِ على الناسِ كما يحلو لهم، وكأنَّ بصيرتَهم كبصيرةِ النبيِّ وأحكامَهم لها مُطلَقِيّةُ أحكامِ اللهِ المُوحَى بها إلى نبيِّه.
أمّا العَلمانيُّون فأمرُ نقضِهِم دعواهم أسهلُ بكثير. فكيفَ يتحققُ تجديدٌ للخطابِ الدينيّ (الدَّعَوِيِّ كما يحلو لبعضِهم أن يُحَدِّد) والمساجدُ مُغلَقَةٌ على مَن فيها؟
في هذا الصَّدَدِ، أذكرُ مشروعًا مُجهَضًا دعا إليه الدكتور عبد الواحد النبوي وزير الثقافة السابق، مضمونُهُ انتدابُ بعض المثقَّفين للحوار في المساجد، وانتدابُ بعض أئمّة المساجد للحديثِ عن الإسلام في المنابر الثقافية الكُبرى. ساعتَها هُوجِمَ هذا المشروعُ بضراوةٍ واتُّهِمَ الرَّجُلُ بنِيَّةٍ مُبَيَّتَةٍ لأَخوَنة أو أسلَمَة أو تديين العمل الثقافي.
الحَقُّ أنني لا أعرفُ بالطبعِ نيّة الرجُل ولا أصادر عليها، لكنّ المشروع يبدو لي بشكل شخصي معقولاً جدّا. لا أتوقّعُ أن يحدثَ تجديدٌ حقيقيٌّ في أي خطابٍ دون انفتاح المُناخ الذي يُفرزُ هذا الخطابَ على العالَم. كيف يمكنُ أن يُخففَ خطيبُ المسجدِ من غُلَواءِ هجومه على نظرية التطوُّرِ دون أن يستضيف المسجدُ عالِمًا في البَيولوچيا يناقش داروِن وما بعدَه في إطارِ العِلمِ وَحدَه، وبلاغِيًّا يناقشُ مفهومَ المَجازِ واتساعَ النصّ المقدّس للتأويل وراءَ المفهومِ من ظاهرِه؟!
ما حدثَ في أعقابِ الإعلانِ عن هذا المشروعِ كان رفضًا قاطعًا من مُنطَلَقِ الإيمانِ بمؤامرةِ الأسلَمَة من ناحيةِ غزو أئمة المساجد للمنابر الثقافية، ومن منطلَق حتمية حدوثِ صداماتٍ عنيفةٍ من ناحيةِ استضافةِ المساجدِ للمثقَّفين كمتحدِّثين.
وبما أننا بصدَد عُزلةِ المسجدِ فإنني أجدُ نفسي مضطَرًّا للتسليم بصِحَّةِ التوقُّعِ المتشائم الأخير، لاسِيَّما أنَّ كاتبَ هذا المَقالِ كان شاهدًا على مواقِفَ مماثِلةٍ عديدةٍ، ربَّما يقفزُ منها إلى ذهني مباشَرةً موقِفُ عالِم النفس والناقدِ الجَليل الأستاذ الدكتور شاكر عبد الحميد، حين تحدَّث كضيف شرَفٍ في حفلِ تكريمِ عددٍ من المبدعين عن الأخلاقِ الإنسانيّة بوصفِها مُشتَرَكًا أوسَعَ من الدِّين، حيثُ ثارت ثائرةُ أحدِ الحاضرين انطلاقًا من مبدأ الانتصار للدِّين وأولويتِه على ما سِواه، ولأنّ أستاذَنا الدكتور شاكر عبد الحميد يتَصِفُ بالاتّزانِ والحكمةِ فقد استطاع أن يُنهِيَ الموقِفَ بتفهُّم الثائر وإقرار المودّة المُتبادَلَة.
الشاهدُ أنّ اعتراضَ المثقَّفين له وَجاهَتُه بالطبع، إلاّ أنّ التوقُّفَ كثيرًا عنده يُشيرُ إلى كسَلٍ عقليٍّ وإرادةٍ معتلّةٍ، قنعَ أصحابُها بأمانِ منابرِهم من النقاش المحتدِم والحِجاج الحقيقي، فهم لا يجاهدون ثقافيًّا إلاّ في قُرىً مُحَصَّنَةٍ أو مِن وراءِ جُدُر.
