يشير أحدهم في تفسيرِ لماذا يحب الحركة الصهيونية ويراها الأرقى والأنجح إلى عدد الميداليات التي حققتها إسرائيل في أولمبياد باريس التي انتهت هذا الشهر، متفوقة على أي دولة عربية، فيما يتحدث آخر عن التقدم التقني الذي حققته إسرائيل، وهي إشارات حقيقية تستحق التأمل والتعلم، لكن هل تُدلل وحدها على رقي الصهيونية؟
في الفترة ما بين 1902 و1908 كانت الحياة في المدن الألمانية فيها أكثر راحة ووفرة وسهولة من الحياة في ناميبيا الإفريقية الفقيرة، لكن هل يمكن لأي عاقل أن يرى ذلك وحده دلالة على تفوق السيد الألماني المتقدم عندما كان يقيد البشر بالسلاسل ويعدم 75 ألفًا من عرقيتي الهيريرو والناما خلال استعمار ناميبيا؟
تخطف القوة غالبًا عيون الناس، لكن الأسوأ أنها أحيانا تخطف ضمائرهم!
صهيونية ناطقة بالعربية!
انتشرت بدرجات متباينة آراء تتبنى الطرح الإسرائيلي للصراع، سواء تاريخيًا أو حتى في السياق الحالي. لكنَّ أكثر الآراء جموحًا ووضوحًا وصدمةً تلك الآراء المكتوبة بلهجات محلية عربية ترى في الصهيونية حركةً تستحق التقدير والوصف بالرقي.
تقول الفكرة إن أي حركة حققت نجاحها المادي هي عظيمة وتستحق التمجيد. النجاح المادي وحده كفيل بتمجيدها ووصفها بالرقي، بغض النظر عن الدماء التي أسالتها والحقوق التي انتزعتها لتحقق هذا التفوق أو تعبر إلى هذا "الرقي".
وفقًا لهذا المنطق، وبما أن إسرائيل حققت النجاح المادي، إذن فالحركة الصهيونية التي أسستها بما حُمِّلت من أساطير التفوق العرقي والديني والقومي، هي بالضرورة حركة عظيمة.
يقبل القائل بهذا الكلام ضمنًا أن بعض الناس متساوون أكثر من غيرهم لأنهم عرق أفضل أو شعب مختار دون باقي الشعوب، التي ينتمي إلى أحدها قائل هذا الكلام بالعربية، معترفًا أنه ممن لم يخترهم الرب لتحقيق مشاريعه الأرضية التي تتطلب "رقيًا" يسيل دماء كثيرة.
إعادة تدوير النفايات!
تأتي هذه الفكرة كإعادة تدوير نفايات الحركة الاستعمارية الأوروبية التي قُتلت بحثًا ونقدًا ورفضًا ومقاومةً حتى في معاقلها الأوروبية. يقوم المنطق الأساسي للعنصرية الاستعمارية على أن هناك بشرًا أرقى من غيرهم ودليل رقيهم هو تحقيق فائض مادي كبير وفائض من القوة، مع قدرة على التنظيم الاجتماعي والاجتماع البشري بشكل أفضل.
يصبح إذن هذا التنظيم والفائض دليل تفوقهم وليس سببه. وبناءً على هذا الرقي العرقي المفترض، الذي يبدو قدريًا لا دخل لهم فيه، فإن من حقهم "استعمار الأرض"، واستبعاد الشعوب الأقل عرقيًا، حتى لو أدى ذلك الاستبعاد إلى إبادة هذا الطرف الأضعف، الذي عليه الاختيار بين أمرين لا ثالث لهما: الإذعان أو القتل!
هنا تظهر المذابح بحق الطرف الأضعف فعلًا مبررًا ومفهومًا أخلاقيًا، ويتحول قتل الآلاف من الشعوب الأدنى لزوم ما يلزم حركة التقدم والرقي واستعمار الأرض لتسير إلى الأمام، بعد أن تتخلص من البرابرة الضعفاء، فيكون قتل الأبرياء منهم "أضرارًا جانبية"، لكن قتل واحد من الشعوب الأرقى إرهابٌ وجريمة.
في هذا السياق، يُفهم بكاء مستشار الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي في البيت الابيض جون كيربي على الضحايا الإسرائيليين في بداية هذه الحرب، وعدم اكتراثه بالضحايا الفلسطينيين.
الاستعمارية تحرق بيتها!
