قناعة كل واحد هي أنه يستحق الحب، أيًا ما كانت ماهيته. وخلال انتظار الفوز بذلك الحب، تكون الصورة هي الجحيم. صورة كل واحد أمام نفسه. الصورة التي يريد الكل أن تكون لحياته. الحاجة لامتلاك حقيقة مؤكدة، دون صورة مشوشة.
في رواية "مترو حلب"، للروائية السورية مها حسن، كانت الصورة تطارد شخصيات الرواية، على طول حياتهم. من في خياله صورة عن الحب، ومن في خياله صورة عن الفن والفنانين ونسق حياتهم، ومن تلازمه صورة الخيانة والخراب.
تبدأ محطة الرواية الأولى مع سارة، التي ظهر لها خالة، مصابة بالسرطان في باريس، وترغب في رؤيتها. وتندهش سارة أن الخالة تحمل نفس اسم أمها: أمينة. تحصل سارة على تأشيرتها لدخول فرنسا، دون نية للبقاء فيها. ولكن اندلاع الحرب في سوريا، وبضغوط من أهلها، تبقى. تعيش سارة مقارنةً ما بين البلد التي جاءت منه وفرنسا. حلب القديمة وباريس. حياة غير الحياة، البوليس دوره الحماية في فرنسا، في سوريا المسألة مختلفة. قلبها متعلق ببلدها هناك، ونفسها تراودها عن الحياة هنا.
دوامة السرد تنتجها سارة؛ التعامل مع أعماقها؛ كشف أحوالها في القبول والرفض والسخط والرضا؛ انفتاح الذاكرة على مواقف وأماكن بعينها، وكل موقف وكل مكان يرتبط بآخر، يشترك معها أو يورطها فيه. سارة التي لديها كتابان: كتاب المنامات، الذى يجعلها تتأكد أنها في باريس، وكتاب الحرب، الذي يذكرها أنها ليست في حلب. ورطتها خالتها أمينة في أن تسمع وتُفرِغ تسجيلاتها بعد أن تموت، ومن هذه التسجيلات ينكشف لغز أمينة، وتنقلب حياة سارة.
أمينة، المولعة بالفن، المسرح بالأخص، والتي غادرت سوريا من أجله، وكان يوم مغادرتها كالمقص الذي بتر حياتها. بترت هي عائلتها (وبترتها عائلتها) وأصدقائها وذكرياتها. أحست أنها ولدت في باريس، أن حياتها بدأت فيها من جديد. جاءت من أجل المسرح الذي تنسى نفسها فوقه؛ الفن هويتها؛ المتعة والفن والجمال. لكن كل هذا الجمال كان وراءه خراب كبير.
أمينة هي أم سارة وتركتها من أجل المسرح، وأم سارة هي خالتها هدهد، التي لداعي الشرف لئلا ينفضح أهلها، تخلفت عن نفسها وعن حبها، وسلمت نفسها لتقوم بدور أمينة، حيث كان زوجها قد أخبر أهله عنها وأنهما تزوجا ولابد من حل. وفيم التسجيلات تدور، ينكشف شيء في حياة هدهد وفي حياة عادل (من أحبته هدهد) ووليد الذي وُلّه بأمينة ولكنها لم تشغل بالها وتركته.
تغلغل المسرح في نفس أمينة، حتى أنه امتد إلى حياتها خارجه. في إحدى الليالي وهي خارجة من المسرح، ركع أمامها شاب، ماتيو، ليداعب نرجسيتها ويخبرها أنها أميرته. أشبع مساحة ما في داخلها واندمجا سويًا في علاقة حتى ليلة يخطفها فيها إلى مكان قد جهزه مسبقًا.
