مع بدء العد التنازلي للانتخابات الأمريكية، ومع نهاية فترة إدارة الرئيس جو بايدن، تتأرجح سياسةُ واشنطن تجاه حرب السودان المنسية التي اندلعت قبل نحو عام ونصف العام؛ فالإدارة الديمقراطية الحالية في البيت الأبيض لا تسعى إلى انخراط كامل في الحرب، ولا إلى انسحاب تام من المشهد.
تتجه الولايات المتحدة إلى استخدام سياسة ناعمة للضغط على طرفي الصراع للجلوس إلى طاولة المفاوضات وإيجاد حلول سياسية، وفي أحيان أخرى تهدد بالتدخل الدولي، عبر ترك الباب مفتوحًا أمام استخدام الأدوات العسكرية للمنظمات الأممية متمثلة في مجلس الأمن وفق الفصل السابع أو عبر مجلس السلم والأمن الإفريقي.
إثبات الحضور بالعقوبات
بين السياستين تلجأ أمريكا إلى سلاح العقوبات بحق "مجرمي الحرب"، مثلما حدث مع القوني حمدان دقلو موسى، الأخ الأصغر لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي أدرجته واشنطن بقائمة العقوبات بعدما اتهمته بالتورط في جهود شراء أسلحة وعتاد عسكري ومساعدة قوات الدعم السريع في حصار مدينة الفاشر شمال دارفور التي يقطنها نحو مليوني مدني.
يمكن رصد التردد الأمريكي تجاه السودان في تصريحات مسؤولين رسميين مثل المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان توم بيرييلو، الذي قال خلال اجتماع مع مجموعة من الصحفيين في العاصمة الكينية نيروبي، إنه يعقد مشاورات مع الاتحاد الإفريقي بشأن إمكانية نشر قوات سلام إفريقية لحماية المدنيين.
غير أن بيرييلو عاد لنفي التصريح واعتبره مقتطعًا من سياقه، وهو الأمر الذي يؤكد استمرار حالة التردد، إذ قال إن هناك قنوات اتصال مفتوحة مع الاتحاد الإفريقي حول آلية مراقبة الاتفاقيات الحالية والمستقبلية بين طرفي الصراع.
"الولايات المتحدة تتبنى نهجًا متوازنًا يجمع بين استخدام الأدوات الدبلوماسية والعقابية لضمان الضغط على الأطراف المتصارعة لتحقيق نتائج ملموسة على الأرض" يقول المتحدث الإقليمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية ساميويل وربيرج.
يضيف لـ المنصة "نؤكد أهمية المفاوضات كسبيل لحل الأزمة السودانية، ونرى أن فرض العقوبات ضروري لردع أي أعمال عنف جديدة ومحاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان"، لافتًا إلى رؤية الولايات المتحدة التي ترتكز على أن الحل في السودان يجب أن يكون دبلوماسيًا يقوده السودانيون أنفسهم "لم نرَ أن التدخلات الخارجية كانت فعالة في الماضي، ولذلك نعتقد أن الأولويةَ يجب أن تكون لتمكين الأطراف السودانية من الحوار وبناء الثقة".
صراعات إفريقيا لا تفتح شهية أمريكا وأولوياتها المنافسة مع الصين والحرب المحتملة بين إسرائيل وإيران
الاتجاه نفسه يرجحه عميد كلية الاقتصاد والإدارة والسياسات العامة بمعهد الدوحة للدراسات العليا حامد التيجاني "الولايات المتحدة لن تتدخل مباشرة في السودان"، معتبرًا أن الإدارة الأمريكية ستظل تمارس ضغوطًا على طرفي الصراع لوقف الحرب.
تتمثل الضغوط التي يشير إليها التيجاني في استمرار سياسة فرض العقوبات والتهديد بتوسيع دائرة حظر توريد الأسلحة إلى جميع الأراضي السودانية، ولا تقتصر على إقليم دارفور كما هو الحال في الوقت الحاضر.
أولويات البيت الأبيض
يفسر التيجاني تردد الولايات المتحدة تجاه الحرب في السودان "الانغماس في وحل الصراعات الإفريقية لا يفتح الشهية للتدخل على عكس ما كان يحدث في أزمان سابقة، خصوصًا أن لديها أولويات أكبر جراء التنافس الاستراتيجي مع الصين وتطورات حرب روسيا وأوكرانيا واحتمالات اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل وإيران".
يرى التيجاني أن الإدارة الأمريكية التي شارفت على الرحيل تنظر إلى الصراعات في إفريقيا على أنها "في خلفية الأزمات الأخرى المشتعلة، وترفض إلقاء جميع أوراقها فتتحرك وفق تضرر مصالحها بشكل مباشر وقوي، ويترجم ذلك الدفع لعقد مفاوضات جنيف في أعقاب تنامي التنسيق بين الجيش السوداني وروسيا وإيران".
وفشلت محادثات توسطت فيها الولايات المتحدة في جنيف في سبتمبر/أيلول الماضي في تحقيق تقدم نحو وقف إطلاق النار، لكن نتج عنها وعود من طرفي الحرب بتحسين ظروف وصول وتوزيع المساعدات.
وأُثير الحديث عن إمكانية التدخل الأمريكي أو دعم الولايات المتحدة تدخل أطراف أخرى لحماية المدنيين حينما دعت لجنة تقصي الحقائق التي شكلها المجلس الدولي لحقوق الإنسان في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى نشر قوة "مستقلة ومحايدة" في السودان لحماية المدنيين، وأكدت في تقريرها أن طرفي النزاع ارتكبا انتهاكات مروعة جرائم دولية قد يرقى العديد منها إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
بينما يؤكد المتحدث الإقليمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية ساميويل وربيرج على أن بلاده تعمل مع شركائها في الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة لضمان التزام جميع الأطراف بالاتفاقيات السابقة، مثل إعلان جدة، "كخطوة لتحقيق الاستقرار والأمان في السودان".