استمرت الاستعمارية الغربية تغذي هذا المنطق بكل صوره في كل مكان في العالم، فقمعت شعوبًا تحت شعارات رقي الرجل الأبيض إلى أن واجهت أزمتها الكبرى التي دفعت فيها دمًا أوروبيًا.
تطورت الاستعمارية الغربية في بلد مأزوم مثل ألمانيا لتُنتج نسختها الأكثر تطرفًا، التي طوّرت فكرة التفوق العرقي والتفوق المادي والثقافي، لتحصره على الجنس الآري دون غيره من الأوروبيين، ليحصد الرجل الأبيض الأوروبي ما غرسه، ويتحول الوحش الاستعماري الذي كان ينهش شعوب العالم إليه.
فقررت أوروبا مرغمة تفنيد مزاعمها الاستعمارية التي أشعلت النيران، ليس في الحديقة الخلفية فقط، لكن في قلب البيت الأوروبي وفي غرف نومه.
رقي عرقي أم حركة التاريخ؟
لا شك أن التراكم المادي يؤدي للتقدم، لا شك أن الشعوب تحتاج إلى التعلم لتراكم التجربة الإنسانية وتستخلص دروس النجاح والفشل. لكن الخطيئة التي يقع فيها المنطق الصهيوني الناطق بالعربية هي القراءة الخاطئة للتاريخ.
التفوق المادي على مدار التاريخ هو حالة تعلو وتهبط وتغير أماكن ظهورها. تظهر في مصر القديمة وعلى ضفاف النهرين، ثم في مدن اليونان، وروما، والقسطنطينية وبغداد ودمشق وإسطنبول ولندن وباريس وواشنطن، وأخيرًا بكين وطوكيو وسيول.
حالة تعبِّر عن دوران التاريخ وتفاعل المجتمعات وتراكم الثروة، وليس عن رقي عرقي. وهي في الوقت نفسه وقود التنافس التاريخي بين الثقافات والحضارات، على تحسين الاجتماع الإنساني ودفع الثقافات للتعلم من بعضها البعض.
إقرار أن النجاح يعطي مسوغًا لقتل الآخرين واستعمار أرضهم هو تحول لأكثر حالات البشرية انحطاطًا، وهي أن الأقوى يقمع الأضعف، وبما أن القوة والضعف أمور متغيرة، فما أُقِرَّ اليوم بقمعِ أو إبادةِ الأضعف لأن من يفعل ذلك هو "الأقوى" اليوم، هو ما سيعطي الحجة للأقوى القادم لأن يقمع أقوى اليوم الذي سيصبح أضعف حينها.
أسطورة الاستعمارية العرقية التي تُقرُّ بالتفوق العرقي كحتمية لا مفر منها، تجعل كل شعوب الأرض باستثناء القلة المختارة متخلفين بشكل حتمي أيضًا، لتكون أي محاولة لإصلاحهم فاشلة ابتداءً. فنتحول من شعب في مجتمع مأزوم إلى شعب في حالة أبدية من التخلف. ونصبح، أنا وأنت والعربي القائل بتفوق الصهيونية، مجرد قردة متطورين بدرجة أقل، علينا قبول سيادة البشر الأعلى وقبول استعبادهم لنا.
في كتابه خطاب حول الاستعمار، قدم إيميه سيزار نقدًا أخلاقيًا من خلال تسليط الضوء على الطبيعة اللا إنسانية للاستعمار، ورسم أوجه التشابه بين الممارسات الاستعمارية والفاشية الأوروبية، وكشف نفاق القوى الاستعمارية التي ادعت أنها تحضر بينما كانت تمارس البربرية بكل أشكالها البدائية.
تكمن الأزمة دائمًا في رؤية البعض أنَّ من يملكُ القوة فعلُه أخلاقيٌّ بالضرورة، لأن الأخلاق مكتسبة من القوة. لذا تبدو فكرة الدعاية لفكرة عنصرية إجرامية في قلب مذبحة كبيرة، مثل التي نراها في غزة، لا تجد صدىً أخلاقيًا إلا لدى من يمكن أن نطلق عليهم "عُبّاد القوة".
مريدو المكاسب هؤلاء دائمًا ما يتبعون الأقوى، وكأنهم ألاضيش الفتوة المنتصر الذين صدحت حناجرهم بالهتاف لعاشور الناجي "اسم الله عليه"، لا لأن أخلاقه أسمى من أخلاق خصمه، بل لأنه من انتصر!