في تصوري أنّ خطيبَ المسجدِ لن يُسَلِّمَ بفوقِيّةِ الأخلاق الإنسانيةِ على الدّينِ ما لَم ينفتِح أفقُهُ على تفسيرٍ مُغايرٍ لحوادثِ السيرةِ النبويّةِ، حيثُ رضيَ النبي صلى الله عليه وسلَّمَ أن يُكتَبَ اسمه (محمّد بن عبد الله) دون صفتِهِ (رسول الله) في صُلحِ الحُدَيبيةِ نزولاً على رغبة سهيل بنعمرو، ركونًا منه إلى رحابةِ المشترَك الإنسانيّ الذي يجمعهُ مع من يختلِفُ عنه جِذريًّا في مسألة العقيدة، وليس كنوعٍ من الأخلاقِ المؤقَّتَةِ التي يرتضيها مَن هم في موقفِ الضعفِ انتظارًا للتمكينِ والغَلَبَة كما يَشيعُ في أدبياتِ الإسلاميين. وبالطبع لن يَطرحَ هذا التفسيرَ المُغايِرَ من ظلَّ يرددُ أطروحةَ الأخلاقِ المؤقَّتَة موقنًا بها، فمِن أينَ له بغيرِ ذلك والمسجدُ مُغلَقٌ عليه؟
ما أحلُمُ به هو أن يتّسِعَ المسجدُ لصنوف النشاط الفكريّ بلا مصادَرَة. لماذا لا يستضيفُ مسجدٌ جامعٌ كبيرٌ مثقَّفًا ما في كلِّ يومٍ من الأسبوع؟ لِيَكن السبتُ يومًا للحديث في الشِّعر، والأحد لفنون السّرد، والاثنين للفنون البصرية، والثلاثاء لورشةٍ للصولفيج العربي وتدريب الأصوات، والأربعاء للحديث عن اتجاهات الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وهكذا. لمَ لا؟
كيفَ ستُطرَحُ على جمهور مرتادي المساجد مشكلةُ تصويرِ ما فيهِ رُوحٌ في الفقهِ الإسلاميّ وعلاقتُها بزوال الحدود بين الأحياءِ والأشياءِ في تكعيبيّة پيكاسّو وخْوان جريس دون أن يتحدثَ فيها متذوّقٌ مخلصٌ للفن التشكيلي؟ كيف سيُدرِكُ مؤذِّنُ الجامع القريبِ أنّ الجميلَ هو أن يبتعِدَ عن درجة ركوزِ مقامه الموسيقيِّ في الجملةِ الأولى من الشهادتين والحيعلة والحيفلة، ثُمّ يعودَ إلى الركوزِ في الجملة الثانيةِ، وأنّ عكس ذلك مُنَفِّرٌ، كيف سيدركُ ذلك دون أن يتعلَّمَه من متخصصٍّ في الصولفيج العربي؟
أما آنَ أن يعرف مرتادو المساجد شيئًا عن نسخة الفيلسوف باركلي من المثالية الذاتيةِ وعلاقتِها بقول الله في القرآن "إنّ اللهَ يُمسِكُ السماواتِ والأرضَ أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما مِن أحدٍ مِن بعدِه"؟
أتوقع أن يحدث الكثيرُ من الصِّدام في البدايةِ، وأن تخفَّ حِدّتُه مع مرور الأيام. المسجدُ الذي يُباهي بحضّ القرآنِ على الحِوارِ دون أن يمارسَه ربّما يتبنّى منطقَ الحِوارِ كما يكرّسُهُ المسرحُ إذا استضافَ المسجدُ مسرحيًّا كلَّ أسبوعٍ، وقُدِّرَ أن يُحَدِّثَ الناسَ عن حقيقةِ ما قاله برنارد شو عن نبي الإسلام في مقدمة مسرحيته "أندروكلِس والأسَد"، أو عن معالجة سعد الله ونّوس للتقديرات المجتمعية لأنماطِ الأشخاص في "طقوس الإشارات والتحوُّلات".
لا حاجةَ بنا إلى التأكيدِ على أنّ هذا المقال لا يحرّضُ على الصِدامِ ولا يدعو إلى الدموية. بالتأكيد سيكونُ من المُجافي للذوق العامّ أن يصطحبَ الناقدُ أو الفنّانُ التشكيليُّ معه إلى المسجدِ ألبوم عارياتِ جوستاف كلِمْت أو موديلياني، أو يتعمّدَ الموسيقيُّ أن يبدأ حديثَه مع مرتادي المسجدِ بدرسٍ في التشيلّلو! ليس هذا ما نرمي إليه .. تجنُّبُ التابوهات ضروريٌّ لفتح قنوات التواصُل .. ولن يضيرَ المُثَقَّفَ أن يكون (متوافقًا سياسيًّا politically correct) بحسب الاصطلاح الأمريكيِّ سلبيِّ المَغزى من أجل مكاسب مجتمعيةٍ متوقَّعَةٍ على المدى الطويل.
إنّ المطلوبَ هو التدرُّجُ في فتحِ أفُق المسجد لكي يُفرِزَ خطابًا دعَوِيًّا بَنّاءً يحتفي بالجَمال والحِوارِ والقِيَم الإنسانية – التي هي إسلاميّةٌ أيضًا في صميمِها - ولا يكرّسُ القُبحَ تحت دعوى الولاءِ والبَراء المَلوِيَّين.
أوقِنُ في النهايةِ أنني ربّما أُتَّهَم لأجلِ هذا المقالِ من أحد الطرفين بالرغبةِ في تفكيكِ آساسِ المسجدِ وغزو العقلية الإسلامية، ومن الطرف الآخَر بالطوباويّةِ البعيدةِ عن الواقعِ أو الرجعيّة المتقنِّعةِ ببعض المعرفةِ الحديثة. لكنني لا يمكنني ألاّ أدعوَ إلى ما أعتقدُ أنّ فيه الكثيرَ من الخير والجمال. ربما أجدُ أذُناً صاغيةً هنا أو هناك.