ويشدد ساميويل على أهمية استمرار الجهود الدولية في تقديم الدعم الإنساني وتسهيل إيصال المساعدات، دون أي تدخل يؤجج الصراع أو يعرقل الحلول السلمية "الهدف النهائي الوصول إلى وقف شامل لإطلاق النار وبدء عملية انتقال سياسي بقيادة مدنية تحفظ حقوق جميع السودانيين".
وأدت الحرب في السودان إلى سقوط 20 ألف قتيل وفق منظمة الصحة العالمية، كما أدت الحرب إلى نزوح ولجوء أكثر من 10 ملايين شخص، أي خمس سكان السودان.
بايدن سيحرك المياه الراكدة ويدفع باتجاه المفاوضات قبل انتهاء مدته
"إدارة بادين سوف تنهي فترتها بتحريك المياه الراكدة، عبر محاولات إقناع طرفي الصراع بالتفاوض واتخاذ مزيد من الإجراءات والتدابير التي تهدف إلى إدخال المساعدات وحماية المدنيين، دون أن يصل الأمر إلى التدخل الدولي المباشر" يتوقع رئيس لجنة السياسيات بحزب الأمة القومي إمام الحلو.
ضبابية دولية وحرائق أكبر
يشير الحلو في حديثه لـ المنصة إلى أن الكثير من التعقيدات تواجه التوصل إلى توافق بشأن التدخل الدولي، سواء كان ذلك داخل مجلس الأمن أو عبر مواثيق حماية المدنيين، فضلًا عن احتمالات احتدام الصراع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط ورغبة أمريكا في توجيه القدرات العسكرية والدبلوماسية لحماية إسرائيل "وطالما لا يوجد طرف قادر على حسم الصراع لصالحه في السودان فإن الولايات لا ترى أنها تحتاج إلى الانخراط الكامل".
وتبتعد المنافسة في الانتخابات الأمريكية الحالية عن الملف السوداني، ويرى عضو هيئة محامي دارفور نصر الدين يوسف أنها لن تكون عاملًا رئيسيًا ضمن محددات التدخل الدولي في السودان "الناخب الأمريكي لا علاقة مباشرة له بما يدور في الدولة الإفريقية، والأمر يتعلق على نحو أكثر بالموقع الجيوسياسي للسودان وحدوده على ساحل البحر الأحمر في ظل الأطماع والتحركات السريعة من جانب روسيا وإيران ومؤخرًا الصين".
منافسة روسيا والصين وإيران تدفع أمريكا لعدم التخلي عن السودان
يوضح يوسف لـ المنصة الأسباب التي تدفع الولايات المتحدة للحفاظ على صلتها بهذا الملف، في مقدمتها المنافسة مع تدخلات روسيا وإيران والصين والدور الذي تحاول كل منهم لعبه في إفريقيا وفي القلب منها السودان.
تزايدت مؤخرًا وتيرة الزيارات المتبادلة بين قادة عسكريين سودانيين وروسيين لتحريك الاتفاق المجمد بشأن إقامة قاعدة عسكرية روسية على ساحل البحر الأحمر، واستعاد السودان العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وشارك رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في المنتدى الصيني الأفريقي، الشهر الماضي، ووقع خلاله اتفاقًا للتعاون الاستراتيجي بين البلدين في المجالات الدفاعية.
ومع تطور المعارك في مدينة الفاشر، يُذَكِّر يوسف بالدور الذي مارسته الولايات المتحدة خلال فترة الصراع في إقليم دارفور "لعبت دورًا رئيسيًا في تشكيل بعثة مجلس الأمن لحماية المدنيين، وضغطت باتجاه إحالة الجرائم المرتكبة للمحكمة الجنائية الدولية، كما زار وزير الخارجية الأمريكي وقتها كولن باول مخيمات النازحين في دارفور، وهي أدوار من المتوقع تكرارها في الحرب الدائرة حاليًا".
تمتلك أمريكا أدوات ضغط منها الحصار الدبلوماسي وحظر تصدير السلاح للطرفين
سبق أن سقط 300 ألف قتيل في حرب اندلعت عام 2003 في إقليم دارفور وارتكبت خلالها ميليشيات الجنجويد التي انبثقت منها قوات الدعم السريع جرائم تطهير عرقي وإبادة جماعية.
مع تأرجح موقف الولايات المتحدة وتباين موقفها حاليًا عن سياساتها في الصراعات السابقة، ما زال التيجاني يعول على دور الولايات المتحدة لإنهاء الحرب "يمكن أن يكون انخراط الولايات المتحدة كاملًا إذا قامت بضغوطات حقيقية وعدم الاكتفاء بسلاح العقوبات غير المجدي على أطراف الصراع".
يلفت إلى إمكانية "فرض حصار دبلوماسي، مثلما كان الوضع في عهد البشير، ودعم اتخاذ قرارات أممية تحظر تصدير السلاح إلى الطرفين، وممارسة ضغوط على الأطراف العربية والإقليمية لوقف إمداد قوات الجيش والدعم السريع بالسلاح".
يشتعل الشرق الأوسط وتتصاعد احتمالات تصعيد إسرائيلي ضد إيران، وتكثف الدول جهودها للتهدئة في المنطقة أو تأييد اشتداد رد الفعل الإسرائيلي، بينما يبقى السودان وحربه المنسية بلا أفق لنهاية قريبة.