يعكس احتدام المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في خمس مناطق مختلفة في آن واحد حالة السيولة التي تتسم بها الحرب الدائرة منذ أكثر من عام. ومع عجز كل من الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، عن حسم المعركة، اتجها إلى خطط استنزاف عسكرية، أملًا في تحقيق تفوق نسبي يمكن أن يخدمهما سياسيًا، حال العودة إلى المفاوضات تمهيدًا لوقف إطلاق النار.
مع ازدياد الضغوط الأميركية على الطرفين للعودة إلى المفاوضات من خلال منبر جدة، شهدت الأيام الماضية اشتباكات متفرقة في عدة مناطق، فيما أعلنت نقابة أطباء السودان مقتل ما يزيد عن 30 ألفًا، وإصابة أكثر من 70 ألف شخص منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان العام الماضي، مرجحةً أن تكون الأعداد الحقيقية للضحايا أكبر بكثير من العدد الذي تمكنت من رصده.
أصبح السودان منقسمًا بين مناطق خاضعة لسيطرة الجيش، وأخرى استولت عليها قوات الدعم السريع. حاولنا رسم خريطة للسودان توضح طبيعة القوات المسيطرة على ولاياته ومناطقه المختلفة، مستندين للمواد المنشورة في المواقع الإخبارية، التي تطابقت بياناتها مع المعلومات التي أوضحتها عدة مصادر من الخبراء العسكريين لـ المنصة.
يسيطر الجيش السوداني تحديدًا في مناطق الشرق والشمال، بينما تمسك قوات الدعم السريع بزمام مناطق الوسط والغرب إلى جانب الوجود بشكل أكبر داخل العاصمة الخرطوم.
وفي محاولة من طرفي الصراع لكسب مزيد من المساحات على الأرض اشتدت الاشتباكات في عدة مناطق، أهمها مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور التي يتحصن فيها الجيش، وتحاول قوات الدعم السريع اختراقها لاستكمال سيطرتها بشكل كامل على إقليم دارفور.
كما شهدت ولايتا الجزيرة وسنار بوسط السودان اشتباكات متفرقة، وكذلك العاصمة الخرطوم، إلى جانب منطقة الفاو التابعة لولاية القضارف في شرق السودان.
اعتبرت الوثيقة التي أعقبت إسقاط البشير قوات الدعم جزءًا من المؤسسة العسكرية
وحسب أمين شؤون الرئاسة بحركة العدل والمساواة السودانية، جمال حامد، فإن قوات الدعم السريع تمتلك 60% من الانتشار العسكري السوداني، ويوضح لـ المنصة أن سياسة الاستنزاف التي ينتهجها الطرفان ترجع إلى طبيعة علاقتهما ببعضهما البعض.
يشير حامد إلى الوثيقة الدستورية الحاكمة منذ الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير، التي توضح مكونات المؤسسة العسكرية متمثلة في الجيش وقوات الدعم السريع والشرطة السودانية وجهاز المخابرات، "بالتالي فإن الطرفين المتصارعين يتداخلان في جسد واحد، ويعرفان نقاط القوة والضغط بكل منهما بشكل جيد"، يوضح حامد.
سياسة الاستنزاف
يتوقف الباحث والمحلل السياسي محمد تورشين، أمام تحركات الجيش السوداني "اعتمد منذ البداية على استراتيجية استنزاف وإضعاف خصمه"، مشيرًا إلى إدراك الجيش طبيعة قوات الدعم السريع ومرونتها. واعتماده عليها خلال فترة تحالفهما، في مواجهة الحركات المسلحة أو حركات التمرد في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان.
وأضاف تورشين لـ المنصة "عقيدة الجيش السوداني بالأساس دفاعية، منذ اليوم الأول يدافع عن مناطقه ويتحصن فيها، وحتى المناطق الأخرى التي خرج الجيش واستردها، لم يكن من خلال عناصر المشاة لكنه اعتمد على قوات العمل الخاص، التي تضم بعض الميليشيات، وكذلك قوات الحركات المسلحة التي تحالفت معه، وعمد إلى استنزاف الدعم السريع لتحقيق مكاسب مهمة على المدى البعيد".