وإن كان أوديب نتاج نبوءة معبد دلفي بأنه سوف يقتل أبوه ويتزوج من أمه، وعندما كان يبحث عن ماضيه كان يلح عليه سؤال "من أنا؟" فإن ماتيو كان أوديبًا جديدًا. ولكن بصورة خاصة. ماتيو الذي تتقاطع حكايته مع حكاية سارة، عانى من حرمان الأم التي تخلت عنه بعد ولادته بشهرين تاركةً رسالةً لزوجها بأنها هاربة من كل هذا الضجر. وهذا نفس ما تقوله أمينه، نجمة المسرح، عن عدم ندمها لترك رضيعتها سارة من أجل الفن. ولما عرف ماتيو بهذا جهز حاله للانتقام من شبيهة أمه. لم يغادر سؤال "من أنا؟" ماتيو، قرأ في الفلسفة ودرسها. العدمية بالأخص. وظل يحلم بعودتها من أجله، بيدها على وجهه، بأن تخلصه من أبيه الذي لم يتوقف عن إطعام الكره له: "ستأتي في الميلاد وتقول إنها نادمة وحزينة، وإن ذلك الرجل هجرها وتشعر بالوحدة والخوف... سوف نسخر منها. نحن فريق واحد، أليس كذلك يا ماتيو؟ " يلازم ماتيو الكره، يموت أبوه، ويتزوج هو أمه (أمينة)، ويقرر أن يقتلها قبل أن تقتله الشرطة فيما هو يحاول.
ماذا تفعل سارة؟ تغفر لها؟ تحبها كأم؟ تغير حياتها بسبب هذه الحقيقة الجديدة؟ تتحول هي الأخرى إلى ماتيو جديد؟ خلل الأمومة يهدد حياتها الآن. حتى وإن تركت لها الكثير من المال، فهي تركت لها من الهم أضعافه. كل حياتها كذبة، خواء داخلها يتسع، وعالم يضيق بها. الآن هي أمام نفسها، ما هي الصورة التي تريدها لحياتها؟ وما هي الصورة التي تريد تمزيقها؟
تقضي سارة فترة تيه، سكر وتشرد. ثم في لحظة ما، تقرر العودة إلى سوريا المشتعلة فيما أهلها مشردون ما بين الملاجئ في شتى بلاد الله، ويحلمون بما هي فيه. كما لو أن الماضي لا فكاك منه أبدًا. الزلازل الذي سببته أمينة أظهر ما كان مدفونًا في أعماق سارة: الحرية والرغبة في الميلاد من جديد. ولدتها أمينة مرتين، مرة في دمشق من رحمها، والمرة الثانية من رحم قلبها هي نفسها. الحرية في العيش بين ضفتين، الحرية في العيش في مجال أوسع. أن تسمح للوثة الفن أن تصيبها دون خوف. وإن كانت حياتها محطات تيه، فهي الآن أٌقدر على تحديد مسارات حياتها وما هي محطاتها.
مترو باريس كان حب سارة العلني. ولعها به كان لأنه يصل الأجزاء، الشتات. الحبل السري ما بين الجنين والأم. حلب لا مترو لها. حلب يعوزها مترو، يربط أجزاءها، ويربطها بما حولها. مترو حلب عنوان الرواية، مسمى للمفقود، هو الحلم. الكثير من الأماكن محطات تيه دون مترو.
لم تأت الرواية بكثير من توابل الحروب ومشاهد القتل لابتزاز المشاعر أو هيمنة للبعد الأيديولوجي والانتصار لطرف على حساب طرف. ما يحدث في سوريا كان إطارًا زمنيًا لخطوط الرواية، وما حضر فيها هو الفناء الخلفي للحرب ما يحجبه الغبار الذي يراه الكل على الشاشات: علاقات الدم، الفوضى، الحب والفشل والغيرة والألم. واعتمدت بنية الرواية على تداخل السرد، الذاكرة الحية لسارة، وتقنية الحوار الذي لا يحضر مستقلًا بنفسه، بل يمتزج بالوصف كمشهدية تضفي المزيد من الحيوية. يتداخل السرد والحوار لتعميق الدائرة الزمنية والوصف ليوغل في دائرة المكان واستحضار الملاحظات حول الأشياء والشخوص وإنتاج ملامح الأحداث محددة ومفصلة.
النساء هن ركائز الرواية، هن أصل الحكاية، من عندهن تبدأ الحياة، وعندهن تنتهي. الماضي حاضر دائمًا لا مفر، والحاضر لحظة حية لماضٍ. الأحلام والكوابيس كلها تتجاور في عقل واحد. كل مكان جديد هو منفى حتى نألفه، والفقد قد يكون بداية للخروج من التيه أو انزلاق شديد نحو المزيد منه.