في المقابل، فإن قوات الدعم السريع عمدت إلى استنزاف عناصر الجيش من خلال توجيه ضربات مستمرة على المعسكرات التي يسيطر عليها، بينما اتجه الجيش لحصارها وحاول إضعافها قبل الانطلاق نحو طردها، وحققت القوات نجاحها الأكبر خلال الأشهر الأولى من الحرب، حينما كان الجيش في حالة ارتباك، حسب تورشين.
حاولت قوات الدعم السريع فرض نفوذها في الخرطوم ثم دارفور والجزيرة
وأضاف تورشين "أن قوات الدعم السريع اعتمدت على حواضنها وقواتها الموجودة في بعض الولايات، وركزت على السير بخطوات متتالية وليست متوازية، وبعدما أقدمت على فرض وجودها بشكل أكبر في الخرطوم، حركت قواتها في دارفور للسيطرة على غالبية الولايات هناك، وبعد ذلك ركزت على ولاية الجزيرة بالوسط، بهدف إفقاد الجيش انتشاره في الولايات المختلفة حتى تتمكن من تفكيك قدرته على التماسك والانتشار".
تدمير مراكز الإمداد
اتهمت قوات الدعم السريع الجيش السوداني بتدمير المستودعات الرئيسة لمصفاة النفط الرئيسة في السودان المعروفة باسم "مصفاة الخرطوم/الجيلي"، بعد وقوع عدة معارك في محيط المصفاة الموجودة في منطقة الجيلي شمال الخرطوم بحري.
استهدف الجيش هذه المنطقة لأن قوات الدعم السريع تسيطر عليها منذ اندلاع الحرب وتستخدم المصفاة لتزويد قواتها بالوقود.
"يركز كلا الطرفين على ضرب مخازن التشوين والتجهيزات العسكرية، فيستخدم الجيش سلاحه الجوي، وقوات الدعم السريع بعد حصولها على المسيرات ضربت مواقع مماثلة للجيش" يوضح جمال حامد، ويشير إلى أن قدرة الطرفين على تعويض ما يخسران من أسلحة وذخائر بفعل الدعم الخارجي تقود لإطالة أمد حرب الاستنزاف بينهما.
ما زال حسم المعركة صعبًا مع استمر ار خطوط إمداد السلاح من الخارج
تشمل استراتيجيات الاستنزاف ضرب الحواضن الاجتماعية "لجأ الدعم السريع إلى ضرب القبائل العربية المعروفة بولائها إلى الجيش في دارفور، وشكل في بعض المناطق التي سيطر عليها إدارات أهلية وعمد على كسب المواطنين العاديين وتحسين صورته"، حسب حامد.
كما أن الجيش استطاع تفكيك التقارب بين الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام وبين الدعم السريع، وبدت خطوة تشكيل القوات المشتركة في دارفور بين الجيش وجيوش الحركات عاملًا مساعدًا على حدوث التحالف القائم بين الجيش وبعض الحركات.
وتظهر مسألة توازن القوى بوضوح في مدينة الفاشر ، إذ إن قوات الدعم السريع لم تستطع على مدار الأشهر الماضية اختراق المدينة التي تحاصر فيها الجيش وعدد من الحركات المتحالفة معه. في الوقت نفسه لم يتمكن الجيش من فك الحصار عليه بشكل كامل، وتقع الاشتباكات بشكل متقطع يوميًا، وبحسب حامد، فإن عملية إضعاف أي منهما للآخر تبقى صعبة طالما ظلت خطوط إمداد السلاح مفتوحة من الخارج.
وبين مواقف الطرفين، وعدم حسم الصراع عسكريًا وتوقعات بانفراط الأمر على نحو أكبر لتدخل البلاد في حرب أهلية شاملة، يبقى المدنيون هم الأكثر تضررًا، إذ تسببت الحرب في واحدة من أسوأ أزمات النزوح في العالم، حيث نزح أكثر من 8.5 مليون شخص من منازلهم، ويضطر ما يقرب من 20 ألف شخص إلى الفرار من منازلهم يوميًا، وفقًا للمنظمة الدولية للهجرة.